Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 6-7)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً بالتسبيح فقال : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] وعلم محمداً عليه السلام أن ذلك التسبيح لا يتم ولا يكمل إلا بقراءة ما أنزله الله تعالى عليه من القرآن ، لما بينا أن التسبيح الذي يليق به هو الذي يرتضيه لنفسه ، فلا جرم كان يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأزال الله تعالى ذلك الخوف عن قلبه بقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال الواحدي : { سَنُقْرِئُكَ } أي سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه ، والمعنى نجعلك قارئاً للقرآن تقرؤه فلا تنساه ، قال مجاهد ومقاتل والكلبي : كان عليه السلام إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى ، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي حتى يتكلم هو بأوله مخافة النسيان ، فقال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } أي سنعلمك هذا القرآن حتى تحفظه ، ونظيره قوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] وقوله : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] ثم ذكروا في كيفية ذلك الاستقراء والتعليم وجوهاً أحدها : أن جبريل عليه السلام سيقرأ عليك القرآن مرات حتى تحفظه حفظاً لا تنساه وثانيها : أنا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ بالمرة الواحدة حفظاً لا تنساه وثالثها : أنه تعالى لما أمره في أول السورة بالتسبيح فكأنه تعالى قال : واظب على ذلك ودم عليه فإنا سنقرئك القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين ويكون فيه ذكرك وذكر قومك ونجمعه في قلبك ، ونيسرك لليسرى وهو العمل به . المسألة الثانية : هذه الآية تدل على المعجزة من وجهين الأول : أنه كان رجلاً أمياً فحفظه لهذا الكتاب المطول من غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة ، خارق للعادة فيكون معجزاً الثاني : أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة ، فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل وقد وقع فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً ، أما قوله : { فَلاَ تَنسَىٰ } فقال بعضهم : { فَلاَ تَنسَىٰ } معناه النهي ، والألف مزيدة للفاصلة ، كقوله : { ٱلسَّبِيلاْ } [ الأحزاب : 67 ] يعني فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه ، والقول المشهور أن هذا خبر والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان ، كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن العرى ، واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلا يصح ورود الأمر والنهي به ، فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان مثل الدراسة وكثرة التذكر . وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ . ومنها أن تجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضاً خلاف الأصل ومنها أنا إذا جعلناه خبراً كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه ، وإذا جعلناه نهياً كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة ، وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول ، ولأنه على خلاف قوله : { لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] . أما قوله : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } ففيه احتمالان أحدهما : أن يقال : هذا الاستثناء غير حاصل في الحقيقة وأنه عليه السلام لم ينس بعد ذلك شيئاً ، قال الكلبي : إنه عليه السلام لم ينس بعد نزول هذه الآية شيئاً ، وعلى هذا التقدير يكون الغرض من قوله : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } أحد أمور أحدها : التبرك بذكر هذه الكلمة على ما قال تعالى : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } [ الكهف : 2423 ] وكأنه تعالى يقول : أنا مع أني عالم بجميع المعلومات وعالم بعواقب الأمور على التفصيل لا أخبر عن وقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة فأنت وأمتك يا محمد أولى بها وثانيها : قال الفراء : إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمد عليه السلام شيئاً ، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير ناسياً لذلك لقدر عليه ، كما قال : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الإسراء : 86 ] ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال لمحمد عليه السلام : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] مع أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ألبتة ، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه لا من قوته وثالثها : أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي قليلاً كان أو كثيراً أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم كان يبالغ في التثبت والتحفظ والتيقظ في جميع المواضع ، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء بقاءه عليه السلام على التيقظ ، في جميع الأحوال ورابعها : أن يكون الغرض من قوله : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } نفي النسيان رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء . القول الثاني : أن قوله : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } استثناء في الحقيقة ، وعلى هذا التقدير تحتمل الآية وجوهاً أحدها : قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى ، فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك ، فإذاً قد ينسى ولكنه يتذكر فلا ينسى نسياناً كلياً دائماً ، روى أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : نسيتها . وثانيها : قال مقاتل : إلا ما شاء الله أن ينسيه ، ويكون المراد من الإنساء ههنا نَسْخُةُ ، كما قال : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } [ البقرة : 106 ] فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها ، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به ، فيصير ذلك سبباً لنسيانه ، وزواله عن الصدور . وثالثها : أن يكون معنى قوله : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } القلة والندرة ، ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع ، بل من الآداب والسنن ، فإنه لو نسي شيئاً من الواجبات ولم يتذكره أدى ذلك إلى الخلل في الشرع ، وإنه غير جائز . أما قوله تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } ففيه وجهان أحدهما : أن المعنى أنه سبحانه عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام ، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان ، فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه والثاني : أن يكون المعنى : فلا تنسى إلا ما شاء الله أن ينسخ ، فإنه أعلم بمصالح العبيد ، فينسخ حيث يعلم أن المصلحة في النسخ .