Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 5-5)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ } . رد عليهم ، فإن قيل ما المضروب عنه ، نقول فيه وجهان أحدهما : تقديره لم يكذب المنذر ، بل كذبوا هم ، وتقديره هو أنه تعالى لما قال عنهم إنهم قالوا { هَـٰذَا شَىْء عَجِيبٌ } [ قۤ : 2 ] كان في معنى قولهم : إن المنذر كاذب ، فقال تعالى : لم يكذب المنذر ، بل هم كذبوا ، فإن قيل : ما الحق ؟ نقول يحتمل وجوهاً الأول : البرهان القائم على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الثاني : الفرقان المنزل وهو قريب من الأول ، لأنه برهان الثالث : النبوة الثابتة بالمعجزة القاهرة فإنها حق الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق ، فإن قيل بين لنا معنى الباء في قوله تعالى : { بِٱلْحَقّ } وأية حاجة إليها ، يعني أن التكذيب متعد بنفسه ، فهل هي للتعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة ، كما في قوله تعالى : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } [ القلم : 5 ، 6 ] نقول فيه بحث وتحقيق ، وهي في هذا الموضع لإظهار معنى التعدية ، وذلك لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب ، لكن النسبة تارة توجد في القائل ، وأخرى في القول ، تقول : كذبني فلان وكنت صادقاً ، وتقول : كذب فلان قول فلان ، ويقال كذبه ، أي جعله كاذباً ، وتقول : قلت لفلان زيد يجيء غداً ، فتأخر عمداً حتى كذبني وكذب قولي ، والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها ، قال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 141 ] وقال تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِٱلنُّذُرِ } [ القمر : 23 ] وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر ، قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } [ فاطر : 4 ] إلى غير ذلك ، وفي القول الاستعمال بالباء أكثر ، قال الله تعالى : { كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كُلَّهَا } [ القمر : 42 ] وقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ } وقال تعالى : { وَكَذَّبَ بِٱلصّدْقِ إِذْ جَاءهُ } [ الزمر : 32 ] والتحقيق فيه هو أن المفعول المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضرب ، غير أن له محلاً يقع فيه فيسمى مضروباً ، ثم إذا كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف ، يقال ضربت عمراً ، وشربت خمراً ، للعلم بأن الضرب لا بد له من محل يقوم به ، والشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه ، وإذا قلت مررت يحتاج إلى الحرف ، ليظهر معنى التعدية لعدم ظهوره في نفسه ، لأن من قال : مر السحاب يفهم منه مرور ولا يفهم منه من مر به ، ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضرب والشرب ، وفي الخفاء دون المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف لظهوره الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضربت بعمرو ، إلا إذا جعلته آلة الضرب . أما إذا ضربته بسوط أو غيره ، فلا يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز مروا به إلا مع الاشتراك ، وتقول مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له ، لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور ، والشكر فعل جميل غير أنه يقع بمحسن ، فالأصل في الشكر ، الفعل الجميل ، وكونه واقعاً بغيره كالبيع بخلاف الضرب ، فإنه إمساس جسم بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضرب أولاً ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً ، إذا عرفت هذا فالتكذيب في القائل ظاهر لأنه هو الذي يصدق أو يكذب ، وفي القول غير ظاهر فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية . وقوله { لَمَّا جَاءهُمْ } في الجائي وجهان : أحدهما : أنه هو المكذب تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم الحق ، أي لم يؤخروه إلى الفكر والتدبر ثانيهما : الجائي ههنا هو الجائي في قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } [ قۤ : 2 ] تقديره : كذبوا بالحق لما جاءهم المنذر ، والأول لا يصح على قولنا الحق وهو الرجع ، لأنهم لا يكذبون به وقت المجيء بل يقولون { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } [ يۤس : 52 ] . وقوله { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي مختلف مختلط قال الزجاج وغيره : لأنهم تارة يقولون ساحر وأخرى شاعر ، وطوراً ينسبونه إلى الكهانة ، وأخرى إلى الجنون ، والأصح أن يقال : هذا بيان الاختلاف المذكور في الآيات ، وذلك لأن قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ } يدل على أمر سابق أضرب عنه ، وقد ذكرنا أنه الشك وتقديره : والقرآن المجيد ، إنك لمنذر ، وإنهم شكوا فيك ، بل عجبوا ، بل كذبوا . وهذه مراتب ثلاث الأولى : الشك وفوقها التعجب ، لأن الشاك يكون الأمران عنده سيين ، والمتعجب يترجح عنده اعتقاد عدم وقوع العجيب لكنه لا يقطع به والمكذب الذي يجزم بخلاف ذلك ، فكأنهم كانوا شاكين وصاروا ظانين وصاروا جازمين فقال : { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } ويدل عليه الفاء في قوله { فَهُمُ } لأنه حينئذ يصير كونهم { فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } مرتباً على ما تقدم وفيما ذكروه لا يكون مرتباً . فإن قيل : المريج ، المختلط ، وهذه أمور مرتبة متميزة على مقتضى العقل ، لأن الشاك ينتهي إلى درجة الظن ، والظان ينتهي إلى درجة القطع ، وعند القطع لا يبقى الظن ، وعند الظن لا يبقى الشك ، وأما ما ذكروه ففيه يحصل الاختلاط لأنهم لم يكن لهم في ذلك ترتيب ، بل تارة كانوا يقولون كاهن وأخرى مجنون ، ثم كانوا يعودون إلى نسبته إلى الكهانة بعد نسبته إلى الجنون وكذا إلى الشعر بعد السحر وإلى السحر بعد الشعر فهذا هو المريج . نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بين أظهرهم ، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرة على يديه ولسانه ، فلما غيروا الترتيب حصل عليه المرج ووقع الدرك مع المرج ، وأما ما ذكروه فاللائق به تفسير قوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [ الذاريات : 8 ] لأن ما كان يصدر منهم في حقه كان قولاً مختلفاً ، وأما الشك والظن والجزم فأمور مختلفة ، وفيه لطيفة وهي أن إطلاق لفظ المريج على ظنهم وقطعهم ينبىء عن عدم كون ذلك الجزم صحيحاً لأن الجزم الصحيح لا يتغير ، وكان ذلك منهم واجب التغير فكان أمرهم مضطرباً ، بخلاف المؤمن الموفق فإنه لا يقع في اعتقاده تردد ولا يوجد معتقده تعدد .