Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 84-88)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه . فأولها : قوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ } والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها . وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك . فعلنا ، وقلنا ، وذكرنا . ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة ، وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم ، ومن أجل مراتب العطايا والمواهب . وثانيها : أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة . وهي قوله : { نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء } وثالثها : أنه جعله عزيزاً في الدنيا ، وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ، ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة ، لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك ، والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد ، فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ } لصلبه { وَيَعْقُوبَ } بعده من إسحق . فإن قالوا : لم لم يذكر إسمعيل عليه السلام مع إسحق ، بل أخر ذكره عنه بدرجات ؟ قلنا : لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب . وأما إسمعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام ، لأنه تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ، ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً ، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض ، فلهذا السبب لم يذكر إسمعيل مع إسحق . وأما قوله : { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب ، وذلك لأنه رزقه أولاداً مثل إسحق ، ويعقوب . وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما ، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح . وإدريس ، وشيث . فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء . أما قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ } فقيل المراد ومن ذرية نوح ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن نوحاً أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب . الثاني : أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته ، بل كان من ذرية نوح عليه السلام ، وكان رسولاً في زمان إبراهيم . الثالث : أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته ، فعلى هذا إسمعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم ، بل هو من ذرية نوح عليه السلام . الرابع : قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وكان من ذريةنوح عليه السلام . والقول الثاني : أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام ، والتقدير : ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان . واحتج القائلون بهذا القول : بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحاً لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم . واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أربعة من الأنبياء ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب . ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء : داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهرون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسمعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوطاً ، والمجموع ثمانية عشر . فإن قيل : رعاية الترتيب واجبة ، والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة ، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه ؟ قلنا : الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب ، وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب ألبتة ، لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب ، وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل . فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق : الملك والسلطان والقدرة ، والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيباً عظيماً . والمرتبة الثانية : البلاء الشديد والمحنة العظيمة ، وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية . والمرتبة الثالثة : من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين ، وهو يوسف عليه السلام ، فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر ، ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر . والمرتبة الرابعة : من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام ، وذلك كان في حق موسى وهرون . والمرتبة الخامسة : الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا ، وترك مخالطة الخلق ، وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين . والمرتبة السادسة : الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع ، وهم إسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط . فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه . المسألة الثانية : قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم ؟ وكذا الكلام في قوله : { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } وكذا قوله في آخر الآية : { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } . قال بعض المحققين : المراد من هذه الهداية الثواب العظيم ، وهي الهداية إلى طريق الجنة ، وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها : { وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب ، فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة . فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه ، فإنه لا يكون جزاء له على عمله ، وأيضاً لا يبعد أن يقال : المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة ، وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم ، لأنهم اجتهدوا في طلب الحق ، فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق ، كما قال : { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ } [ العنكبوت : 69 ] . والقول الثالث : أن المراد من هذه الهداية : الإرشاد إلى النبوة والرسالة ، لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك . فإن قالوا : لو كان الأمر كذلك لكان قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل ، وذلك عندكم باطل . قلنا : يحمل قوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ } على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة ، فيزول الإشكال . والله أعلم . المسألة الثالثة : احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام : { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى ، فيدخل في لفظ العالم الملائكة ، فقوله تعالى : { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين . وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة ، ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية : أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء ، لأن عموم قوله تعالى : { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } يوجب ذلك . قال بعضهم : { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } معناه فضلناه على عالمي زمانهم . قال القاضي : ويمكن أن يقال المراد : وكلاًّ من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين . ثم الكلام بعد ذلك في أن أي الأنبياء أفضل من بعض ، كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم . المسألة الرابعة : قرأ حمزة والكسائي { واللسيع } بتشديد اللام وسكون الياء ، والباقون { وَٱلْيَسَعَ } بلام واحدة . قال الزجاج : يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها . المسألة الخامسة : الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم ، فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته ، ويقال : إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف . المسألة السادسة : قوله تعالى : { وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ } يفيد أحكاماً كثيرة : الأول : أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان ، فالآباء هم الأصول ، والذريات هم الفروع ، والاخوان فروع الأصول ، وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة ، والثاني : أنه تعالى قال : { وَمِنْ ءابَائِهِمْ } وكلمة « من » للتبعيض . فإن قلنا : المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة ، فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة . أما لو قلنا : المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك . الثالث : أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان / قوله : { وَمِنْ ءَابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ } كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولاً من عند الله أن يكون رجلاً ، وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولاً من عند الله تعالى ، وقوله تعالى بعد ذلك : { وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ } يفيد النبوة ، لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة . ثم قال تعالى : { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك ، لأنه قال بعده : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جارياً مجرى الأمر المضاد للشرك . وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته . ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى ، ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ، ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم . والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك . وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة . والله أعلم .