Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 2-4)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما قال : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزماً للطاعة ، شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل ، وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } الآية . واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة : الأول : قوله : { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال الواحدي يقال : وجل يوجل وجلاً ، فهو وجل ، وأوجل إذا خاف . قال الشاعر : @ لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول @@ والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمناً إذا كان خائفاً من الله ، ونظيره قوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر : 23 ] وقوله : { ٱلَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] وقوله : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ } [ المؤمنون : 2 ] وقال أصحاب الحقائق : الخوف على قسمين : خوف العقاب ، وخوف العظمة والجلال . أما خوف العقاب فهو للعصاة . وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين ، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً ، وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه ، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه ، وليست تلك الهيبة من العقاب ، بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه ، وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة ، وذلك الخوف . إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من الوجل القسم الأول ، فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله ، وإنما يحصل من ذكر عقاب الله . وهذا هو اللائق بهذا الموضع ، لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال ، وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني ، فذلك لازم من مجرد ذكر الله ، ولا حاجة في الآية إلى الإضمار . فإن قيل : إنه تعالى قال ههنا { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } وقال في آية أخرى : { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الرعد : 28 ] فكيف الجمع بينهما ؟ وأيضاً قال في آية أخرى : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] قلنا : الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل إنما يكون من خوف العقوبة ، ولا منافاة بين هاتين الحالتين ، بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 23 ] والمعنى : تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله . الصفة الثانية : قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ } وهو قكلوه : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً } [ التوبة : 124 ] ثم فيه مسائل : المسألة الأولى : زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين : الوجه الأول : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله : أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً ، لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : " " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح " " يريد أن معرفته بالله أقوى . ولقائل أن يقول : المراد من هذه الزيادة : إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل . أما قوة الدليل فباطل ، وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات ، وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوماً بها جزماً مانعاً من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلاً في كل المقدمات ، امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير ، لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت ، وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلاً ، بل أمارة ، والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علماً بل ظناً ، فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال ، وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك ، لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد ، إن كان مانعاً من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة ، وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلاً ، بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف . واعلم أنه يمكن أن يقال : المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام ، وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضراً للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ، ومنهم من يكون مداوماً لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ، ومراتب متفاوتة ، وهو المراد من الزيادة . والوجه الثاني : من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم متعاقبة ، فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقاً وإقراراً ، ومن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد . وقوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ } معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق ، وفي الآية وجه ثالث : وهو أن كمال قدرة الله وحكمته ، إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته ، وهذا بحر لا ساحل له ، وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر ، انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر ، فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ، ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها ، لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة . المسألة الثانية : اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا ؟ أما الذين قالوا : الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين : الأول : أن قوله : { زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً } يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة . والثاني : أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة . قال : في الموصوفين بها { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان . وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " " واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة . قالوا : لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة ، والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت ، فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل ، حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان ، وهذا الاستدلال ضعيف ، لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار ، وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان ، والله أعلم . المسألة الثالثة : قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ } ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان ، وليس الأمر كذلك ، لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة ، بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم . الصفة الثالثة : للمؤمنين قوله تعالى : { وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده ، وأن يقولوا صدق الله ورسوله ، وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] ثم نقول : هذا الكلام يفيد الحصر ، ومعناه : أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم ، وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي : أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله . واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب ، فإن المرتبة الأولى هي : الوجل من عقاب الله . والمرتبة الثانية : هي الانقياد لمقامات التكاليف لله . والمرتبة الثالثة : هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله ، والاعتماد بالكلية على فضل الله ، بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى . والصفة الرابعة والخامسة : قوله : { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } واعلم أن المراتب الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ، ورئيسها بذل النفس في الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله ، ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة ، والإنفاق في الجهاد ، والإنفاق على المساجد والقناطر ، قالت المعتزلة : إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله ، وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام ، وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقاً ، وقد سبق ذكر هذا الكلام مراراً . واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس : أثبت للموصوفين بها أموراً ثلاثة : الأول : قوله : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قوله : { حَقّاً } بماذا يتصل . فيه قولان : أحدهما : بقوله : { هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي هم المؤمنون بالحقيقة . والثاني : أنه تم الكلام عند قوله : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } ثم ابتدأ وقال : { حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ } . المسألة الثانية : ذكروا في انتصاب { حَقّاً } وجوهاً : الأول : قال الفراء : التقدير : أخبركم بذلك حقاً ، أي أخباراً حقاً ، ونظيره قوله : { أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ حَقّاً } [ النساء : 151 ] والثاني : قال سيبويه : إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام ، والتقدير : وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً . الثالث : قال الزجاج . التقدير : أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً . المسألة الثالثة : اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن ، واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا ؟ فقال أصحاب الشافعي : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله ، ولا يقول أنا مؤمن حقاً . وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، أما الذين قالوا إنه يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، فلهم فيه مقامان : المقام الأول : أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان . المقام الثاني : أن لا يكون الأمر كذلك . أما المقام الأول ، فتقريره : أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل . ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه ، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية ، فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار ، إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان ، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله ، فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول ، وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان ، لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان . فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ، ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان ، وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط . وأما المقام الثاني : وهو أن نقول : إن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك ، فيه وجوه : الأول : أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله ، فإذا قال أنا مؤمن ، فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح . فوجب أن يقول : إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب . روي أن أبا حنيفة رحمه الله ، قال لقتادة : لم تستثني في إيمانك . قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله : { وَٱلَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ ٱلدِينِ } [ الشعراء : 82 ] فقال أبو حنيفة رحمه الله : هلا اقتديت به في قوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ } [ البقرة : 260 ] وأقول : كان لقتادة أن يجيب ، ويقول : إنه بعد أن قال : { بَلَىٰ } قال : { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } فطلب مزيد الطمأنينة ، وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله . الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة ، وهي الخوف من الله ، والإخلاص في دين الله ، والتوكل على الله ، والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى . وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر ، وهو قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ } هم كذا وكذا . وذكر في آخر الآية قوله : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } وهذا أيضاً يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، لا جرم كان الأولى أن يقول : إن شاء الله . روى أن الحسن سأله رجل وقال : أمؤمن أنت ؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا ؟ الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً ، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة ، وذلك لا سبيل إليه ، فكذا هذا . ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة ، فقد آمن بنصف الآية . والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة ، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن . الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة ، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر ، فأما عند زوال هذا المعنى ، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله ، أما في نفس الأمر فلا . إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه ، وهذا المعنى محتمل . الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون : شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان ، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ، ويكون مجهولاً ، والموقوف على المجهول مجهول . فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله . السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت ، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة ، فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال ، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة كان وجوده كعدمه ، ولم تحصل فائدة أصلاً ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى . السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ، ألا ترى أنه تعالى قال : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاء ٱللَّهُ ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وهو تعالى منزه عن الشك والريب . فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده ، هذا المعنى ، فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله ، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان . الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه ، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين ، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك . فالمؤمن يقول : إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني . أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله ، وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل ، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال . الثاني : أنه تعالى قال : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز . والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً ، وبين وصفه بكونه متحركاً ، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها ، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع ، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً ، وذلك الشرط مشكوك فيه ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط . فهذا يقوي عين مذهبنا . والله أعلم . الحكم الثاني من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبّهِمْ } والمعنى : لهم مراتب بعضها أعلى من بعض . واعلم أن الصفات المذكورة قسمان : الثلاثة الأول : هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية ، وهي الخوف والإخلاص والتوكل . والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق . ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب ، وفي تنويره بالمعارف الإلهية . ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد ، فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب . كانت المعارف أيضاً لها درجات ومراتب ، وذلك هو المراد من قوله : { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبّهِمْ } والثواب الحاصل في الجنة أيضاً مقدر بمقدار هذه الأحوال . فثبت أن مراتب السعادات / الروحانية قبل الموت وبعد الموت ، ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة ، فلهذا المعنى قال : { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبّهِمْ } . فإن قيل : أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها ، فإنه يتألم قلبه ، ويتنغص عيشه . وذلك مخل بكون الثواب رزقاً كريماً ؟ والجواب : أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد ، وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم . الحكم الثالث والرابع أن قوله : { وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة . قال المتكلمون : أما كونه رزقاً كريماً فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم ، ومجموع ذلك هو حد الثواب . وقال العارفون : المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته . قال الواحدي : قال أهل اللغة : الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه ، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم . قال تعالى : { إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] وقال : { مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 لقمان : 10 ] وقال : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] وقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } [ الإسراء : 23 ] فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن . وقال هشام بن عروة : يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش ، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية ، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته . فإن قال قائل : ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب ، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين ، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات . قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله : { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين ، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين ، تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة ، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة ، الصلاة والزكاة .