Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 148-149)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل ، حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات ، فيقولون : لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر ، وحيث لم يمنعنا عنه ، ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه : فالوجه الأول : أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم : لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك ، وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح ، فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً . والوجه الثاني : أنه تعالى قال : { كَذَّبَ } وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل . أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول ، وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب . وأما القراءة بالتشديد ، فلا يمكن حملها على أن القوم استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب ، لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة { كَذَّبَ } بالتخفيف ، وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى ، وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى ، وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم ، فإنه كذبه بهذا الطريق ، لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى ، فهذا الذي أنا عليه من الكفر ، إنما حصل بمشيئة الله تعالى ، فلم يمنعني منه ، فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء ، وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم ، فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة . الوجه الثالث : في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى : { حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا } وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب . الوجه الرابع : قوله تعالى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فتخرجوه لَنَا } ولا شك أنه استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة ، وهذا يدل على فساد هذا المذهب ، لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً . الوجه الخامس : قوله تعالى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } مع أنه تعالى قال في سائر الآيات : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } [ يونس : 36 ] . والوجه السادس : قوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } والخرص أقبح أنواع الكذب ، وأيضاً قال تعالى : { قُتِلَ ٱلْخَـٰرصُونَ } [ الذاريات : 10 ] . والوجه السابع : قوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } وتقريره : أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا : كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى ، وإذا شاء الله منا ذلك ، فكيف يمكننا تركه ؟ وإذا كنا عاجزين عن تركه ، فكيف يأمرنا بتركه ؟ وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى ؟ فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء ، فقال تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ } وذلك من وجهين : الوجه الأول : أنه تعالى أعطاكم عقولاً كاملة ، وأفهاماً وافية ، وآذاناً سامعة ، وعيوناً باصرة ، وأقدركم على الخير والشر ، وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم ، فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات ، وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات ، وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة ، وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضاً بالضرورة ، وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة ! بل لله الحجة البالغة عليكم . والوجه الثاني : أنكم تقولون : لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى ، لكنا قد غلبنا الله وقهرناه ، وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته ، وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً ، وذلك يقدح في كونه إلهاً . فأجاب تعالى عنه : بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء ، وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء ، لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف ، فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله ، فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً ، كلام باطل فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه الآية . والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول : إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا ، ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات وأجبنا عنها بأجوبة واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة . وإذا ثبت هذا ، فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه . إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا { لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } ثم ذكر عقيبه { كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره ، كان التكليف عبثاً ، فكانت دعوى الأنبياء باطلة ، ونبوتهم ورسالتهم باطلة ، ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل ، وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض عليه لأحد في فعله ، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ، ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان ، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع . فالحاصل : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء ، ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل ، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء ، وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية ، وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء ، فيكون الحاصل : أن هذا الاستدلال باطل ، وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل . فإن قالوا : هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى : { كَذٰلِكَ كَذَّبَ } بالتشديد . وأما إذا قرأناه بالتخفيف ، فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان . الأول : أنا نمنع صحة هذه القراءة ، والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا : فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم ، لوقع التناقض ، ولخرج القرآن عن كونه كلاماً لله تعالى ، ويندفع هذا التناقض بأن لا تقبل هذه القراءة ، فوجب المصير إليه . الثاني : سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم ، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة ، والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية ، ومما يقوي ما ذكرناه ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول : لا قدر ، فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ { إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَـٰهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ } [ يۤس : 12 ] وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ، قال له اكتب القدر ، فجرى بما يكون إلى قيام الساعة ، وقال صلوات الله عليه : " " المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة " " المسألة الثانية : زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح ، فلا يجوز أن يقال : قمت وزيد ، وذلك لأن المعطوف عليه أصل ، والمعطوف فرع ، والمضمر ضعيف ، والمظهر قوي ، وجعل القوي فرعاً للضعيف ، لا يجوز . إذا عرفت هذا الأصل فنقول : إن جاء الكلام في جانب الإثبات ، وجب تأكيد الضمير فنقول : قمت أنا وزيد ، وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد . إذا ثبت هذا فنقول قوله : { لَوْ شَاء ٱللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } فعطف قوله : { وَلاَ آبَاؤُنَا } على الضمير في قوله : { مَا أَشْرَكْنَا } إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف . قال في جامع الأصفهاني : إن حرف العطف يجب أن يكون متأخراً عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف ، وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا : { مَا أَشْرَكْنَا نَّحْنُ وَلا ءآبَاؤُنَا } حتى تكون كلمة { لا } مقدمة على حرف العطف . أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة { لا } وحينئذ يعود المحذور المذكور . فالجواب : أن كلمة { لا } لما أدخلت على قوله : { ءآبَاؤُنَا } كان ذلك موجباً إضمار فعل هناك ، لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال ، بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم ، وذلك هو الإشراك ، فكان التقدير : ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل . المسألة الثالثة : احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله : { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فكلمة « لو » في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم ، وما هداهم أيضاً . وتقريره بحسب الدليل العقلي ، أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان فالله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان ، فلو شاء الإيمان منه ، فقد شاء الفعل من غير قدرة على الفعل ، وذلك محال ومشيئة المحال محال ، وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة . فإن قلنا : إنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة ، ومجموعهما موجب للفعل ، فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل ، وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان ، وإذا امتنع ذلك منه ، امتنع أن يريده الله منه ، لأن إرادة المحال محال ممتنع ، فثبت أن ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر ، والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضاً ، فبطل قولهم من كل الوجوه ، وأما قوله : تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول : هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام ، أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه هذا الظاهر ، فكيف يصار إليه ؟ ثم نقول : هذا الدليل باطل من وجوه : الأول : أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار ، فنحن نقول : التقدير : لو شاء الهداية لهداكم ، وأنتم تقولون التقدير : لو شاء الهداية على سبيل الإلجاء لهداكم ، فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحاً . الثاني : أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري ، والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار ، وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزاً عن تحصيل مراده ، لأن مراده هو الإيمان الاختياري ، وأنه لا يقدر البتة على تحصيله ، فكان القول بالعجز لازماً . الثالث : أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار ، وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء . أما الإيمان الحاصل بالاختيار . فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة ، وإرادة لازمة فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل ، إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب . فإن وجب فهي الداعية الضرورية ، وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق وإن لم تجب ترتب الفعل عليها ، فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها ، فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفاً عنها ، وتارة غير متخلف ، فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية ، وقد فرضناه كذلك ، وهذا خلف ، ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق ، وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل ، وهو محال فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبراً ، إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول .