Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 27-28)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل : المسألة الأولى : قوله { وَلَوْ تَرَى } يقتضي الله جواباً وقد حذف تفخيماً للأمر وتظيماً للشأن ، وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر . ولو قدرت الجواب ، كان التقدير : لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ، ألا ترى : أنك لو قلت لغلامك ، والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ، ذهب بفكره إلى أنواع المكروه ، من الضرب ، والقتل ، والكسر ، وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي . ولو قلت : والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب ، لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه ، فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف . ومنهم من قال جواب { لَوْ } مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب . المسألة الثانية : قوله { وُقِفُواْ } يقال وقفته وقفاً ، ووقفته وقوفاً كما يقال رجعته رجوعاً . قال الزجاج : ومعنى { وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } يحتمل ثلاثة أوجه : الأول : يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار . والثاني : يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم ، بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط ، وهو جسر فوق جهنم . والثالث : معناه عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك وقفت فلاناً على كلام فلان أي علمته معناه وعرفته ، وفيه وجه رابع : وهم أنهم يكونون في جوف النار ، وتكون النار محيطة بهم ، ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم على مقام في وإنما صح على هذا التقدير ، أن يقال : وقفوا على النار ، لأن النار دركات وطبقات ، وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء . فإن قيل : فلماذا قال { وَلَوْ تَرَى } ؟ وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذ وقفوا وكلمة { إِذْ } للماضي ثم قال بعده ، فقالوا وهو يدل على الماضي . قلنا : أن كلمة إذ تقام مقام إذا إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد ، وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر ، فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي ، يفيد المبالغة من هذا الاعتبار . المسألة الثالثة : قال الزجاج : الامالة في النار حسنة جيدة ، لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء ، كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين . أما قوله تعالى : { فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : { يا ليتنا نُرَدُّ } يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا . فأما قوله { وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ففيه قولان : أحدهما : أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين . فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً . قلنا : لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني ، فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ، ومثاله أن يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك ، فهذا تمن في حكم الوعد ، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده . القول الثاني : أن التمني تمّ عند قوله { ياليتنا نُرَدُّ } وأما قوله { وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد ، ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ، ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان . المسألة الثانية : قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع فيهما ونكون بالنصب ، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم نرد بالرفع ، ونكذب ونكون بالنصب فيهما ، في الثلاثة ، فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله { نُرَدُّ } وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة ، فأما الذين رفعوا قوله { وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ } ففيه وجهان : الأول : أن يكون معطوفاً على قوله { نُرَدُّ } فتكون الثلاثة داخل في التمني ، فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين . والوجه الثاني : أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول ، فيكون التقدير : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ، فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد . والمعنى يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً . قال سيبويه : وهو مثل قولك دعني ولا أعود ، فههنا المطلوب بالسؤال تركه . فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب ، فكذا هنا قوله { يا ليتنا نُرَدُّ } الداخل في هذا التمني الرد ، فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني ، بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل ، وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا : الوجه الثاني أقوى ، وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني ، ويكون ما بعده إخباراً محضاً . واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال : { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } والمتمني لا يجوز تكذيبه ، وهذا اختيار أبي عمرو . وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة ، إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة ، وذكرنا أنها ليست قوية ، وأما من قرأ { وَلاَ نُكَذِّبَ وَنَكُونَ } بالنصب ففيه وجوه : الأول : بإضمار أن على جواب التمني ، والتقدير : يا ليتنا نرد وأن لا نكذب . والثاني : أن تكون الواو مبدلة من الفاء ، والتقدير : يا ليتنا نرد فلا نكذب ، فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قوله { لَوْ أَنَّ لِى كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الزمر : 58 ] ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ { فَلا نُكَذّبَ } بالفاء على النصب ، والثالث : أن يكون معناه الحال ، والتقدير : يا ليتنا نرد غير مكذبين ، كما تقول العرب لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تأكل السمك شارباً للبن . واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني . وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره . وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع { وَلاَ نُكَذّبَ } وينصب { وَنَكُونَ } فالتقدير : أنه يجعل قوله { وَلاَ نُكَذّبَ } داخلاً في التمني ، بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم . المسألة الثالثة : قوله { فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ } لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال ، فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى . والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ، ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات . ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات ، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط ، ولا بترك التكذيب ، و لا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني . فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة . والجواب من وجوه : الأول : لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل . والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ المائدة : 37 ] وكقوله { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } [ الأعراف : 50 ] فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل ، فبأن يتمنوه أقرب ، لأن باب التمني أوسع ، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية . ثم قال تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : معنى { بَلْ } ههنا رد كلامهم ، والتقدير : أنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا ، وترك التكذيب ، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان ، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه . وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه ، لكونه إيماناً وطاعة ، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب ، والخوف من العقاب فغير مفيد . المسألة الثانية : المراد من الآية : أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا . وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه : الأول : قال أبو روق : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون { وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . قال الواحدي : وعلى هذا القول أهل التفسير . الثاني : قال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها ، وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم ، لأن مضار كفرهم كانت خفية ، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } الثالث : قال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور . قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه { وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثين } [ الأنعام : 29 ] وهذا قول الحسن . الرابع : قال بعضهم : هذه الآية في المنافقين ، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام ، وبدا لهم يوم القيامة ، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين . الخامس : قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به ، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك . واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة . والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم . وهو معنى قوله تعالى : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] . ثم قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان ، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب . فإن قيل : إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة ، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال : إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله . قلنا : قال القاضي : تقرير الآية { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى حالة التكليف ، وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ، ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم ، فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف ، لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ، ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة ، وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب ، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا ، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة . إذا عرفت هذا فنقول : قال الواحدي : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة ، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك . ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ، ثم سألوا الرجعة ورُدُّوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ، وذلك القضاء السابق فيهم ، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ، ثم قال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } وفيه سؤال وهو أن يقال : إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه . والجواب : أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله { يا ليتنا نُرَدُّ } أما الباقي فهو إخبار ، ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني ، لأن إدخال التكذيب في التمني أيضاً جائز ، لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة ، كقول القائل ليت زيداً جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا ههنا . والله أعلم .