Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 29-30)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : قوله : { أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ } يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه عائدة إليه في ذاته ، ثم إنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه ، وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه ، وجوابه ما سبق ذكره . المسألة الثانية : قال عَطاء ، والسُّدّي { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً . وقال ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله والدليل عليه قوله : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله . فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله . إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء . أولها : أنه أمر بالقسط ، وهو قول : لا إله إلا الله . وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه ، ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له . وثانيها : أنه أمر بالصلاة وهو قوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } وفيه مباحث : البحث الأول : أنه لقائل أن يقول : { أَمَرَ رَبّي بِٱلْقِسْطِ } خبر وقوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز . وجوابه التقدير : قل أمر ربي بالقسط . وقل : أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين . البحث الثاني : في الآية قولان : أحدهما : المُراد بقوله : { أَقِيمُواْ } هو استقبال القبلة . والثاني : أن المراد هو الإخلاص ، والسبب في ذكر هذين القولين ، أن إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة ، والأقرب هو الأول ، لأن الإخلاص مذكور من بعد ، ولو حملناه على معنى الإخلاص ، صار كأنه قال : وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ، وذلك لا يستقيم . فإن قيل : يستقيم ذلك ، إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط . قلنا : لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً ، لم يجز قصره على أحدهما ، خصوصاً مع قوله : { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } فإنه يعم كل ما يسمى ديناً . إذا ثبت هذا فنقول : قوله : { عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ } اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول ، لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة ، فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن ، بل نعتبر القبلة ، فكان المعنى : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس : المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ، ولا يقولن أحدكم ، لاأصلي إلا في مسجد قومي . ولقائل أن يقول : حمل لفظ الآية على هذا بعيد ، لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد ، ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد . وأما قوله : { وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة ، أمر بعده بالدعاء ، والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة ، وسماها دعاء ، لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ، ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر ، وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع الإخلاص ، ونطيره قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [ البينة : 5 ] ثم قال تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } وفيه قولان : القول الأول : قال ابن عباس : { كَمَا بَدَأَكُمْ } خلقكم مؤمناً أو كافراً { تَعُودُونَ } فبعث المؤمن مؤمناً ، والكافر كافراً ، فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة ، أعمله بعمل أهل الشقاوة ، وكانت عاقبته الشقاوة ، وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة ، وكانت عاقبته السعادة . والقول الثاني : قال الحسن ومجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ } خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً ، كذلك تعودون أحياء ، فالقائلون بالقول الأول : احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله : { فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } وهذا يجري مجرى التفسير لقوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } وذلك يوجب ما قلناه . قال القاضي : هذا القول باطل ، لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين ، لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف ، لأن جوابه أن يقال : كما بدأكم بالإيمان ، والكفر ، والسعادة ، والشقاوة ، فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة . واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة « القسط » وهي كلمة لا إله إلا الله ، ثم أمر بالصلاة ثانياً ، ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال ، إنما تظهر في الدار الآخرة ، ونظيره قوله تعالى في « طه » لموسى عليه السلام : { إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِى إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 14 ، 15 ] . ثم قال تعالى : { فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } وفيه بحثان : البحث الأول : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى . قالت المعتزلة : المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب ، وفريقاً حق عليهم الضلالة ، أي العذاب والصرف عن طريق الثواب . قال القاضي : لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم ، إذ العبد لا يستحق ، لأن يضل عن الدين ، إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين ، كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات . واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين : الأول : أن قوله : { فَرِيقًا هَدَىٰ } إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة ، كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة ، لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى . والثاني : نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك ، إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً ، وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه . والله أعلم . البحث الثاني : انتصاب قوله : { وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ } بفعل يفسره ما بعده ، كأنه قيل : وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة ، ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة ، هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه ، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل . فإن قيل : كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم ، بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء . فنقول : عندنا مجموع القدرة ، والداعي يوجب الفعل ، والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل ، هي : أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله . ثم قال تعالى : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } قال ابن عباس : يريد ما بين لهم عمرو بن لحي ، وهذا بعيد ، بل هو محمول على عمومه ، فكل من شرع في باطل ، فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً ، أو لم يحسب ذلك ، وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين ، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين ، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم ، وإلا لما ذمهم بذلك ، والله أعلم .