Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 1-1)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن قوله : { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ } يقتضي البحث عن خمسة أشياء ، السائل والمسؤول وحقيقة النفل ، وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان ، وإن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال . أما البحث الأول : فهو أن السائلين من كانوا ؟ فنقول إن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا ، لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً معيناً فانصرف هذا اللفظ إليهم ، ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال وهم أقوام من الصحابة . وأما البحث الثاني : وهو أن المسؤول من كان ؟ فلا شك أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم . وأما البحث الثالث : وهو أن الأنفال ما هي فنقول : قال الزهري : النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل ، وسميت الغنائم أنفالاً ، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم ، وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل . وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أي زيادة على ما سأل . وأما البحث الرابع : وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان ؟ فنقول : فيه وجهان : الأول : لفظ السؤال ، وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعاً عن ذلك المعين ، ونظيره قوله تعالى : { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] { فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةِ } [ البقرة : 220 ] فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى ، وذلك الحكم غير معين ، إلا أن الجواب كان معيناً لأنه تعالى قال في المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنّسَاء فِي ٱلْمَحِيضِ } [ البقرة : 222 ] فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالاً عن مخالطة النساء في المحيض . وقال في اليتامى : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ } [ البقرة : 220 ] فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعاً عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة . وأيضاً قال تعالى : { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } [ الإسراء : 85 ] وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثاً أو قديماً ، فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها . والقول الثاني : أن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ } أي من الأنفال ، والمراد من هذا السؤال : الاستعطاء على ما روي في الخبر ، أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا ، ولا يبعد إقامة عن مقام من هذا قول عكرمة . وقرأ عبد الله { يَسْأَلُونَكَ ٱلانفَالِ } . والبحث الخامس : وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال . فنقول : إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن قوله : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } يدل على أن المقصود من ذكر منع القوم عن المخاصمة والمنازعة . وثانيها : قوله : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم . وثالثها : أن قوله : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يدل على ذلك . إذا عرفت هذا فنقول : يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ويحتمل أن يكون المراد غيرها . أما الأول : ففيه وجوه : أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضاً ، وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ، فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة ، وطلحة وسعيد بن زيد . فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام ، وأما الخمسة من الأنصار ، فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحرث بن حاطب : رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه ، والحرث بن الصمة أصابته علة بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في تلك الغنائم بسهم ، فوقه من غيرهم فيه منازعة . فنزلت هذه الآية بسببها ، وثانيها : روى أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف ، فقال الشبان : الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا ، وقال الأشياخ : كنا ردأ لكم ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا ، فوقعت المخاصمة بهذا السبب . فنزلت الآية . وثالثها : قال الزجاج : الأنفال الغنائم . وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم ، وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط ، وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقاً بالمنازعة والمخاصمة . وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئاً سوى الغنائم ، فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضاً وجوه : أحدها : قال ابن عباس في بعض الروايات : المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال ، من دابة أو عبد أو متاع ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء ، وثانيها : الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس ، وهو قول مجاهد ، قال : فالقوم إنما سألوا عن الخمس . فنزلت الآية ، وثالثها : أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من الغنم ، ترغيباً له في القتال ، كما إذا قال الإمام : « من قتل قتيلاً فله سلبه » أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم ، أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه ، ولا يخمس النفل ، وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف . فقال : « ليس هذا لي ولا لك أطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم » فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال فقال : يا سعد « إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فخذه » قال القاضي : وكل هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض . وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين قضى به ، وإلا فالكل محتمل ، وكما أن كل واحد منها جائز ، فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها ، والأقرب أن يكون المراد بذلك ماله عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها ، لأنه يسوغ له تحريضاً على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحداً في ابتداء المحاربة . ليبالغ في الحرب . أو عند الرجعة . أو يعطيه سلب القاتل ، أو يرضخ لبعض الحاضرين ، وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به . وعلى هذا التقدير فيكون قوله : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقاً للمجاهدين . أما قوله تعالى : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ففيه بحثان : البحث الأول : المراد منه أن حكمها مختص بالله والرسول يأمره الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد . البحث الثاني : قال مجاهد وعكرمة والسدي : إنها منسوخة بقوله فإن لله خمسه وللرسول ، وذلك لأن قوله : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول ، فنسخها الله بآيات الخمس وهو قول ابن عباس في بعض الروايات ، وأجيب عنه من وجوه : الأول : أن قوله : { قُلِ ٱلانفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } معناه أن الحكم فيها لله وللرسول . وهذا المعنى باق فلا يمكن أن يصير منسوخاً ، ثم إنه تعالى حكم بأن يكون أربعة أخماسها ملكاً للغانمين . الثاني : أن آية الخمس . تدل على كون الغنيمة ملكاً للغانمين ، والأنفال ههنا مفسرة لا بالغنائم ، بل بالسلب . وإنما ينفله الرسول عليه السلام لبعض الناس لمصلحة من المصالح . ثم قال تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وفيه بحثان : البحث الأول : معناه فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله ، واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال . وارضوا بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم . البحث الثاني : في قوله : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال ، ولما كانت الأقوال واقعة في البين ، قيل لها ذات البين ، كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور . ثم قال : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ثم بالغ في هذا التأكيد فقال : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة ، فاحذروا الخروج عنها ، واحتج من قال : ترك الطاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية ، وتقريره أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وههنا الإيمان معلق على الطاعة بكلمة { ءانٍ } فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة وتمام هذه المسألة مذكور في قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] والله أعلم .