Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 56-59)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدىء رداً على الذين يجادلون في آيات الله ، واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه ، والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى نبّه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ } إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل ، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك ، لأن النبوّة تحتها كل ملك ورياسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك ، فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة . ثم قال تعالى : { مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ } يعني أنهم يريدون أن يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد ، بل لا بدّ وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك ، ثم قال : { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ } بما يقولون ، أو تقول { ٱلبَصِيرُ } بما تعمل ويعملون ، فهو يجعلك نافذ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم . واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً ، فقال { لَخَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة ، وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها : أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها : أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله ، فهذا استدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها : أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى ، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل ألبتة ، ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السمٰوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى ، ويعلمون بالضرورة أن خلق السمٰوات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السمٰوات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً ، فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب ، ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس ، والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر ، فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة ، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب ، ولما بيّن الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون ، وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون ، نبّه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال : { وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ، ثم قال : { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَلاَ ٱلْمُسِىء } فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل ، والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة ، ثم قال : { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } يعني أنهم وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد ، إلا أنه قليلاً ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل ، والنوع المعين من العمل أنه عمل صالح أو فاسد ، فإن الحسد يعمي قلوبهم ، فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة ، وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة ، فهذا هو المراد من قوله { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } قرأ عاصم وحمزة والكسائي { تَتَذَكَّرُونَ } بالتاء على الخطاب ، أي قل لهم قليلاً ما تتذكرون ، والباقون بالياء على الغيبة . ولما قرر الدليل الدال على إمكان وجود يوم القيامة ، أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال : { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لأَتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة .