Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 54-54)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : اختلفوا في قوله { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا } فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته . وقال آخرون : بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم ، فأكرمهم الله بهذا الإكرام . وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولاً عن طردهم ، ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام . قال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها . وقال للرسول عليه السلام ، ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية . وقال بعضهم : بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ، ثم جاؤه صلى الله عليه وسلم مظهرين للندامة والأسف ، فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها ، فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف . ولي ههنا إشكال ، وهو : أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه ؟ المسألة الثانية : قوله : { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا } مشتمل على أسرار عالية ، وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى ، وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه ، وآيات وحدانيته ، وما سوى الله فلا نهاية له ، وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام ، إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار ، وكالسابح في تلك البحار . ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات ، وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله . ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة فعند هذا أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة . وقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة . أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات ، وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات ، والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال . المسألة الثالثة : ذكر الزجاج عن المبرد . أن السلامة في اللغة أربعة أشياء ، فمنها سلمت سلاماً وهو معنى الدعاء ، ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى ، ومنها الإسلام ، ومنها اسم للشجر العظيم ، أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات ، وهو أيضاً اسم للحجارة الصلبة ، وذلك أيضاً لسلامتها من الرخاوة . ثم قال الزجاج : قوله : { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } السلام ههنا يحتمل تأويلين : أحدهما : أن يكون مصدر سلمت تسليماً وسلاماً مثل السراح من التسريح ، ومعنى سلمت عليه سلاماً ، دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه . فالسلام بمعنى التسليم ، والثاني : أن يكون السلام جمع السلامة ، فمعنى قولك السلام عليكم ، السلامة عليكم . وقال أبو بكر بن الأنباري : قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله { فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } ولو كان معرفاً لصح هذا الوجه . وأقول كتبت فصولاً مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة ، وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم . أما قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب . وكلمة « على » أيضاً تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب . فهذا يقتضي كونه سبحانه راحماً لعباده رحيماً بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا : له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد ، إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم . وقالت المعتزلة : إن كونه عالماً بقبح القبائح وعالماً بكونه غنياً عنها ، يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلماً ، والظلم قبيح ، والقبيح منه محال . وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول . المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضاً قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] يدل عليه ، والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة ، وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه . لأنه لو كان جسماً لكان مركباً والمركب ممكن وأيضاً أنه أحد ، والأحد لا يكون مركباً ، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً أنه غني كما قال { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ } والغني لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فلو كان جسماً لحصل له مثل ، وذلك باطل لقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [ الشورى : 11 ] فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه . المسألة الثالثة : قالت المعتزلة قوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } ينافي أن يقال : إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه أبد الآباد ، وينافي أن يقال : إنه يمنعه عن الإيمان ، ثم يأمره حال ذلك المنع بالإيمان ، ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان . وجواب أصحابنا : أنه ضار نافع محيي مميت ، فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين . المسألة الرابعة : من الناس من قال : إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم : { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه ، فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا : { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواماً بأنه يقول لهم بعد الموت { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] ثم إن أقواماً أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة ، لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا ، ومنهم من قال : لا ، بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام . وقوله : وعلى التقديرين فهو درجة عالية . ثم قال تعالى : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر ، لأن هذا الكلام خطاب مع الذين وصفهم بقوله : { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا } فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية ، والمراد من قوله { بِجَهَالَةٍ } ليس هو الخطأ والغلط ، لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة ، بل المراد منه ، أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة ، فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنباً ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته . المسألة الثانية : قرأ نافع { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } بفتح الألف { فَأَنَّهُ غَفُورٌ } بكسر الألف ، وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما ، والباقون بالكسر فيهما . أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة ، كأنه قيل : كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم . وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلاً من الأولى كقوله { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـٰماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 85 ] وقوله { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } [ الحج : 4 ] وقوله { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ] قال أبو علي الفارسي : من فتح الأولى فقد جعلها بدلاً من الرحمة ، وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبراً تقديره ، فله أنه غفور رحيم ، أي فله غفرانه ، أو أضمر مبتدأ يكون « أن » خبره كأنه قيل : فأمره أنه غفور رحيم . وأما من كسرهما جميعاً فلأنه لما قال { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } فقد تم هذا الكلام ، ثم ابتدأ وقال { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فدخلت الفاء جواباً للجزاء ، وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم . إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج . وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر ، لأنه أبدل الأولى من الرحمة ، واستأنف ما بعد الفاء . والله أعلم . المسألة الثالثة : قوله : { مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ } قال الحسن : كل من عمل معصية فهو جاهل ، ثم اختلفوا فقيل : إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب ، وقيل : إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة ، إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ، ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل . وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلاً إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل ، وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه ، ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ } [ النساء : 17 ] . المسألة الرابعة : قوله تعالى : { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } فقوله { تَابَ } إشارة إلى الندم على الماضي وقوله { وَأَصْلَحَ } إشارة إلى كونه آتياً بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل . ثم قال : { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فهو غفور بسبب إزالة العقاب ، رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة . والله أعلم .