Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 82-85)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا لطيفاً في آخر هذه السورة ، وذلك أنه ذكر فصلاً في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ، ثم أردفه بفصل التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد ، والمقصود أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا ، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه ، فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا ، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة ، لأن الدنيا فانية ذاهبة ، واحتج عليه بقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين ، ليست إلا الهلاك والبوار ، مع أنهم كانوا أكثر عدداً ومالاً وجاهاً من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار ، والحسرة والبوار ، فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين ، أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عدداً فإنما يعرف في الأخبار ، وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثاراً في الأرض ، فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم ، مثل الأهرام الموجودة بمصر ، ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ، ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً . ثم قال تعالى : { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ما في قوله { فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ } نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب ، وما في قوله { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم . ثم بيّن تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم ، واعلم أن الضمير في قوله { فَرِحُواْ } يحتمل أن يكون عائداً إلى الكفار ، وأن يكون عائداً إلى الرسل ، أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان ؟ وفيه وجوه الأول : أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم ، وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [ الجاثية : 24 ] وقولهم { لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وقولهم { مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] ، { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] ، الثاني : يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة ، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم ، وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا الثالث : يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلأَخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ } [ الروم : 7 ] ، { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ } [ النجم : 30 ] فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة المعاد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به . أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان الأول : أن يجعل الفرح للرسل ، ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلاً كاملاً ، وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم ، فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم الثاني : أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال استهزؤا بالبينات ، وبما جاؤا به من علم الوحي فرحين ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } . ثم قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] فإن قيل أي فرق بين قوله { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ } وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم ؟ قلنا هو مثل كان في نحو قوله { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم ، فإن قيل اذكروا ضابطاً في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه ، قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب ، لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه ، حتى يكون المرء مختاراً ، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا . ثم قال تعالى : { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } والمعنى أن عدم قبول الإيمان حال اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم . ثم قال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } فقوله { هُنَالِكَ } مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس ، والله الهادي للصواب .