Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 88-89)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال : { ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين : إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية وإما أن تعود إلى ملتنا ، والإشكال فيه أن يقال : إن قولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر ، فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك ، وذلك في غاية الفساد ، وقوله : { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ } يدل أيضاً على هذا المعنى . والجواب من وجوه : الأول : أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم . الثاني : أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم ، وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام . الثالث : أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه ، فتوهموا أنه كان على دين قومه . الرابع : لا يبعد أن يقال : إن شعيباً كان على شريعتهم ، ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه . الخامس : المراد من قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء . تقول العرب : قد عاد إلي من فلان مكروه ، يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء . قال الشاعر : @ فإن تكن الأيام أحسن مدة إلى فقد عادت لهن ذنوب @@ أراد فقد صارت لهن ذنوب ، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ، ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين : الأول : قوله : { وَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ } الهمزة للاستفهام ، والواو واو الحال . تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ، ومع كوننا كارهين : الثاني : قوله : { قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم ، وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال : إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله . وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة ، والبراءة عن الكذب ، فالعود في ملتكم يبطل النبوة ، ويزيل الرسالة . وقوله : { إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } فيه وجوه : الأول : معنى { إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } علمنا قبحه وفساده ، ونصب الأدلة على أنه باطل . الثاني : أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم ، وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب . والثالث : أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم ، أو اعتقدوا أنه كان كذلك . فقوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } أي حسب معتقدكم وزعمكم . أما قوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } . فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر ، والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح . أما وجه استدلال أصحابنا بهذه ، فمن وجهين : الأول : قوله : { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى ، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد ، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه ، لا من الله تعالى ، وذلك على خلاف مقتضى قوله : { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } الثاني : أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ، ولما كانت تلك الملة كفراً ، كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر ، فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر ، وذلك غير مذهبنا . قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر . ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام : { وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول : " " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك " " وقال يوسف : { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } [ يوسف : 101 ] أجابت المعتزلة عنه من وجوه : الأول : أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء . والثاني : أن هذا مذكور على طريق التبعيد ، كما يقال : لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار ، وشاب الغراب : فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته . ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً ، فهو على طريق التبعيد ، لا على وجه الشرط . الثالث : أن قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو ، فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل ، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره ، وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى ، وكون الضمير أفضل من الإظهار ، لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى ، كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل . الرابع : أن قوله : { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ } المراد الإخراج عن القرية ، فيحمل قوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } أي القرية ، لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية ، أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته . الخامس : أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر ، لأن قوله : { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ } معناه : أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها . وقوله : { لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا } أي يكون ذلك العود جائزاً ، والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم ، ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر . فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر ، فكان التقدير : إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها ، والشريعة التي صارت منسوخة ، لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم . والوجه السادس : للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي ، فقال : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات ، كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِي مِلَّتِكُمْ } ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ ، لا جرم قال : { إِلاَّ أَن يَشَاءَ ٱللَّهُ } والمعنى : إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه ، فحينئذ نعود إليها فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها ، وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة ، وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة ، ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب . وأما المعتزلة فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين : الوجه الأول : لما قالوا ظاهر قوله : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّنَا } يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده ، كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ، ولم يكن حراماً . قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله ، كان حسناً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى . والوجه الثاني : لهم أن قالوا : إن قوله : { لَنُخْرِجَنَّكَ … أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة . واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب . أما قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } ففيه مسائل : المسألة الأولى : في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه : قال القاضي : قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب : { إِلا أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّنَا } معناه : إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات ، فحينئذ يكلفنا بها ، والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء ، فلذلك أتبعه بهذا القول . وقال أصحابنا : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، هو أن القوم لما قالوا لشعيب : إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا ، فقال شعيب : { وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً } فربما كان في علمه حصول قسم ثالث ، وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا ، وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي ، لأن قوله : { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } لائق بهذا الوجه ، لا بما قاله القاضي . المسألة الثانية : قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء ، لأن قوله : { وَسِعَ } فعل ماض ، فيتناول كل ماض . وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال ، لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله ، والشقي من شقي في علم الله . المسألة الثالثة : قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } يدل على أنه علم الماضي ، والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون ، فهذه أقسام أربعة ، ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه . أما الماضي : فإنه علم أنه لما كان ماضياً ، فإنه كيف كان . وعلم أنه لو لم يكن ماضياً ، بل كان حاضراً ، فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون . وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون ، فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي ، واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال ، وبحسب المستقبل ، وبحسب المعدوم المحض ، فيكون المجموع ستة عشر ، ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح ، وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها ، فحينئذ يلوح لعقلك من قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله . المسألة الرابعة : قال الواحدي : قوله : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا } منصوب على التمييز . واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين : الأول : بالتوكل على الله . فقال : { عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا } فهذا يفيد الحصر ، أي عليه توكلنا لا على غيره ، وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب ، وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب . والثاني : الدعاء . فقال : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ، والسدي : احكم واقض . وقال الفراء : أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما كنت أدري قوله : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أحاكمك . قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : { ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف ، والمراد منه : أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتبيين . ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَـٰتِحِينَ } والمراد منه الثناء على الله . واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد ، وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات ، ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين ، فلا شك أن الإيمان كذلك . إذا ثبت هذا فنقول : لو كان الموجد للإيمان هو العبد ، لكان خير الفاتحين هو العبد ، وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين .