Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 46-46)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور : أحدها : أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : في متعلق قوله : { مِنَ ٱلَّذِينَ } وجوه : الأول : أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، والتقدير : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا ، والثاني : أن يتعلق بقوله : { نَصِيراً } والتقدير : وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا ، وهو كقوله : { وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } [ الأنبياء : 77 ] الثالث : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، و { يُحَرّفُونَ } صفته . تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه . الرابع : أنه تعالى لما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } [ النساء : 44 ] بقي ذلك مجملا من وجهين ، فكأنه قيل : ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ؟ فأجيب وقيل : من الذين هادوا ، ثم قيل : وكيف يشترون الضلالة ؟ فأجيب وقيل : يحرفون الكلم . المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الجمع مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : يحرفون الكلم عن مواضعها . والجواب : قال الواحدي : هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره ، ويمكن أن يقال : كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً ، بل هو أمر لفظي ، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرىء ، يحرفون الكلم . المسألة الثالثة : في كيفية التحريف وجوه : أحدها : أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم « ربعة » عن موضعه في التوراة بوضعهم « آدم طويل » مكانه ، ونحو تحريفهم « الرجم » بوضعهم « الحد » بدله ونظيره قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 79 ] . فإن قيل : كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب ؟ قلنا لعله يقال : القوم كانوا قليلين ، والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف ، والثاني : أن المراد بالتحريف : إلقاء الشبه الباطلة ، والتأويلات الفاسدة ، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم ، وهذا هو الأصح . الثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به ، فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه . المسألة الرابعة : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مَّوٰضِعِهِ } وفي المائدة { مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة ، فههنا قوله : { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } معناه : أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، فههنا قوله : { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوٰضِعِهِ } معناه : أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب . وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة ، وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب ، فقوله : { يُحَرّفُونَ ٱلْكَلِمَ } إشارة إلى التأويل الباطل وقوله : { مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ } إشارة إلى إخراجه عن الكتاب . النوع الثاني : من ضلالاتهم : ما ذكره الله تعالى بقوله : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وفيه وجهان : الأول : أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر : سمعنا ، وقالوا في أنفسهم : وعصينا والثاني : أنهم كانوا يظهرون قولهم : سمعنا وعصينا ، إظهاراً للمخالفة ، واستحقاراً للأمر . النوع الثالث : من ضلالتهم قوله : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } . واعلم أن هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم ، ويحتمل الاهانة والشتم . أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها ، وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه : الأول : أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع ، ويقولون في أنفسهم : لا سمعت ، فقوله : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } معناه : غير سامع ، فإن السامع مسمع ، والمسمع سامع . الثاني : غير مسمع ، أي غير مقبول منك ، ولا تجاب إلى ما تدعو اليه ، ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك ، فكأنك ما أسمعت شيئا . الثالث : اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ، ومتى كان كذلك فإن الإنسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح ، فكانوا يذكرونها لغرض الشتم . النوع الرابع : من ضلالاتهم قولهم : { وَرٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى ٱلدّينِ } أما تفسير { رٰعِنَا } فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه : الأول : أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية ، فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم . الثاني : قوله : { رٰعِنَا } معناه ارعنا سمعك ، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم ، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام ، بل إنما يخاطبون بالإجلال والتعظيم . الثالث : كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك ، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم . الرابع : أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم : { رٰعِنَا } راعينا ، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا ، وقوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } قال الواحدي : أصل لياً لويا ، لأنه من لويت ، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون ، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه : الأول : قال الفراء كانوا يقولون : راعنا ويريدون به الشتم ، فذاك هو اللي ، وكذلك قولهم : { غير مسمع } وأرادوا به لا سمعت ، فهذا هو اللي . الثاني : انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق . الثالث : لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية ، كما جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الأفعال ، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين ، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم : إنما نشتمه ولا يعرف ، ولو كان نبيا لعرف ذلك ، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم ، فانقلب ما فعلوه طعنا في نبوته دلالة قاطعة على نبوته ، لأن الإخبار عن الغيب معجز . فان قيل : كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا ، وقالوا سمعنا وعصينا ؟ والجواب من وجهين : الأول : أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال : إنهم ما كانوا يظهرون قولهم : { وَعَصَيْنَا } بل كانوا يقولونه فى أنفسهم . والثاني : هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ، ولا يواجهونه بالسب والشتم . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم : سمعنا وعصينا ، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولإظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات ، وبدل قولهم : { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قولهم واسمع ، وبدل قولهم : { رٰعِنَا } قولهم : { ٱنظُرْنَا } أي اسمع منا ما نقول ، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم ، أي أعدل وأصوب ، ومنه يقال : رمح قويم أي مستقيم وقومت الشيء من عوج فتقوم . ثم قال : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم . ثم قال : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } وفيه قولان : أحدهما : أن القليل صفة للقوم ، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون . ثم منهم من قال : كان ذلك القليل عبدالله بن سلام وأصحابه ، وقيل : هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك . والقول الثاني : أن القليل صفة للإيمان ، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول ، قال : لأن « قليلا » لفظ مفرد ، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله : { إِنَّ هَـٰؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا ، والمراد به الجمع قال تعالى : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] وقال : { وَلاَ يَسْـئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 ، 11 ] فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة .