Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 21-21)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم قال تعالى : { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } والمراد كأنه تعالى قال : لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه ، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة . واعلم أنه تعالى أمر بالمسارعة في قوله : { سَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } ثم شرح ههنا كيفية تلك المسارعة ، فقال : { سارعوا } مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، وقوله : { إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ } فيه مسألتان : المسألة الأولى : لا شك أن المراد منه المسارعة إلى ما يوجب المغفرة ، فقال قوم المراد سابقوا إلى التوبة ، وقال آخرون : المراد سابقوا إلى سائر ما كلفتم به فدخل فيه التوبة ، وهذا أصح لأن المغفرة والجنة لا ينالان إلا بالانتهاء عن جميع المعاصي والاشتغال بكل الطاعات . المسألة الثانية : احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظوراً ، أما قوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ } وقال : في آل عمران { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [ آل عمران : 133 ] ، فذكروا فيه وجوهاً أحدها : أن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكانت الجنة في عرضها ، هذا قول مقاتل وثانيها : قال : عطاء عن ابن عباس يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه الصفة ، وثالثها : قال السدي : إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها ، فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك ، ورابعها : أن هذا تمثيل للعبادة بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم ، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض وهذا قول الزجاج ، وخامسها : وهو اختيار ابن عباس أن الجنان أربعة ، قال تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمٰن : 46 ] وقال : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمٰن : 62 ] فالمراد ههنا تشبيه واحدة من تلك الجنان في العرض بالسموات السبع والأرضين السبع . ثم قال تعالى : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } وفيه مسائل : المسألة الأولى : احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة ، وقالت المعتزلة هذه الآية : لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين : الأول : أن قوله تعالى : { أُكُلُهَا دَائِمٌ } [ الرعد : 35 ] يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى : { كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] الثاني : أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة ، ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات ، قالوا : فثبت بهذين الوجهين أنه لا بد من التأويل ، وذلك من وجهين : الأول : أنه تعالى لما كان قادراً لا يصح المنع عليه ، وكان حكيماً لا يصح الخلف في وعده ، ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع ، وقد يقول المرء لصاحبه : أعدت لك المكافأة إذا عزم عليها ، وإن لم يوجدها ، والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى : { وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 50 ] أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب : أن قوله : { كُلُّ شَيْء هَالِكٌ } عام ، وقوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } مع قوله : { أُكُلُهَا دَائِمٌ } خاص ، والخاص مقدم على العام ، وأما قوله ثانياً : الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا : إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة : " " سقفها عرش الرحمن " " وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ، أليس أن العرش أعظم المخلوقات ، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة . المسألة الثانية : قوله : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } فيه أعظم رجاء وأقوى أمل ، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر ، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع ، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء ، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق ، فالآية حجة عليهم ، ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية : { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } يعني أن الجنة فضل لا معاملة ، فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى ، فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة ، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم ؟ قلنا : نقطع بحصول الجنة لهم ، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم ، لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد ، فقد كانت الجنة معدة لهم ، فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله ، فوجب أن يدخل تحت الآية قلت : خص من العموم ، فيبقى العموم حجة فيما عداه . ثم قال تعالى : { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل ، وهذا أيضاً قول الكعبي من المعتزلة ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية ، أجاب القاضي عنه فقال : هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلاً من الله تعالى ، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال ، وإنما قلنا : إنه لا منافاة بين هذين الوصفين ، لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق ، فلما كان تعالى متفضلاً بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلاً بها ، قال : ولما ثبت أن قوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } لا بد وأن يكون مشروطاً بما يستحقه ، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل : { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ } معنى . واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلاً بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلاً بنفس الجنة ، فإن من وهب من إنسان كاغداً ودواة وقلماً ، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفاً وباعه من الواهب ، لا يقال : إن أداء ذلك الثمن تفضيل ، بل يقال : إنه مستحق ، فكذا ههنا ، وأما قوله أولاً إنه لا بد من الاستحقاق ، وإلا لم يكن لقوله من قبل : { سَابِقُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ } معنى ، فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب ، لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء ، ويقول : لا أتفضل إلا مع هذا الشرط . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة ، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العطاء عظيماً .