Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 69-69)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة ، وبقي ههنا مسائل : المسألة الأولى : ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال : والصابئين ، وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير ، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه : الأول : وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء على نية التأخير ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصائبون كذلك ، فحذف خبره ، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً ، فكأنه قيل : كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزال ذنبهم ، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك . الوجه الثاني : وهو قول الفراء أن كلمة { إن } ضعيفة في العمل ههنا ، وبيانه من وجوه : الأول : أن كلمة { إن } إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل ، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة . الثاني : أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الإسم فقط ، أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير ، وهذا مذهب الكوفيين ، وقد بيناه بالدليل في سورة البقرة في تفسير قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] الثالث : أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء ، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها ، والأمر ههنا كذلك ، لأن الاسم ههنا هو قوله { ٱلَّذِينَ } وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض . إذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا كان اسم { إن } بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب ، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف ، والرفع على إسقاط عمله ، فلا يجوز أن يقال : إن زيداً وعمرو قائمان لأن زيداً ظهر فيه أثر الإعراب ، لكن إنما يجوز أن يقال : إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا ، وإن هذا نفسه شجاع ، وإن قطام وهند عندنا ، والسبب في جواز ذلك أن كلمة { إن } كانت في الأصل ضعيفة العمل ، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف ، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه ، وهو كونه مبتدأ ، فهذا تقرير قول الفراء ، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين ، لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح ، وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم ، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه ، فكان ذلك أولى . المسألة الثانية : قال بعض النحويين : لا شك أن كلمة « إن » من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر ، وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله ، وكونه مبتدأ يقتضي الرفع . إذا ثبت هذا فنقول : المعطوف على اسم « إن » يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف ، ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثاً عنه ومخبراً عنه . طعن صاحب « الكشاف » فيه وقال : إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل إن واسمها بعد ذكر الخبر ، تقول : إن زيداً منطلق وعمراً وعمرو بالنصب على اللفظ ، والرفع على موضع إن واسمها ، لأن الخبر قد تقدم ، وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز ، لأنا لو رفعناه على محل إن واسمها لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ ، ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء ، لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معاً ، وحينئذٍ يلزم في الخبر المتأخر أن يكون مرفوعاً بحرف إن وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان ، وأنه محال . وأعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وبيانه من وجوه : الأول : أن هذه الأشياء التي يسميها االنحويون : رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها ، فإن هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات ، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال ، ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى . والوجه الثاني : في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة أن مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر ، والكوفيون ينكرون ذلك ويقولون : لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة ، وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة . والوجه الثالث : وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبراً عنها ، لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته ، ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته ، لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة . وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحداً إلا أنه في التقدير متعدد ، وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية ، وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعاً بالحرف والبعض بالابتداء ، وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد . والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه ، ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبراً ، وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء . وإذا ثبت هذا فنقول : إن قبل ذكر الخبر إذا عطفنا اسماً على حكم اسم صريح العقل أنه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر ، وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة ، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم . المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بيّـن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا ، بين أن هذا الحكم عام في الكل ، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً ، وذلك لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية ، والقوة العملية ، أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق ، وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير ، وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى ، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر ، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود ، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام : " " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " " ثم بيّـن تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن . والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل ، والحزن بالماضي ، فقال { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم وأشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا ، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن بسبب طيبات الدنيا . فإن قيل : كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوماً عن أهوال القيامة ؟ والجواب من وجيهن : الأول : أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح ، ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي ، والثاني : أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به . المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح ، والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط ، فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن ، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة . والجواب : أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة ، فكان الخوف والحزن حاصلاً قبل إظهار العفو . المسألة الخامسة : أنه تعالى قال في أول الآية { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ثم قال في آخر الآية { مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } وفي هذا التكرير فائدتان ، الأولى : أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون ، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن . الفائدة الثانية : أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان ، والإيمان يدخل تحته أقسام ، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان ، وقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في قوله { يا أيها الذين آمنوا } وكلها صالحة لهذا الموضع . المسألة السادسة : الراجع إلى اسم { إن } محذوف ، والتقدير : من آمن منهم ، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً ، والله أعلم .