Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 114-114)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وأعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : النجوى في اللغة سر بين إثنين ، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته ، والنجوى قد تكون مصدراً بمنزلة المناجاة ، قال تعالى { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون ، قال تعالى { وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [ الإسراء : 47 ] . المسألة الثانية : قوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } ذكر النحويون في محل { مِنْ } وجوهاً ، وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية ، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصباً كقوله { إِلاَّ أَذًى } [ آل عمران : 111 ] ويجوز أن يكون رفعاً في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله : @ إلا اليعافير وإلا العيس @@ وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال : التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف ، وعلى هذا التقدي يكون { مِنْ } في محل النجوى لأنه أقيم مقامه ، ويجوز فيه وجهان : إحدهما : الخفض بدل من نجواهم ، كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد . والثاني : النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيداً ، وهذا استثناء الجنس من الجنس ، وأما ان جعلنا النجوى اسماً للقوم المتناجين كان منصوباً على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس ، ويجوز أن يكون { مِنْ } في محل الخفض من وجهين : أحدهما : أن تجلعه تبعاً لكثير ، على معنى : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة ، كقولك : لا خير في القوم إلا نفر منهم . والثاني : أن تجعله تبعاً للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد ، إن شئت أتبعت زيداً الجماعة ، وإن شئت أتبعته القوم ، والله أعلم . المسألة الثالثة : هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والاصلاح بين الناس ، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله { أَوْ مَعْرُوفٍ } وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله { أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام : " " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله " " وقيل لسفيان الثوري : ما أشد هذا الحديث ! فقال سفيان : ألم تسمع الله يقول { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } فهو هذا بعينه ، أما مسعت الله يقول { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 ، 2 ] فهو هذا بعينه . ثم قال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتَغَاء مَرْضَاتَ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ولطلب مرضاته ، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة ، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [ البينه : 5 ] وقوله { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [ النجم : 39 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : " " إنما الأعمال بالنيات " " وهٰهنا سؤالان : السؤال الأول : لم انتصب { ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ } ؟ والجواب : لأنه مفعول له ، والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله . السؤال الثاني : كيف قال { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ } ثم قال { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } . والجواب : أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضاً فعل من الأفعال .