Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 102-103)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أعلم أنه تعالى لما بيّـن في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد ، بيّـن في هذه الآية حالها في الكيفية ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال أبو يوسف والحسن بن زياد : صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجوز لغيره ، وقال المزني : كانت ثابتة ثم نسخت . واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين : الأول : أن قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ } ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، لأن كلمة « إذا » تفيد الاشتراط الثاني : أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل ، إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول صلى الله عليه وسلم لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه ، وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل ، لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول ، فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة ، وأما سائر الفقهاء فقالوا : لما ثبت هذا الحكم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى : { وَٱتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ألا ترى أن قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ } [ التوبة : 103 ] لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً به دون غيره من الأمة بعده ، وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة ، لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض ، فاندفع هذا الكلام ، والله أعلم . المسألة الثانية : شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون ؟ فيه أقوال : الأول : أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم ، وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان ، وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد . الثاني : أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين ، وهذا قول الحسن البصري . الثالث : أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ، ثم يبقى الإمام قائماً في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ، ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائماً في الركعة الثانية ركعة ، ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ، ثم يسلم الإمام بهم ، وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي . الرابع : أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة ، والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة ، وهم في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة ، والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته ، وهذا قول عبد الله بن مسعود ، ومذهب أبي حنيفة . وأعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة ، فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام ، أما الواحدي رحمه الله فقال : الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة ، وبين ذلك من وجهين : الأول : أنه تعالى قال : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ } وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت عند إتيان الثانية ، وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك ، لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها . الثاني : أن قوله { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك : صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك ، وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا : الآية مطابقة لقولنا ، لأنه تعالى قال : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } وهذا يدل عى أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ، ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة ، وأجاب الواحدي عنه فقال : هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، وليس الأمر كذلك ، بل هو لطائفتين السجود للأولى ، والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم . ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول : قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم { فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلْتَقُمْ طائفة منهم معك } والمعنى فاجعلهم طائفتين ، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم ، والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم ، فإن كان للمصلين فقالوا : يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ، وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم ، وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه . ويحتمل أن يكون ذلك أمراً للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط . ثم قال : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ } يعني غير المصلين { مِن وَرَائِكُمْ } يحرسونكم ، وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن ، إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه ، وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها . ثم قال : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي . ثم قال : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي ، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين . قال الواحدي رحمه الله : وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة . فإن قيل : لم ذكر في الآية الأولى { أَسْلِحَتَهُمْ } فقط ، وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم . قلنا : لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة ، بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة ، فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } . ثم قال تعالى : { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وٰحِدَةً } أي بالقتال . عن ابي عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه الظهر ، ورأى المشركون ذلك ، فقالوا بعد ذلك : بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم ، وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى ، فأطلع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على أسرارهم بهذه الآية . ثم قال تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته ، أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطناً فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء ، أو لأجل أن الرجل كان مريضاً فيشق عليه حمل السلاح ، فههنا له أن يضع حمل السلاح . ثم قال : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالتيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر ، لئلا يجترىء العدو عليهم احتيالاً في الميل عليهم واستغناماً منهم لوضع المسلمين أسلحتهم ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : أن قوله في أول الآية { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فيقتضي أن يكون أخذ السلاح واجباً ثم تأكد هذا بدليل آخر ، وهو أنه قال : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } فخص رفع الجناح في وضع السلاح بهاتين الحالتين ، وذلك يوجب أن فيما وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلاً بسبب وضع السلاح . ومنهم من قال : إنه سنة مؤكدة ، والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحاً نجساً إن أمكنه ، ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف ، وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد . المسألة الثانية : قال أبو على الجرجاني صاحب النظم : قوله تعالى : { وخذوا حذركم } يدل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو . والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر ، لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة ، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم ، فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدو ، وطائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة ، وأما حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين ، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة ، والمسلمون كانوا مستقبلين لها ، فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود ، فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم ، فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني ، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على جواز هذه الوجوه والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز ، والله أعلم . المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : إن الله تعالى أمر بالحذر ، وذلك يدل على كون العبد قادراً على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر ، وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى ، وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي ، والله أعلم . المسألة الرابعة : دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو ، فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجباً والله أعلم . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } وفيه سؤال ، أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـٰفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } وجوابه : أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم ، فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة ، وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين ، فحينئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ، ونظيره قوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الأنفال : 45 ] . ثم قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } وفيه قولان : الأول : فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه ، الثاني : أن المراد بالذكر الصلاة ، يعني صلوا قياماً حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة ، وقعوداً حال اشتغالكم بالرمي ، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض ، فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة ، فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة . هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها ، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالاً ، وهو أن يصير تقدير الآية : فإذا قضيتم الصلاة فصلوا ، وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة . ثم قال تعالى : { فَإِذَا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين : أولهما : بيان القصر وهو صلاة السفر ، والثاني : صلاة الخوف ، ثم إن قوله { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } يحتمل نقيض الأمرين ، فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافراً بل يصير مقيماً ، وعلى هذا التقدير يكون المراد : فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر ألبتة ، ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب ، بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف ، وعلى هذا التقدير يكون المراد : فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها ، ولا تغيروا شيئاً من أحوالها وهيآتها ، ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر ، ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي فرضاً موقتاً ، والمراد بالكتاب هـٰهنا المكتوب كأنه قيل : مكتوبة موقوتة ، ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعول والمصدر مذكر ، ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة ، يقال : وقته ووقته مخففاً ، وقريء { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ وقتت } [ المرسلات : 11 ] بالتخفيف . واعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدّر بأوقات مخصوصة ، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات ، وهي خمسة : أحدها : قوله تعالى { حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [ البقرة : 238 ] فقوله { ٱلصَّلَوٰتِ } يدل على وجوب صلوات ثلاثة ، وقوله { والصلاة الوسطى } يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار ، فلا بدّ وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة ، وإلا لم يحصل فيها وسطى ، فلا بدّ من جعلها خمسة لتحصل الوسطى ، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر ، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة ، فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلّت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها . وثانيها : قوله تعالى : { أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ } [ الإسراء : 78 ] فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر ، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح ، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتاً واحداً وللمغرب والعشاء وقتاً واحداً . وثالثها : قوله سبحانه { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح ، ثم قال { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 18 ] فقوله { وَعَشِيّاً } المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء ، وقوله { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } المراد الصلاة الواقعة في محض النهار ، وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله { حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فكذلك قدم في قوله { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية ، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله { وَٱلْعَصْرِ } تشريفاً لها بالإفراد بالذكر . ورابعها : قوله تعالى : { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] فقوله { طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ } يفيد وجوب صلاة الصبح ووجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين ، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني . وقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } يفيد وجوب المغرب والعشاء ، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال : لأن الزلف جمع ، وأقله ثلاثة ، فلا بدّ وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملاً بقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } وخامسها : قوله تعالى { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ فَسَبّحْ } فقوله { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] إشارة إلى الصبح والعصر ، وهو كقوله { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] وقوله { وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ } إشارة إلى المغرب والعشاء ، وهو كقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } وكما احتجوا بقوله { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } فكذلك احتجوا عليه بقوله { وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ } لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة ، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس . واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظراً إلى المعقول ، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة : أولها : مرتبة الحدوث والدخول في الوجود ، وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة ، وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء . والمرتبة الثانية : مدة الوقوف ، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب . والمرتبة الثالثة : مدة الكهولة ، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك ، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة . المرتبة الخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدة ، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنساناً أو غيره من الحيوانات أو النباتات ، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس ، وذلك لأنها حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء ، فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر ، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ، ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم ، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة ، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكراً للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور ، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة ، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيماً للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد ، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة ، وهو النقصان الخفي ، ثم لما انقضت مدة الكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر . ونعم ما قال الشافعي رحمه الله : أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه ، وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ، ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه ، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلاً له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان ، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر ، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء ، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية ، والله أعلم بأسرار أفعاله .