Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 10-10)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق ، ثم أكد في الآية المتقدمة إيجاب الإيمان أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاب الإنفاق ، والمعنى أنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله ، وتحقيقه أن المال لا بد وأن يخرج عن اليد ، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله ، فإن وقع على الوجه الأول ، كان أثره اللعن والمقت والعقاب ، وإن وقع على الوجه الثاني ، كان أثره المدح والثواب ، وإذا كان لا بد من خروجه عن اليد ، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقب اللعن والعقاب . ثم لما بين تعالى أن الإنفاق فضيلة بين أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة فقال : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَـٰتَلُواْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : تقدير الآية : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح ، ومن أنفق من بعد الفتح ، كما قال : { لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } [ الحشر : 20 ] إلا أنه حذف لوضوح الحال . المسألة الثانية : المراد بهذا الفتح فتح مكة ، لأن إطلاق لفظ الفتح في المتعارف ينصرف إليه ، قال عليه الصلاة والسلام : " " لا هجرة بعد الفتح " " وقال أبو مسلم : ويدل القرآن على فتح آخر بقوله : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } [ الفتح : 27 ] وأيهما كان ، فقد بين الله عظم موقع الإنفاق قبل الفتح . المسألة الثالثة : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في فضل أبي بكر الصديق ، لأنه كان أول من أنفق المال على رسول الله في سبيل الله ، قال عمر : « كنت قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : مالي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره ؟ فقال : " " أنفق ماله علي قبل الفتح " " واعلم أن الآية دلت على أن من صدر عنه الإنفاق في سبيل الله ، والقتال مع أعداء الله قبل الفتح يكون أعظم حالاً ممن صدر عنه هذان الأمران بعد الفتح ، ومعلوم أن صاحب الإنفاق هو أبو بكر ، وصاحب القتال هو علي ، ثم إنه تعالى قدم صاحب الإنفاق في الذكر على صاحب القتال ، وفيه إيماء إلى تقديم أبي بكر ، ولأن الإنفاق من باب الرحمة ، والقتال من باب الغضب ، وقال تعالى : " " سبقت رحمتي غضبي " " فكان السبق لصاحب الإنفاق ، فإن قيل : بل صاحب الإنفاق هو علي ، لقوله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ } [ الإنسان : 8 ] قلنا : إطلاق القول بأنه أنفق لا يتحقق إلا إذا أنفق في الوقائع العظيمة أموالاً عظيمة ، وذكر الواحدي في البسيط أن أبا بكر كان أول من قاتل على الإسلام ، ولأن علياً في أول ظهور الإسلام كان صبياً صغيراً ، ولم يكن صاحب القتال وأما أبا بكر فإنه كان شيخاً مقدماً ، وكان يذب عن الإسلام حتى ضرب بسببه ضرباً أشرف به على الموت . المسألة الرابعة : جعل علماء التوحيد هذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام ، وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح ، وبينوا الوجه في ذلك وهو عظم موقع نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام بالنفس ، وإنفاق المال في تلك الحال ، وفي عدد المسلمين قلة ، وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد ، فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح ، فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً ، والكفر ضعيفاً ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأَنْصَـٰرِ } [ التوبة : 100 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : " " لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " " ثم قال تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : أي وكل واحد من الفريقين { وَعَدَ ٱللَّهُ بِٱلْحُسْنَى } أي المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . المسألة الثانية : القراءة المشهورة { وَكُلاًّ } بالنصب ، لأنه بمنزلة : زيداً وعدت خيراً ، فهو مفعول وعد ، وقرأ ابن عامر : وكل بالرفع ، وحجته أن الفعل إذا تأخر عن مفعوله لم يقع عمله فيه ، والدليل عليه أنهم قالوا : زيد ضربت ، وكقوله في الشعر : @ قد أصبحت أم الخيار تدعى علي ذنباً كله لم أصنع @@ روي كله بالرفع لتأخر الفعل عنه لموجب آخر ، واعلم أن للشيخ عبد القاهر في هذا الباب كلاماً حسناً ، قال : إن المعنى في هذا البيت يتفاوت بسبب النصب والرفع ، وذلك لأن النصب يفيد أنه ما فعل كل الذنوب ، وهذا لا ينافي كونه فاعلاً لبعض الذنوب ، فإنه إذا قال : ما فعلت كل الذنوب ، أفاد أنه ما فعل الكل ، ويبقى احتمال أنه فعل البعض ، بل عند من يقول : بأن دليل الخطاب حجة يكون ذلك اعترافاً بأنه فعل بعض الذنوب . أما رواية الرفع ، وهي قوله : كله لم أصنع ، فمعناه أن كل واحد واحد من الذنوب محكوم عليه بأنه غير مصنوع ، فيكون معناه أنه ماأتى بشيء من الذنوب ألبتة ، وغرض الشاعر أن يدعي البراءة عن جميع الذنوب ، فعلمنا أن المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، ومما يتفاوت فيه المعنى بسبب تفاوت الإعراب في هذا الباب قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] فمن قرأ كل شيء بالنصب ، أفاد أنه تعالى خلق الكل بقدر ، ومن قرأ كل بالرفع لم يفد أنه تعالى خلق الكل ، بل يفيد أن كل ما كان مخلوقاً له فهو إنما خلقه بقدر ، وقد يكون تفاوت الإعراب في هذا الباب بحيث لا يوجب تفاوت المعنى كقوله : { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَـٰهُ } [ يس : 39 ] فإنك سواء قرأت { وَٱلْقَمَرِ } بالرفع أو بالنصب فإن المعنى واحد فكذا في هذه الآية سواء قرأت { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } أو قرأت { وَكُلٌّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } فإن المعنى واحد غير متفاوت . المسألة الثالثة : تقدير الآية : وكلا وعده الله الحسنى إلا أنه حذف الضمير لظهوره كما في قوله : { أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] وكذا قوله : { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [ البقرة : 48 ] ثم قال : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } والمعنى أنه تعالى لما وعد السابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالجزئيات ، وبجميع المعلومات ، حتى يمكنه إيصال الثواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالماً بهم وبأفعالهم على سبيل التفصيل ، لما أمكن الخروج عن عهدة الوعد بالتمام ، فلهذا السبب أتبع ذلك الوعد بقوله : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .