Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 44-44)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفيه مسائل : المسألة الأولى : { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما تقدم ، والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيـى وعيسى بن مريم ، إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي . فإن قيل : لم نفيت هذه المشاهدة ، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة ، وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم ؟ . قلنا : كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة ، وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة ، وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ، ونظيره { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ } [ القصص : 44 ] ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ ٱلطُّورِ } [ القصص : 46 ] { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم } [ يوسف : 102 ] { وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا } [ هود : 49 ] . المسألة الثانية : الأنباء : الإخبار عما غاب عنك ، وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة ، يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما ، وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى : { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [ النحل : 68 ] وقال في الشياطين { لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً . أما قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً الأول : المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى ، وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني : أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم ، هذا قول الربيع والثالث : قال أبو مسلم : معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وقد قال الله تعالى : { فَسَـٰهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور ، وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى ، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً . قال القاضي : وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق ، إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به ، فوجب حمل لفظ القلم عليه . المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب ، وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء ، إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ، ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام ، فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم . المسألة الثالثة : اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة ، فقال بعضهم : إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم ، فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها ، وقال بعضهم : إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ، ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها ، وقال آخرون : بل لأن في الكتب الإلٰهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا . المسألة الرابعة : اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا ؟ فمنهم من قال : كانوا هم خدمة البيت ، ومنهم من قال : بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ، ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق . أما قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ففيه حذف والتقدير : يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً . أما قوله { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ، ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع ، وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها ، والقيام بإصلاح مهماتها ، وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت { فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ آل عمران : 35 ] وقالت { إِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } [ آل عمران : 36 ] .