Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 51-55)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول : أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه والثاني : لما بين من قبل ما يقع بين أهل النار من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ } [ غافر : 50 ] أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة والثالث : وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله { مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ } [ غافر : 4 ] وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين ، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيراً له على تحمل أذى قومه . ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } الآية ، أما في الدنيا فهو المراد بقوله { في الحياة الدنيا } ، وأما في الآخرة فهو المراد بقوله { وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ } فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل ، وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة . واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه أحدها : النصرة بالحجة ، وقد سمى الله الحجة سلطاناً في غير موضع ، وهذه النصرة عامة للمحقين أجمع ، ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطاناً لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل ، وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور ، أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها وثانيها : أنهم منصورون بالمدح والتعظيم ، فإن الظلمة وإن قهروا شخصاً من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس وثالثها : أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين ، فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة السمٰوات إلى أخس الأشياء ورابعها : أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين ، ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمراً وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق وخامسها : أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سبباً لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته وسادسها : أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر . وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمحنهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدينا وسابعها : أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم ، كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفاً ، وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله ، كما قال : { فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] . واعلم أن في قوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } إلى قوله { وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ } دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا إِلَىٰ وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ } المقصود منه هذه الدقيقة ، واختلفوا في المراد بالأشهاد ، والظاهر أن المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن ، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا ، وأما الأنبياء فقال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقال تعالى : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهداً كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب ، ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيداً كأشراف وشريف وأيتام ويتيم . ثم قال تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء لتأنيث المعذرة والباقون بالياء كأنه أريد الاعتذار . واعلم أن المقصود أيضاً من هذا شرح تعظيم ثواب أهل الثواب ، وذلك لأنه تعالى بيّن أنه ينصرهم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون ، فحالهم في علو الدرجات في ذلك اليوم ما ذكرناه وأما حال أعدائهم فهو أنه حصلت لهم أمور ثلاثة أحدها : أنه لا ينفعهم شيء من المعاذير ألبتة وثانيها : أن { لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ } وهذا يفيد الحصر يعني اللعنة مقصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال وثالثها : سوء الدار وهو العقاب الشديد فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثلاثة من الوحشة والبلية ، ثم إنه خص الأنبياء والأولياء بأنواع التشريفات الواقعة في الجمع الأعظم فهنا يظهر أن سرور المؤمن كم يكون ، وأن غموم الكافرين إلى أين تبلغ . فإن قيل قوله { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } يدل على أنهم يذكرون الأعذار إلا أن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] قلنا قوله { لاَّ تَنفَعُ ٱلظَّـٰلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار ، بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول نافع ، وهذا القدر لا يدل على أنهم ذكروه أم لا . وأيضاً فيقال يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر ، ولما بين الله تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ } ويجوز أن يكون المراد من الهدى ما آتاه الله من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، ويجوز أن يكون المراد تلك الدلائل القاهرة التي أوردها على فرعون وأتباعه وكادهم بها ، ويجوز أن يكون المراد هو النبوّة التي هي أعظم المناصب الإنسانية ، ويجوز أن يكون المراد إنزال التوراة عليه . ثم قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِى ٱلأَلْبَـٰبِ } يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العلم فيهم وتوارثوه خلفاً عن سلف ، ويجوز أن يكون المراد سائر الكتب التي أنزلها الله عليهم وهي كتب أنبياء بني إسرائيل التوراة والزبور والإنجيل ، والفرق بين الهدى والذكرى وأن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار منسياً ، وأما الذكرى فهي الذي يكون كذلك فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلٰهية المتقدمة . ولما بيّن أن الله تعالى ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى وخاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } فالله ناصرك كما نصرهم ومنجز وعده في حقك كما كان كذلك في حقهم ، ثم أمره بأن يقبل على طاعة الله النافعة في الدنيا والآخرة فإن من كان لله كان الله له . واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي ، والاشتغال بما ينبغي ، والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدماً عليه في الذكر ، أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل ، أو على ما كان قد صدر عنهم قبل النبوة ، وقيل أيضاً المقصود منه محض التعبد كما في قوله { رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ } [ آل عمران : 194 ] فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه ، وكقوله { رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ } [ الأنبياء : 112 ] من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق ، وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك ، وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإِبْكَارِ } والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به ، والعشي والإبكار ، قيل صلاة العصر وصلاة الفجر ، وقيل الإبكار ، عبارة عن أول النهار إلى النصف ، والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار ، فيدخل فيه كل الأوقات ، وقيل المراد طرفا النهار ، كما قال : { وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ } [ هود : 114 ] وبالجملة فالمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله ، وأن لا يفتر اللسان عنه ، وأن لا يغفل القلب عنه ، حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلاً في زمرة الملائكة ، كما قال في وصفهم { يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] ، والله أعلم .