Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 42-43)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى : { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر ، لأنه من جنس هذا الكلام ، لأنه لما ذكر عملهم الصالح ، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم ، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب . وقال قوم : موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف ، كأنه قيل : لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها ، وإنما حذف العائد للعلم به . المسألة الثانية : معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة ، والدليل عليه : أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها . وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً ، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود . المسألة الثالثة : قال الجبائي : هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه ، لأن الله تعالى كذبهم في ذلك ، وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال ، لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى ، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق ، لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه ، فذلك تكليفه بما لا يطاق ، لأنه أمر بتحصيل الحاصل ، وذلك غير مقدور ، وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضاً تكليف ما لا يطاق ، لأن على هذا التقدير : لا قدرة للعبد على تكوين ذلك الفعل وتحصيله ، قالوا : وأيضاً إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل ، والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق ، ثبت فساد هذين الأصلين . والجواب : أنا نقول وهذا الإشكال أيضاً وارد عليكم ، لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل ، حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل ، لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل ، وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال ، والثاني باطل ، لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجباً ، فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمراً بتحصيل الحاصل ، وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمراً بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاً ، فيكون أمراً بالجمع بين النقيضين وهو محال ، فكل ما تجعلونه جواباً عن هذا السؤال ، فهو جوابنا عن كلامكم والله أعلم . وأما قوله تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه ، والغل العقد . قال أهل اللغة : وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب ، أي يدخل ، ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ، ويقال : انغل في الشيء ، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة ، كالحب يدخل في صميم الفؤاد . إذا عرفت هذا فنقول : لهذه الآية تأويلان : القول الأول : أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ، ومعنى نزع الغل : تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب ، فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب ، وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } . والقول الثاني : إن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان ، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة . قال صاحب « الكشاف » : هذا التأويل أولى من الوجه الأول ، حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ، ولعن بعضهم بعضاً ، ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضاً مفارقة لحال أهل النار . فإن قالوا : كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة ، والدرجات العالية ، ويرى نفسه محروماً عنها عاجزاً عن تحصيلها ، ثم إنه لا يميل طبعه إليها ، ولا يغتم بسبب الحرمان عنها ، فإن عقل ذلك ، فلم لا يعقل أيضاً أن يعيدهم الله تعالى ، ولا يخلق فيهم شهوة الأكل ، والشرب والوقاع ، ويغنيهم عنها ؟ قلنا : الكل ممكن ، والله تعالى قادر عليه ، إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب ، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس ، فظهر الفرق بين البابين . ثم إنه تعالى قال : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } والمعنى : أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم باللَّذات العظيمة ، وقوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } من رحمة الله وفضله وإحسانه ، وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية . ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا } وقال أصحابنا : معنى { هَدَانَا ٱللَّهُ } أنه أعطى القدرة ، وضم إليها الداعية الجازمة ، وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجباً لحصول تلك الفضيلة فإنه لو أعطى القدرة ، وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر ، ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضاً لسائر الدواعي الصارفة ، لم يحصل الفعل أيضاً . أما لما خلق القدرة ، وخلق الداعية الجازمة ، وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجباً للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير الله تعالى ، وتخليقه وتكوينه . وقالت المعتزلة : التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل ، وأزال الموانع ، وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال . ثم قال تعالى : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ ابن عامر « ما كنا » بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام ، والباقون بالواو ، والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله : { مَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } جار مجرى التفسير لقوله : { هَدَانَا لِهَـٰذَا } فلما كان أحدهما عين الآخر ، وجب حذف الحرف العاطف . المسألة الثانية : قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ } دليل على أن المهتدي من هداه الله ، وإن لم يهده الله لم يهتد ، بل نقول : مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام ، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد ، فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر ، والمحق والمبطل بسعي نفسه ، واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه ، لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان ، وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان ، وخلصها من دركات النيران ، فلما لم يحمد نفسه البتة ، وإنما حمد الله فقط . علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه . ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا : { لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِٱلْحَقّ } وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً ، وقالوا : لقد جاءت رسل ربنا بالحق . ثم قال تعالى : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى ، أو أن يكون من الملائكة ، والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه . المسألة الثانية : ذكر الزجاج في كلمة « أن » ههنا وجهين : الأول : أنها مخففة من الثقيلة ، والتقدير : أنه والضمير للشأن ، والمعنى : نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول . والثاني : قال : وهو الأجود عندي أن تكون « أن » في معنى تفسير النداء ، والمعنى : ونودوا . أي تلكم الجنة ، والمعنى : قيل لهم تلكم الجنة كقوله : { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ } [ صۤ : 6 ] يعني أي امشوا . قال : إنما قال : « تلكم » لأنهم وعدوا بها في الدنيا . فكأنه قيل : لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله : { أُورِثْتُمُوهَا } فيه قولان : القول الأول : وهو قول أهل المعاني أن معناه : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله ، والإرث قد يستعمل في اللغة ، ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال : هذا العمل يورثك الشرف ، ويورثك العار أي يصيرك إليه ، ومنهم من يقول : إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث . والقول الثاني : أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار . قال صلى الله عليه وسلم : " " ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم " " وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فيه مسائل : المسألة الأولى : تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية فإن الباء في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تدل على العلية ، وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء ، وجوابنا : أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له ، لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء ، والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها ، فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر . المسألة الثانية : طعن بعضهم فقال : هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله ، وقوله عليه السلام : " " لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى " " وبينهما تناقض ، وجواب ما ذكرنا : أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته ، وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له ، وأيضاً لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى . المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } خطاب عام في حق جميع المؤمنين ، وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول : إن الفساق يدخلون الجنة تفضلاً من الله تعالى . إذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها . والثاني : باطل بالإجماع ، والأول : لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق ، والأول باطل ، لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل ، والثاني : أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال : إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب ، وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة والجمع بينهما محال . وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً . والجواب : هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان . وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة ، والله أعلم .