Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 83-83)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة ، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه ، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه : الأول : أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير . والثاني : أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة ، فاذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام ، لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول ، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه . الوجه الثالث : وهو أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام ، وذلك سبب لظهور الأسرار ، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة . الرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار ، وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه ، فكل ما كان آمناً لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني ، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار ، فأخذوا في التحصن من المسلمين ، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم ، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك ، وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين ، فظهر من هذا أن ذلك الارجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه ، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الاذاعة وذلك التشهير ، ومنعهم منه . واعلم أن قوله : أذاع به لغتان . ثم قال تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . وفيه مسائل : المسألة الأولى : في { أُوْلِى ٱلأَمْرِ } قولان : أحدهما : إلى ذوي العلم والرأي منهم . والثاني : إلى أمراء السرايا ، وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول ، قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس ، وأهل العلم ليسوا كذلك ، إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمراً على الناس . وأجيب عنه : بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه ، وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه ، والذي يدل عليه قوله تعالى : { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] فأوجب الحذر بانذراهم وألزم المنذرين قبول قولهم ، فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم . المسألة الثانية : الاستنباط في اللغة الاستخراج يقال : استنبط الفقيه اذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه ، وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض . المسألة الثالثة : في قوله : { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قولان : الأول : أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم ، أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر . القول الثاني : أنهم طائفة من أولي الأمر ، والتقدير : ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر ، وذلك لأن أولي الأمر فريقان ، بعضهم من يكون مستنبطا ، وبعضهم من لا يكون كذلك ، فقوله : { مِنْهُمْ } يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر . فان قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون ، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله : { وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ } . قلنا : إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر ، لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } [ النساء : 72 ] وقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] والله أعلم . المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع ، وذلك لأن قوله : { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } صفة لأولي الأمر ، وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ، ولا يخلو إما أن يرجعوا اليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها ، أولا مع حصول النص فيها ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال : إنه استنبط الحكم ، فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ، ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك ، فثبت أن الاستنباط حجة ، والقياس إما استنباط أو داخل فيه ، فوجب أن يكون حجة . إذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على أمور : أحدها : أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط . وثانيها : أن الاستنباط حجة : وثالثها : أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث . ورابعها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر . ثم قال تعالى : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط . فان قيل : لا نسلم أن المراد بقوله : { ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } هم أولوا الأمر ، بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية ، سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد ، فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها ، فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية ؟ فإن قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز ، سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية . فلم قلتم : إنه يلزم أن يكون القياس حجة ؟ بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص ، أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الاصلية ، أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الاكثرون : إن الاصل في المنافع الاباحة ، وفي المضار الحرمة ، سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية ، لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيداً للعلم بدليل قوله تعالى : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فاخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط ، ولا نزاع في مثل هذا القياس ، انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا ؟ والجواب : أما في السؤال الأول : فمدفوع لأنه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه ، لأن عطف المظهر على المضمر ، وهو قوله : { وَلَوْ رَدُّوهُ } قبيح مستكره . وأما السؤال الثاني : فمدفوع لوجهين : الأول : أن قوله : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ } عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية ، لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف ، فثبت أنه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بأمر الحروب . الثاني : هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي ، ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق ، ألا ترى أن من قال : القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت اليه ، فكذا ههنا . وأما السؤال الثالث : وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه : أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا ، والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا . قوله : لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الاصلية ؟ قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يسمى استنباطا ألبتة . وأما السؤال الرابع : وهو قوله إن هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم ، والقياس الشرعي لا يفيد العلم . قلنا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم ، وذلك لأن بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الاصل معلل بكذا ، ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع ، فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الاصل ، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن ، فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم ، وأما الحكم فمقطوع به ، وهو يجري مجرى ما إذا قال الله : مهما غلب على ظنك كذا فاعلم ان في الواقعة الفلانية حكمي كذا فإذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم . والثاني : وهوأن العلم قد يطلق ويراد به الظن ، قال عليه الصلاة والسلام : " " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " " شرط العلم في جواز الشهادة ، وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة ، فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم . ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : أن ظاهر هذا الاستنثاء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم أن ذلك محال . فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها ، قال بعضهم : هذا الاستثناء راجع إلى قوله : { أَذَاعُواْ } وقال قوم : راجع إلى قوله : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } وقال آخرون : إنه راجع إلى قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } . واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة ، ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها ، فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل . أما القول الأول : فالتقدير : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ، فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الاذاعة كما أخرجهم في قوله : { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ ٱلَّذِى تَقُولُ } [ النساء : 81 ] والقول الثاني : الاستنثاء عائد إلى قوله : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل : قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه ، والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك . قال الزجاج : هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض ، إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ، إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال : كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والاراجيف ، أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد . القول الثالث : أنه متعلق بقوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه . واعلم أن هذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص ، وفيه وجهان : الأول : وهو قول جماعة من المفسرين ، أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، والتقدير : ولولا بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله الا قليلا منكم ، فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان ، وما كان يكفر بالله ، وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . الوجه الثاني : ما ذكره أبو مسلم ، وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم : { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] فبين تعالى أنه لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا القليل منكم ، وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا ، فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ، ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا ، بل الامر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق . المسألة الثانية : دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم الله فضله ورحمته ، والا ما كان يتبع ، وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله رعاية الاصلح في الدين . أجاب الكعبي عنه بأن فضل الله ورحمته عامان في حق الكل ، لكن المؤمنين انتفعوا به ، والكافرين لم ينتفعوا به ، فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من الله فضل ورحمة في الدين . والجواب : أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الاصل .