Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 73, Ayat: 2-4)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { قُمِ ٱلَّيْلَ } فيه مسألتان : المسألة الأولى : قال ابن عباس : إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله : { قُمِ ٱلَّيْلَ } وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ ، واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها : أنه كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها وثانيها : أنه تعالى لما قال : { قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة : { فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] وذلك في صدر الإسلام ، ثم قال ابن عباس : وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة ، وقال في رواية أخرى : إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة ، ثم نسخ هذا القدر أيضاً بالصلوات الخمس ، والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله : { فَٱقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْءانِ } [ المزمل : 20 ] ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات ، وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء ، وقال بعض العلماء : التهجد ما كان واجباً قط ، والدليل عليه وجوه أولها : قوله : { وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] فبين أن التهجد نافلة له لا فرض ، وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك وثانيها : أن التهجد لو كان واجباً على الرسول لوجب على أمته لقوله : { وَٱتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] وورود النسخ على خلاف الأصل وثالثها : استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال : { نّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول : أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك ، ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله : { قُمِ ٱلَّيْلَ } وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب ، لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب ، فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز ، وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل ، فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب ، والله أعلم . المسألة الثانية : قرأ أبو السمال { قُمِ ٱلَّيْلَ } بفتح الميم وغيره بضم الميم ، قال أبو الفتح بن جني : الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين ، فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم : { قم الليل } ، و { قل الحق } [ الكهف : 29 ] برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال : من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح . قوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } . اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول : أن المراد بقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } الثلث ، والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } [ المزمل : 20 ] فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان ، فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله : { قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } هو الثلث ، فإذاً قوله : { قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } معناه قم ثلثي الليل ثم قال : { نّصْفَهُ } والمعنى أو قم نصفه ، كما تقول : جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت ، فتحذف واو العطف فتقدير الآية : قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، ويكون الثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه يكون مندوباً ، فإن قيل : فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الواجب ، لأنه تعالى قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف ، وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب ، قلنا : إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد ، فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله ، ولذلك قال تعالى لهم : { عِلْمٍ أَلَّن تُحْصُوهُ } [ المزمل : 20 ] ، الوجه الثاني : أن يكون قوله : { نّصْفَهُ } تفسيراً لقوله : { قَلِيلاً } وهذا التفسير جائز لوجهين الأول : أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني : أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه ، وإذا ثبت هذا فنقول : { قُمِ ٱلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } معناه قم الليل إلا نصفه ، فيكون الحاصل : قم نصف الليل ، ثم قال : { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع ، ثم قال : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه ، وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف ، وبين أن يقوم ربع الليل ، وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه ، وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع ، والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل ، وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَىِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } [ المزمل : 20 ] يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات ، فزال السؤال المذكور ، والله أعلم . قوله تعالى : { وَرَتّلِ ٱلْقُرْءانَ تَرْتِيلاً } قال الزجاج : رتل القرآن ترتيلاً ، بينه تبييناً ، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن ، إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف ، ويوفي حقها من الإشباع ، قال المبرد : أصله من قولهم : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير ، وقال الليث : الترتيل تنسيق الشيء ، وثغر رتل ، حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلاً ، إذا تمهلت فيه وأحسنت تأليفه ، وقوله تعالى : { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء . واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها ، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته ، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله ، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني ، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية ، ومن ابتهج بشيء أحب ذكره ، ومن أحب شيئاً لم يمر عليه بسرعة ، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة .