Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 1-5)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه مسائل : المسألة الأولى : في قوله : { ٱسْمَ رَبّكَ } قولان : أحدهما : أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه والثاني : أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى . أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات أحدها : أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره ، فيكون ذلك نهياً على أن يدعى غيره باسمه ، كما كان المشركون يسمون الصنم باللات ، ومسيلمة برحمان اليمامة وثانيها : أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلاء وثالثها : أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ، ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقها ورابعها : أن يكون المراد بسبح باسم ربك ، أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [ الإسراء : 110 ] ونظير هذا التأويل قوله تعالى : { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران : أحدهما : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } ، أي صل باسم ربك ، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية والثاني : أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها ، قال الفراء : لا فرق بين { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } وبين { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ } قال الواحدي : وبينهما فرق لأن معنى { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ } نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبىء عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون ، و { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } أي نزه الاسم من السوء وخامسها : قال أبو مسلم : المراد من الاسم ههنا الصفة ، وكذا في قوله تعالى : { وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين ، قالوا : لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى ، ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال : سبح اسمه ، ومجد ذكره ، كما يقال : سلام على المجلس العالي ، وقال لبيد : @ إلى الحول ثم اسـم السـلام عليكمـا @@ أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة ، ونقول على هذا الوجه : تسبيح الله يحتمل وجهين الأول : أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال : { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 108 ] ، الثاني : أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به ، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي أسمائه وفي أحكامه ، أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض ، وأما في صفاته ، فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة ، وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق ، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور ، وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به ، وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها ، هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد ، وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه . بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا ، أو لرعاية مصالح العباد على ما هو قول المعتزلة . المسألة الثانية : من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الإسم نفس المسمى ، فأقول : إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع ، فلا بد ههنا من بيان أن الإسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ، فنقول : وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ ، وبالمسمى تلك الذات ، فالعاقل لا يمكنه أن يقول : الاسم هو المسمى ، وإن كان المراد ، من الاسم هو تلك الذات ، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى ، هو أن تلك الذات نفس تلك الذات ، وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل ، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة . وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل ههنا دقيقة ، وهي أن قولنا : اسم لفظة جعلناها اسماً لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان ، والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم إسماً لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين ، وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى ، هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة ، ولنرجع إلى الكلام المألوف ، قالوا : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحداً لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } سبح ربك ، والرب أيضاً اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه ، واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر وارداً بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه . ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال : { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74 ] ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه . المسألة الثالثة : روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى : { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " اجعلوها في ركوعكم " " ولما نزل قوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } قال : " " اجعلوها في سجودكم " " ثم روي في الأخبار أنه عليه السلام كان يقول : في ركوعه : " " سبحان ربي العظيم " " وفي سجوده : " " سبحان ربي الأعلى " " ثم من العلماء من قال : إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } أي صل باسم ربك ، ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ورد في بيان أوقات الصلاة . المسألة الرابعة : قرأ علي عليه السلام وابن عمر : سبحان ربي الأعلى * الذي خلق فسوى ولعل الوجه فيه أن قوله : { سَبِّحِ } أمر بالتسبيح فلا بد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله : سبحـان ربي الأعلى . المسألة الخامسة : تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله : { رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال ، لأنه تعالى إما أن يكون متناهياً أو غير متناه ، فإن كان متناهياً كان طرفه الفوقاني متناهياً ، فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول : بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضاً فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه ، وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهياً من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايراً للجانب غير المتناهي فيكون مركباً من جزأين ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود ، هذا محال . فثبت أن العلو ههنا ليس بمعنى العلو في الجهة ، مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة ، أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم ، وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم ، أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك ، والسورة ههنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم ، وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله : { ٱلأَعْلَىٰ } بقوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة . المسألة السادسة : من الملحدين من قال : بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه ، أما العظيم فقوله : { فَسَبّحْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلْعَظِيمِ } وأما الأعلى منه فقوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه . واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال ، ثم نقول ليس في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر ، بل ليس فيه إلا أنه أعلى ، ثم لنا فيه تأويلات . الأول : أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون ، فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا ، وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا ، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا . الثاني : أن قوله : { ٱلأَعْلَىٰ } تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه : الأَعْلَى أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته ، وهو كما تقول : اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل . والثالث : أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير . المسألة السابعة : روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول : " " لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة " " وروى : « أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ : سبح اسم ربك الأعلى ، الذي يسر على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشاً ، أليس ذلك بقادر على أن يحيـي الموتى ، ألا بلى ألا بلى فقالت عائشة : لا آب غائبكم ، ولا زالت نساؤكم في لزبة » والله أعلم . أما قوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح ، فكأن سائلاً قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة ، فما الدليل على وجود الرب ؟ فقال : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم السلام والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ، أنه قال : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] وحكى عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام : { فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ } [ طه : 49 ] ؟ قال موسى عليه السلام : { رَبُّنَا ٱلَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ } [ العلق : 21 ] هذا إشارة إلى الخلق ، ثم قال : { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [ العلق : 43 ] وهذا إشارة إلى الهداية ، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة ، فقال : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيراً لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر ، ومشاهدة الإنسان لها ، واطلاعه عليها أتم ، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة ، ثم ههنا مسائل : المسألة الأولى : قوله : { خَلَقَ فَسَوَّىٰ } يحتمل أن يريد به الناس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً أحدها : أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة ، على ما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه ، فقال : { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ } ، وثانيها : أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط ، وغير مستعد لسائر الأعمال ، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا وثالثها : أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات ، وأما من حمله على جميع الحيوانات . قال : المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس ، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، وأما من حمله على جميع المخلوقات ، قال : المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفاً بوصف الأحكام والإتقان ، مبرأ عن الفسخ والاضطراب . المسألة الثانية : قرأ الجمهور : { قدَّرَ } مشددة وقرأ الكسائي على التخفيف ، أما قراءة التشديد فالمعنى أنه قدر كل شيء بمقدار معلوم ، وأما التخفيف فقال القفال : معناه ملك فهدى وتأويله : أنه خلق فسوى ، وملك ما خلق ، أي تصرف فيه كيف شاء وأراد ، وهذا هو الملك فهداه لمنافعه ومصالحه ، ومنهم من قال : هما لغتان بمعنى واحد ، وعليه قوله تعالى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ } [ المرسلات : 23 ] بالتشديد والتخفيف . المسألة الثالثة : أن قوله : { قدَّرَ } يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه فقدر السموات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة والعظم ، وقدر لكل واحد منها من البقاء مدة معلومة ومن الصفات والألوان والطعوم والروائح والأيون والأوضاع والحسن والقبح والسعادة والشقاوة والهداية والضلالة مقداراً معلوماً على ما قال : { وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] وتفصيل هذه الجملة مما لا يفي بشرحه المجلدات ، بل العالم كله من أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، تفسير هذه الآية . وتفصيل هذه الجملة . أما قوله : { فَهَدَىٰ } فالمراد أن كل مزاج فإنه مستعد لقوة خاصة وكل قوة فإنها لا تصلح إلا لفعل معين ، فالتسوية والتقدير عبارة عن التصرف في الأجزاء الجسمانية وتركيبها على وجه خاص لأجله تستعد لقبول تلك القوى ، وقوله : { فَهَدَىٰ } عبارة عن خلق تلك القوى في تلك الأعضاء بحيث تكون كل قوة مصدراً لفعل معين ، ويحصل من مجموعها تمام المصلحة ، وللمفسرين فيه وجوه ، قال مقاتل : هدى الذكر للأنثى كيف يأتيها ، وقال آخرون : هداه للمعيشة ورعاه ، وقال آخرون : هدى الإنسان لسبل الخير والشر والسعادة والشقاوة ، وذلك لأنه جعله حساساً دراكاً متمكناً من الإقدام على ما يسره والإحجام عما يسوءه كما قال : { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] وقال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 87 ] وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج وقال الفراء : قدر فهدى وأضل ، فاكتفى بذكر إحداهما : كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] وقال آخرون : الهداية بمعنى الدعاء إلى الإيمان كقوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي } [ الشورى : 52 ] أي تدعو ، وقد دعى الكل إلى الإيمان ، وقال آخرون : هدى أي دلهم بأفعاله على توحيده وجلال كبريائه ، ونعوت صمديته ، وفردانيته ، وذلك لأن العاقل يرى في العالم أفعال محكمة متقنة منتسقة منتظمة ، فهي لا محالة تدل على الصانع القديم ، وقال قتادة في قوله : { فَهَدَىٰ } إن الله تعالى ما أكره عبداً على معصية ، ولا على ضلالة ، ولا رضيها له ولا أمره بها ، ولكن رضي لكم الطاعة ، وأمركم بها ، ونهاكم عن المعصية ، واعلم أن هذه الأقوال على كثرتها لا تخرج عن قسمين ، فمنهم من حمل قوله : { فَهَدَىٰ } على ما يتعلق بالدين كقوله : { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } ومنهم من حمله على ما يرجع إلى مصالح الدنيا ، والأول أقوى ، لأن قوله : { خَلَقَ فَسَوَّىٰ وٱلَّذي قَدَّرَ } يرجع إلى أحوال الدنيا ، ويدخل فيه إكمال العقل والقوى ، ثم أتبعه بقوله : { فَهَدَىٰ } أي كلفه ودله على الدين ، أما قوله تعالى : { وَٱلَّذِي أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } فاعلم أنه سبحانه لما بين ما يختص به الناس أتبعه بذكر ما يختص به غير الناس من النعم : فقال : { وَٱلَّذِي أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } أي هو القادر على إنبات العشب لا الأصنام التي عبدتها الكفرة ، والمرعى ما تخرجه الأرض من النبات ومن الثمار والزروع والحشيش ، قال ابن عباس : المرعى الكلأ الأخضر ، ثم قال : فجعله غثاء أحوى وفيه مسألتان : المسألة الأولى : الغثاء ما يبس من النبت فحملته الأودية والمياه وألوت به الرياح ، وقال قطرب واحد الغثاء غثاءة . المسألة الثانية : الحوة السواد ، وقال بعضهم : الأحوى هو الذي يضرب إلى السواد إذا أصابته رطوبة ، وفي أحوى قولان : أحدهما : أنه نعت الغثاء أي صار بعد الخضرة يابساً فتغير إلى السواد ، وسبب ذلك السواد أمور أحدها : أن العشب إنما يجف عند استيلاء البرد على الهواء ، ومن شأن البرودة أنها تبيض الرطب وتسود اليابس وثانيها : أن يحملها السيل فيلصق بها أجزاء كدرة فتسود وثالثها : أن يحملها الريح فتلصق بها الغبار الكثير فتسود القول الثاني : وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة ، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته ، كما قيل : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] أي سوداوان لشدة خضرتهما ، والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ، كقوله : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً } [ الكهف : 1 ، 2 ] أي أنزل قيماً ولم يجعل له عوجاً .