Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 21-21)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } فيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى : فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ ، وثياب سندس خبره ، والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ، فإن قيل : عاليهم مفرد ، وثياب سندس جماعة ، والمبتدأ إذا كان مفرداً لا يكون خبره جمعاً ، قلنا : المبتدأ ، وهو قوله : { عَـٰلِيَهُمْ } وإن كان مفرداً في اللفظ ، فهو جمع في المعنى ، نظيره قوله تعالى : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـٰمِراً تَهْجُرُونَ ، فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ } [ المؤمنون : 67 ] كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية : وهي فتح الياء ، فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول : أنه نصب على الظرف ، لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب ، كما كان قوله : { وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 42 ] كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني : أنه نصب على الحال ، ثم هذا أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها : قال أبو علي الفارسي : التقدير : ولقاهم نضرة وسروراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثانيها : التقدير : وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثالثها : أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان ، حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها : حسبتهم لؤلؤاً منثوراً ، حال ما يكون عاليهم ثياب سندس ، فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول : تكون الثياب الأبرار ، وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث : في سبب هذا النصب ، أن يكون التقدير : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس . المسألة الثانية : قرأ نافع وعاصم : خضر واستبرق ، كلاهما بالرفع ، وقرأ الكسائي وحمزة : كلاهما بالخفض ، وقرأ ابن كثير : خضر بالخفض ، واستبرق بالرفع ، وقرأ أبو عمرو وعبدالله بن عامر : خضر بالرفع ، واستبرق بالخفض ، وحاصل الكلام فيه أن خضراً يجوز فيه الخفض والرفع ، أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب ، وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة ، وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس ، لأن سندس أريد به الجنس ، فكان في معنى الجمع ، وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع ، كما يقال : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال : إنه قبيح ، والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم : حصى أبيض وفي التنزيل { مّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع ، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته ، وأما استبرق فيجوز فيه الرفع والخفض أيضاً معاً ، أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب ، كأنه قيل : ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل : ثياب سندس واستبرق ، والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال : ثياب خز وكتان ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } [ الكهف : 31 ] واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف . المسألة الثالثة : السندس ما رق من الديباج ، والاستبرق ما غلظ منه ، وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] ثم قيل : إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون ، وقيل : بل هذا لباس الأبرار ، وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها ، ولهذا قال : { عَـٰلِيَهُمْ } وقيل هذا من تمام قوله : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } ومعنى { عَـٰلِيَهُمْ } أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس ، والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج . قوله تعالى : { وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وفيه سؤالات : السؤال الأول : قال تعالى في سورة الكهف : { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ الكهف : 31 ] فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة ؟ والجواب : من ثلاثة أوجه أحدها : أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها : أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب ، فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم ، وميله إليه أشد وثالثها : أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس . السؤال الثاني : السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال ، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب ؟ الجواب : أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهباً وفضة وإن كانوا رجالاً ، وقيل : هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط ، ثم غلب في اللفظ جانب التذكير ، وفي الآية وجه آخر ، وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية ، فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب ، فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار الذهب والفضة ، فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة ، وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } وبالجملة فقوله : { وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } إشارة إلى قوله : { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا } وقوله : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } إشارة إلى قوله : { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] فهذا احتمال خطر بالبال ، والله أعلم بمراده . قوله تعالى : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } الطهور فيه قولان : الأول : المبالغة في كونه طاهراً ، ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها : أنه لا يكون نجساً كخمر الدنيا وثانيها : المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة ، وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها : أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني : في الطهور أنه المطهر ، وعلى هذا التفسير أيضاً في الآية احتمالان أحدهما : قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد ، وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما : قال أبو قلابة : يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك ، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور ، مطهراً لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة ، والأشياء المؤذية ، فإن قيل : قوله تعالى : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور ، والزنجبيل ، والسلسبيل أو هذا نوع آخر ؟ قلنا : بل هذا نوع آخر ، ويدل عليه وجوه أحدها : دفع التكرار وثانيها : أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه ، فقال : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ } وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها : ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة ، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون ، فيطهر ذلك بطونهم ، ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك ، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة ، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة ، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب ، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ، وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها : وهو أن الروح من عالم الملائكة ، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة ، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن ، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة ، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة ، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس ، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض ، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس ، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع ، ومن نور إلى نور ، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله ، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة ، بل فنيت ، لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته ، وذلك هو آخر سير الصديقين ، ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال ، فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } . واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء ، قال تعالى :