Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 54, Ayat: 9-9)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم إنه تعالى أعاد بعض الأنباء فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } فيها تهوين وتسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم فإن حاله كحال من تقدمه وفيه مسائل : المسألة الأولى : إلحاق ضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز بالاتفاق وحسن ، وإلحاق ضمير الجمع به قبيح عند الأكثرين ، فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ، ويجوزون كذبت فما الفرق ؟ نقول : التأنيث قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولا تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعلها الذي هو فاعله فليس إذا قلنا : ضربت هذه كانت هذه أنثى لأجل الضرب بخلاف الجمع ، لأن الجمع للفاعلين بسبب فعلهم الذي هم فاعلوه ، فإنا إذا قلنا : جمع ضربوا وهم ضاربون ليس مجرد اجتماعهم في الوجود يصحح قولنا : ضربوا وهم ضاربون ، لأنهم إن اجتمعوا في مكان فهم جمع ، ولكن إن لم يضرب الكل لا يصح قولنا : ضربوا ، فضمير الجمع من الفعل فاعلون جمعهم بسبب الاجتماع في الفعل والفاعلية ، وليس بسبب الفعل ، فلم يجز أن يقال : ضربوا جمع ، لأن الجمع لم يفهم إلا بسبب أنهم ضربوا جميعهم ، فينبغي أن يعلم أولاً اجتماعهم في الفعل ، فيقول : الضاربون ضربوا ، وأما ضربت هند فصحيح ، لأنه لا يصح أن يقال : التأنيث لم يفهم إلا بسبب أنها ضربت ، بل هي كانت أنثى فوجد منها ضرب فصارت ضاربة ، وليس الجمع كانوا جمعاً فضربوا فصاروا ضاربين ، بل صاروا ضاربين لاجتماعهم في الفعل ولهذا ورد الجمع على اللفظ بعد ورود التأنيث عليه فقيل : ضاربة وضاربات ولم يجمع اللفظ أولاً لأنثى ولا لذكر ، ولهذا لم يحسن أن يقال : ضرب هند ، وحسن بالإجماع ضرب قوم والمسلمون . المسألة الثانية : لما قال تعالى : { كَذَّبَتْ } ما الفائدة في قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : أن قوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } أي بآياتنا وآية الانشقاق فكذبوا الثاني كذبت قوم نوح الرسل وقالوا : لم يبعث الله رسولاً وكذبوهم في التوحيد : فكذبوا عبدنا كما كذبوا غيره وذلك لأن قوم نوح مشركون يعبدون الأصنام ومن يعبد الأصنام يكذب كل رسول وينكر الرسالة لأنه يقول : لا تعلق لله بالعالم السفلي وإنما أمره إلى الكواكب فكان مذهبهم التكذيب فكذبوا الثالث : قوله تعالى : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } للتصديق والرد عليهم تقديره : كذبت قوم نوح وكان تكذيبهم عبدنا أي لم يكن تكذيباً بحق كما يقول القائل : كذبني فكذب صادقاً . المسألة الثالثة : كثيراً ما يخص الله الصالحين بالإضافة إلى نفسه كما في قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى } [ الحجر : 42 ] { يا عِبَادِى } [ العنكبوت : 56 ] { واذْكُرْ عَبْدَنَا } [ ص : 17 ] { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا } [ يوسف : 24 ] وكل واحد عبده فما السر فيه ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : ما قيل : في المشهور أن الإضافة إليه تشريف منه فمن خصصه بكونه عبده شرف وهذا كقوله تعالى : { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } [ البقرة : 125 ] وقوله تعالى : { نَاقَةُ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 73 ] الثاني : المراد من عبدنا أي الذي عبدنا فالكل عباد لأنهم مخلوقون للعبادة لقوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] لكن منهم من عبد فحقق المقصود فصار عبده ، ويؤيد هذا قوله تعالى : { كُونُواْ عِبَادًا لّى } [ آل عمران : 79 ] أي حققوا المقصود الثالث : الإضافة تفيد الحصر فمعنى عبدنا هو الذي لم يقل : بمعبود سوانا ، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهاً فالعبد المضاف هو الذي بكليته في كل وقت لله فأكله وشربه وجميع أموره لوجه الله تعالى وقليل ما هم . المسألة الرابعة : ما الفائدة في اختيار لفظ العبد مع أنه لو قال رسولنا لكان أدل على قبح فعلهم ؟ نقول : قوله عبدنا أدل على صدقه وقبح تكذيبهم من قوله رسولنا لو قاله لأن العبد أقل تحريفاً لكلام السيد من الرسول ، فيكون كقوله تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 46 ] . المسألة الخامسة : قوله تعالى { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } إشارة إلى أنه أتى بالآيات الدالة على صدقه حيث رأوا ما عجزوا منه ، وقالوا : هو مصاب الجن أو هو لزيادة بيان قبح صنعهم حيث لم يقنعوا بقولهم إنه كاذب ، بل قالوا مجنون ، أي يقول مالا يقبله عاقل ، والكاذب العاقل يقول ما يظن به أنه صادق فقالوا : مجنون أي يقول مالم يقل به عاقل فبين مبالغتهم في التكذيب . المسألة السادسة : { وَٱزْدُجِرَ } إخبار من الله تعالى أو حكاية قولهم ، نقول : فيه خلاف منهم من قال : إخبار من الله تعالى وهو عطف على كذبوا ، وقالوا : أي هم كذبوا وهو ازدجر أي أوذي وزجر ، وهو كقوله تعالى : { كُذّبُواْ وَأُوذُواْ } [ الأنعام : 34 ] وعلى هذا إن قيل : لو قال كذبوا عبدنا وزجروه كان الكلام أكثر مناسبة ، نقول : لا بل هذا أبلغ لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدمه فقال : وازدجر أي فعلوا ما يوجب الإنزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم وعدل عن الدعاء إلى الإيمان إلى الدعاء عليهم ، ولو قال : زجروه ما كان يفيد أنه تأذى منهم لأن في السعة يقال : آذوني ولكن ما تأذيت ، وأما أوذيت فهو كاللازم لا يقال إلا عند حصول الفعل لا قبله ، ومنهم من قال : { وَٱزْدُجِرَ } حكاية قولهم أي هم قالوا ازدجر ، تقديره قالوا : مجنون مزدجر ، ومعناه : ازدجره الجن أو كأنهم قالوا : جن وازدجر ، والأول أصح ويترتب عليه قوله تعالى :