Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 19-20)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله { جَنَّـٰتُ } إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان ، فقال : { فَـٰكِهِينَ } لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله ، وقد ذكرنا هذا ، وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما ، وقوله تعالى : { هَنِيئَاً } إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا ، منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام ، ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع ، فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه ، ولا إثم ولا تعب في تحصيله ، فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه ، فلا يتهنأ ، وكل ذلك في الجنة منتف . وقوله تعالى : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى أنه تعالى يقول أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة ، وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـٰنِ } [ الحجرات : 17 ] . وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد فإن قيل قال في حق الكفار { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ التحريم : 7 ] وقال في حق المؤمنين { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فهل بينهما فرق ؟ قلت بينهما بون عظيم من وجوه الأول : كلمة { إِنَّمَا } للحصر أي لا تجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله ، وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب الثاني : قال هنا { بِمَا كُنتُمْ } وقال هناك { مَّا كُنتُمْ } أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا وقال في حق المؤمن { بِمَا كُنتُمْ } كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا الثالث : ذكر الجزاء هناك وقال ههنا { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } لأن الجزاء ينبىء عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئاً آخر . فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأحقاف : 14 ] في الثواب ، نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزي لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع . وأما في السرر فذكر أموراً أيضاً أحدها : الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم ، والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكىء عنده ، ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير . ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما : أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله { مَصْفُوفَةٌ } يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره ، وقوله { مَصْفُوفَةٌ } دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كات متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكىء عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع ، وقوله تعالى : { وَزَوَّجْنَـٰهُم } إشارة إلى النعمة الرابعة وفيها أيضاً ما يدل على كمال الحال من وجوه أحدها : أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء ثانيها : قال : { وَزَوَّجْنَـٰهُم بِحُورٍ } ولم يقل وزوجناهم حوراً مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَـٰكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور ، لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور ثالثها : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن ، فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه وأحسن ما في الوجه العين ، ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح ، أما حسن المزاج فعلامته الحور ، وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها ، فإن قيل قوله { زوجناهم } ذكره بفعل ماض و { مُتَّكِئِينَ } حال ولم يسبق ذكر فعل ماض يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن ، نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي أحدها : أن ذلك حسن في كثير من المواضع ، تقول جاء زيد ويجيء عمراً وخرج زيد ثانيها : أن قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَعِيمٍ } تقديره أدخلناهم في جنات ، وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه ، فكأنه تعالى يقول في يوم يدعون إلى نار جهنم إن المتقين كائنون في جنّات والثالث : المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم ، فهو في هذا اليوم زوج عباده حوراً عيناً ، وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة .