Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 106-106)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } . اعلم أنه تعالى : لما أمر بحفظ النفس في قوله { عليكم أنفسكم } [ المائدة : 105 ] أمر بحفظ المال في قوله { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية أن تميماً الداري وأخاه عدياً كانا نصرانيين خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلماً مهاجراً ، خرجوا للتجارة فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتاباً فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشاً بالذهب ثلثمائة مثقال ، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، ففتشوا فوجدوا الصحيفة ، وفيها ذكر الإناء ، فقالوا لتميم وعدي : أين الإناء ؟ فقالا لا ندري ، والذي رفع إلينا دفعناه إليكم ، فرفعوا الواقعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية . المسألة الثانية : قوله { شهادة بينكم } يعني شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر ، وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع ، وحذف ما من قوله { شهادة بينكم } جائز لظهوره ، ونظيره قوله { هذا فراق بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] أي ما بيني وبينك ، وقوله { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] وفي قراءة نصب ، وقوله { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت ، وحين الوصية بدل من قوله { إذا حضر أحدكم } لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية ، فعرف ذلك الزمان بهذين الأمرين الواقعين فيه ، كما يقال : ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر ، والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه ، كقوله { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } [ البقرة : 180 ] قالوا وقوله { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } دليل على وجوب الوصية ، لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية ، وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين ، وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية . ثم قال تعالى : { اثنان ذوا عدل منكم } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : في الآية حذف ، والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم ، وتقدير الآية : شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف ، هي أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم ، وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوماً . المسألة الثانية : اختلف المفسرون في قوله { منكم } على قولين : الأول : وهو قول عامة المفسرين أن المراد : اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين ، أي من أهل دينكم وملتكم ، وقوله { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر ، فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر ، وهذا قول ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج . قالوا : إذا كان الإنسان في الغربة ، ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته ، جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة ، ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة قال الشعبي رحمه الله : مرض رجل من المسلمين في الغربة ، فلم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري ، وكان والياً عليها فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته . فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد لذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر ، بالله أنهما ما كذبا ولا بدلا وأجاز شهادتهما ، ثم إن القائلين بهذا القول ، منهم من قال هذا الحكم بقي محكماً ومنهم من قال صار منسوخاً . القول الثاني : وهو قول الحسن والزهري وجمهور الفقهاء : أن قوله { ذوا عدو منكم } أي من أقاربكم وقوله { أو آخران من غيركم } أي من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض أي إن توقع الموت في السفر ، ولم يكن معكم أحد من أقاربكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية . وجعل الأقارب أولاً لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق ، وبورثته أرحم وأرأف ، واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه . الحجة الأولى : أنه تعالى قال في أول الآية { يا أيها الذين آمنوا } فعم بهذا الخطاب جميع المؤمنين ، فلما قال بعده { أو آخران من غيركم } كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة . الحجة الثانية : أنه قال تعالى : { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } وهذ يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر ، فلو كان هذان الشاهدان مسلمين لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر ، لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر . الحجة الثالثة : الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة ، وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف ، فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين . الحجة الرابعة : أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصرانيين على بديل وكان مسلماً . الحجة الخامسة : ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما ، وما أنكر عليه أحد من الصحابة ، فكان ذلك إجماعاً . الحجة السادسة : أنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحداً من المسلمين ، والضرورات قد تبيح المحظورات ، ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة ، والافطار في رمضان ، وأكل الميتة في حال الضرورة ، والضرورة حاصلة في هذه المسألة ، لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلماً يشهده على نفسه ، ولم تكن شهادة الكفار مقبولة فإنه يضيع أكثر مهماته ، فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها . وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته ، وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء ، كالحيض والحبل والولادة والاستهلال لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الأحوال ، فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة ، فكذا ههنا . وأما قول من يقول : بأن هذا الحكم صار منسوخاً فبعيد ، لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن ، وليس فيها منسوخ ، واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والكافر لا يكون عدلاً . أجاب الأولون عنه : لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلاً في الاحتراز عن الكذب ، لا من كان عدلاً في الدين والاعتقاد ، والدليل عليه : أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع ، مع أنهم ليسوا عدولاً في مذاهبهم ، ولكنهم لما كانوا عدولاً في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم ، فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل ، إلا أن قوله { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] عام ، وقوله في هذه الآية { إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر ، واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر ، فهذه الآية خاصة ، والآية التي ذكرتموها عامة ، والخاص مقدم على العام ، لا سيما إذا كان الخاص متأخراً في النزول ، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة ، فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجباً بالاتفاق والله أعلم . ثم قال تعالى : { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قوله { أو آخران } عطف على قوله { اثنان } والتقدير : شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم . المسألة الثانية : قوله { إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيركم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافراً ضارباً في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به . ثم قال تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة } وفيه مسائل : المسألة الأولى : تحبسونهما ، أي توقفونهما كما يقول الرجل : مرَّ بي فلان على فرس فحبس على دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته . فإن قيل : ما موقع تحبسونهما . قلنا : هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما . المسألة الثانية : قوله { من بعد الصلاة } فيه أقوال : الأول : قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما ، والثاني : قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر . فإن قيل : كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر ، مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة . قلنا : إنما عرف هذا التعيين بوجوه : أحدها : أن هذا الوقت كان معروفاً عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ ، وثانيها : ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، ودعا بعدي وتميم ، فاستحلفهما عند المنبر ، فصار فعل الرسول دليلاً على التقييد ، وثالثها : أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب ، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها . والقول الثالث : قال الحسن المراد بعد الظهر أو بعد العصر ، لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . والقول الرابع : أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت والغرض من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل ، والله أعلم . المسألة الثالثة : قال الشافعي رحمه الله : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق ، والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان ، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام ، وبالمدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان ، وهذا على خلاف الآية ، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم ، ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى . ثم قال تعالى : { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربا } وفيه مسائل : المسألة الأولى : الفاء في قوله { فيقسمان بالله } للجزاء يعني : تحبسونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم . المسألة الثانية : قوله { إن ارتبتم } اعتراض بين القسم والمقسم عليه . والمعنى : ان ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما ، وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار ، لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع ، ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة ، وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والرواي عند التهمة . المسألة الثالثة : قوله { لا نشتري به ثمناً } يعني يقسمان بالله أنا لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا قائلين لا نشتري به ثمناً ، وهو كقوله { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانكم ثمناً قليلاً } [ آل عمران : 77 ] أي لا نأخذ ولا نستبدل ، ومن باع شيئاً فقد اشترى ثمنه ، وقوله { ولو كان ذا قربى } أي لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ، ولو كان ذلك الشيء حبوة ذي قربى أو نفسه ، وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بسببهم أعظم ، وهو كقوله { كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] . ثم قال تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } وفيه مسألتان : الأولى : هذا عطف على قوله { لا نشتري به ثمناً } يعني أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري به ثمناً ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وإظهارها . المسألة الثانية : نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله { شهادة } ثم ابتدأ الله بالمد على طرح حرف القسم . وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول الله لقد كان كذا ، والمعنى تالله . ثم قال تعالى : { إنا إذاً لمن الآثمين } يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين .