Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 45-50)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق ، وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين ، وقوله تعالى : { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } يدل على أنه لما صرّح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء ، قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه ، وقيل المراد بقوله { فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك { وَحَاقَ بِـئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء ٱلْعَذَابِ } لا يليق إلا بالوجه الأول ، وقوله تعالى : { وَحَاقَ بِـئَالِ فِرْعَوْنَ } أي أحاط بهم { سُوء ٱلْعَذَابِ } أي غرقوا في البحر ، وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } قال الزجاج { ٱلنَّارِ } بدل من قوله { سُوء ٱلْعَذَابِ } قال : وجائز أيضاً أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير { سُوء ٱلْعَذَابِ } كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب ؟ فقيل : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } . قرأ حمزة { حاق } بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح أما قوله { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ففيه مسائل : المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشياً ، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا لأن عرض النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا ، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة ، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء ، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق ، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض النصائح عليهم في الدنيا ؟ لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار ، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين : الأول : أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع ، وقوله { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين ، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني : أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدينا ، أما في القبر فلا وجود لهما ، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب : عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار ، لا أنه يعرض عليهم نفس النار ، فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم ، وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز ، أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز ، قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ، ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك ، وأيضاً لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية ، قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب ؟ والله أعلم . المسألة الثانية : قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم { أدخلوا آل فرعون } أي يقال لخزنة جهنم : أدخلوهم في أشد العذاب ، والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار : أدخلوا أشد العذاب ، والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة ، واحتج عليها بقوله تعالى : { يُعْرَضُونَ } فهذا يفعل بهم فكذلك { أَدْخِلُواْ } وأما وجه القراءة الثانية فقوله { ٱدْخُلُواْ أَبْوٰبَ جَهَنَّمَ } ، وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون . واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار ، لا جرم ذكر الله عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى ٱلنَّـارِ } والمعنى اذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضاً ، ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } في الدنيا ، قال صاحب « الكشاف » تبعاً كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفاً بالمصدر { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ ٱلنَّارِ } أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيباً من العذاب ، واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف ، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم ، لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء { إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } يعني أن كلنا واقعون في هذا العذاب ، فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي ، ثم يقولون { إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ } يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب ، ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ ٱلْعَذَابِ } فإن قيل لم لم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها بل قال : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِى ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } ؟ قلنا فيه وجهان الأول : أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني : أن يكون جهنم اسماً لموضع هو أبعد النار قعراً ، من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر ، وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة ، فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم ، فأولئك الملائكة يقولون لهم { أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ } والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه { مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع ، ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترىء على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين أحدهما : كون المشفوع له مؤمناً والثاني : حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم ، وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ، ولكن للدلالة على الخيبة ، فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار ، ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون { وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } فإن قيل إن الحاجة على الله محال ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم ، وإذا كان التأذي محالاً عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه ، إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد ، فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين ، من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم ، ولو أن أقصى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة ، فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار ؟ قلنا أفعال الله لا تعلل و { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به ، والله أعلم بالصواب .