Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 102-103)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : قوله : { وَءاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } فيه قولان : الأول : أنهم قوم من المنافقين . تابوا عن النفاق . والثاني : أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك ، لا للكفر والنفاق ، لكن للكسل ، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا ، واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله : { وَءاخَرُونَ } عطف على قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ } والعطف يوهم التشريك إلا أنه تعالى وفقهم حتى تابوا ، فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه . وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق . المسألة الثانية : روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، وقيل : كانوا عشرة . فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك ، وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته ، فلما قدم من سفره ورآهم موثقين ، سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم ، فقال : وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم ، فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها ، فتصدق بها وطهرنا ، فقال : " " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً " " فنزل قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] الآية . المسألة الثالثة : قوله : { ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } قال أهل اللغة : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة ، ومعناه أنهم أقروا بذنبهم ، وفيه دقيقة ، كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف . فإن قيل : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا ؟ قلنا : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة ، فأما إذا اقترن به الندم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل ، وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى ، كان هذا المجموع توبة ، إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } والمفسرون قالوا : إن عسى من الله يدل على الوجوب . ثم قال تعالى : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً } وفيه بحثان : البحث الأول : في هذا العمل الصالح وجوه : الأول : العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه ، والسيء هو التخلف عن الغزو . والثاني : العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك . والثالث : أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم . البحث الثاني : لقائل أن يقول : قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطاً . فما المخلوط به . وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق ، وأما قولك خلطته ، فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر ، ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن . واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق ، لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل واحد منهما كما كان على مذهبنا ، فإن عندنا القول بالإحباط باطل ، والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب ، والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب ، فقوله تعالى : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً } فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة ، وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ، ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة . والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما ، لأن الاختلاط صفة للمختلطين ، وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال ، فدل على بقاء العملين حال الاختلاط . ثم قال تعالى : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وفيه مباحث : البحث الأول : ههنا سؤال ، وهو أن كلمة { عَسَى } شك وهو في حق الله تعالى محال ، وجوابه من وجوه : الوجه الأول : قال المفسرون : كلمة عسى من الله واجب ، والدليل عليه قوله تعالى : { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ } [ المائدة : 52 ] وفعل ذلك ، وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام ، والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى ، أو لعل ، تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول ، فذكر كلمة { عَسَى } الفائدة فيه هذا المعنى ، مع أنه يفيد القطع بالإجابة . الوجه الثاني : في الجواب ، المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الإنكار والإهمال . البحث الثاني : قال أصحابنا قوله : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق الله تعالى ، والعقل أيضاً دليل عليه ، لأن الأصل في التوبة الندم ، والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلاً للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى ، وأيضاً فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين ، ثم يصير عظيم الندامة عليه ، وحال كونه راغباً فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب ، وحال صيرورته نادماً عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب ، فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة ، وعلى تحصيل الرغبة ، قالت المعتزلة : المراد من قوله : يتوب الله أنه يقبل توبته . والجواب : أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن ، إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره ، أما ههنا ، فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره ، فكيف يحسن التأويل . البحث الثالث : قوله : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل . وقوله : { وَءاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي ، وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة ، بل كان مقدمة للتوبة ، وأن التوبة إنما تحصل بعدها . ثم قال تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } وفيه مسائل : المسألة الأولى : اختلف الناس في المراد . فقال بعهضم : هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا ، وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة ، فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية في حقهم مجرى الكفارة ، وهذا قول الحسن ، وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة ، وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم . والقول الثاني : أن الزكوات كانت واجبة عليهم ، فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم . والقول الثالث : أن هذه الآية كلام مبتدأ ، والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات . وقالوا في الزكاة إنها طهرة ، أما القائلون بالقول الأول : فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة ، أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء ، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ، ولا بما بعدها ، وصارت كلمة أجنبية ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة ، قالوا : المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير ، وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة ، عن تخلفهم عن غزوة تبوك ، وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق ، فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ، ولم تضايقوا فيها ، لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة ، وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق . لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليماً أولى ، ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة . قوله : { تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات ، وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب ، وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة . وأما القائلون بالقول الأول : فقالوا : إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا ، فقال عليه الصلاة والسلام " " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، " " فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم ، وترك الثلثين لأنه تعالى قال : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } ولم يقل خذ أموالهم ، وكلمة { مِنْ } تفيد التبعيض . واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى . المسألة الثانية : هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة . الحكم الأول أن قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ } يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ ، بل المذكور ههنا قوله : { صَدَقَةٍ } ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان ، وإن كان في غاية القلة ، مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } أمراً بأخذ تلك الصدقة المعلومة ، فحينئذ يزول الإجمال . ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كيفيتها ، والصدقة التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أنه أمر بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ستة وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك من المراتب ، فكان قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } أمراً بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة ، وظاهر الآية للوجوب ، فدل هذا النص على أن أخذها واجب ، وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه الله . الحكم الثاني أن قوله : { مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً } يقتضي أن يكون المال مالاً لهم ، ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكاً للمالك في النصاب ، وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة . وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب . وإذا ثبت هذا فنقول : إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب ، فالذي هلك ما كان محلاً للحق ، بل محل الحق باق كما كان ، فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان ، وهذا قول الشافعي رحمه الله . الحكم الثالث ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون ، وفي مال الضمان ، وهو ظاهر . الحكم الرابع ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام ، فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام ، وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام ، وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ ، فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن الشافعي رحمه الله يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم ، وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة ، فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي ، والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً ؟ المسألة الثالثة : في قوله : { تُطَهّرُهُمْ } أقوال : القول الأول : أن يكون التقدير : خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم . القول الثاني : أن يكون تطهرهم معلقاً بالصدقة ، والتقدير : خذ من أموالهم صدقة مطهرة ، وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جارياً مجرى التطهير ، والله أعلم . إن على هذا القول وجب أن نقول : إن قوله : { وَتُزَكّيهِمْ } يكون منقطعاً عن الأول ، ويكون التقدير { خُذْ } يا محمد { مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ } تلك الصدقة ، وتزكيهم أنت بها . القول الثالث : أن يجعل التاء في { تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ } ضمير المخاطب ، ويكون المعنى : تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة . المسألة الرابعة : قال صاحب « الكشاف » : قرىء { تُطَهّرُهُمْ } من أطهره بمعنى طهره { وتطهرهم } بالجزم جواباً للأمر ، ولم يقرأ { وَتُزَكّيهِمْ } إلا بإثبات الياء . ثم قال تعالى : { وَتُزَكّيهِمْ } واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة ، فقيل : التزكية مبالغة في التطهير ، وقيل : التزكية بمعنى الإنماء ، والمعنى : أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء ، وقيل : الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية ، والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء . ثم قال تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { إن صلاتك } بغير واو وفتح التاء على التوحيد ، والمراد منه الجنس ، وكذلك في سورة هود { أَصَلاتكَ تَأْمُرُكَ } بغير واو وعلى التوحيد ، والباقون { صَلَوٰتَكَ } وكذلك في هود على الجمع ، قال أبو عبيدة : والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر . ألا ترى أنه قال : { أَقِيمُواْ الصلاة } والصلوات جمع قلة ، تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات ، قال أبو حاتم : هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] ولم يرد القليل وقال : { وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ } [ سبأ : 37 ] وقال : { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ } [ الأحزاب : 35 ] . المسألة الثانية : احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية ، وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات ، ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم ، فكان وجوب الزكاة مشروطاً بحصول ذلك السكن ، ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن . فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ، واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعاً لحاجة الفقير كما في قوله : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلْفُقَرَاء } [ التوبة : 60 ] وكما في قوله : { وَفِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] . المسألة الثالثة : لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ، فإذا قلنا صلى فلان على فلان ، أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية . إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللهم صل عليه ، فلهذا السبب اختلف المفسرون ، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : معناه ادع لهم ، قال الشافعي رحمه الله : والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ، وقال آخرون : معناه أن يقول اللهم صل على فلان ، ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام ، أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال : " " اللهم صل على آل أبي أوفى " " ونقل القاضي في « تفسيره » عن الكعبي في « تفسيره » أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام ، ومن الناس من أنكر ذلك ، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام . المسألة الرابعة : أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول ، والشيعة يذكرونه في علي وأولاده ، واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة ، فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ؟ ورأيت بعضهم قال : أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام ؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين ، فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ قال القاضي : إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ، والدليل عليه أنهم قالوا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال على وجه التعليم قولوا : " " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " " ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي ، فيتناول علياً ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم ، والله أعلم . المسألة الخامسة : كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع ، فقلت : إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم . فقوله : سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة ، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز ، قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخبر على المعلوم بأمر غير معلوم ، إلا أنهم قالوا : النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } [ البقرة : 221 ] . إذا عرفت هذا فههنا وجهان : الأول : أن التنكير يدل على الكمال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ } [ البقرة : 96 ] والمعنى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة . إذا ثبت هذا فقوله : « سلام » لفظة منكرة ، فكان المراد منه سلام كامل تام ، وعلى هذا التقدير : فقد صارت هذه النكرة موصوفة ، فصح جعلها مبتدأ ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله : « عليكم » والتقدير : سلام كامل تام عليكم . والثاني : أن يجعل قوله : « عليكم » صفة لقوله : « سلام » فيكون مجموع قوله : « سلام عليكم » مبتدأ ويضمر له خبر ، والتقدير : سلام عليكم واقع كائن حاصل ، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم . إذا عرفت هذا فنقول : إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام ، والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى ، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل ، وأيضاً فقوله : « وعليكم السلام » يفيد الحصر ، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } [ النساء : 86 ] ومن لطائف قوله : « سلام عليكم » أنها أكمل من قوله : « السلام عليك » وذلك لأن قوله : « سلام عليك » معناه : سلام كامل تام شريف رفيع عليك . وأما قوله : السلام عليك ، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام ، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية ، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية ، فكان قوله : « سلام عليك » أكمل من قوله : « السلام عليك » ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ « السلام » من الله تعالى ورد على سبيل التنكير ، كقوله : { وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] وقوله : { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَى } [ النمل : 59 ] وفي القرآن من هذا الجنس كثير . أما لفظ « السلام » بالألف واللام ، فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام ، كقول موسى عليه السلام : { قَدْ جِئْنَـٰكَ بِـئَايَةٍ مّن رَّبّكَ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ } [ طه : 47 ] وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال : { وَسَلَـٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ } [ مريم : 15 ] وهذا السلام من الله تعالى ، وفي قصة عيسى عليه السلام قال : { وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ } [ مريم : 33 ] وهذا كلام عيسى عليه السلام . فثبت بهذه الوجوه أن قوله : « سلام عليك » أكمل من قوله : « السلام عليك » فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله : سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات ، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق ، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر ؟ فمنهم من قال : الأصل فيها الشر ، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان ، بل نزيد ونقول : إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان ، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه ، فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه ، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر ، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه ، بل قالوا : هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات ، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه ، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف ، لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي ، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين ، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول ، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية ، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر . إذا ثبت هذا فنقول : دفع الشر أهم من جلب الخير ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد . والثاني : أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع ، أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع ، لأن الأول فعل والثاني ترك ، وفعل ما لا نهاية له غير ممكن ، أما ترك ما لا نهاية له ممكن ، والثالث : أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر ، وذلك يوجب حصول الألم والحزن ، وهو في غاية المشقة ، وأما إذا لم يحصل أيضاً إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر ، بل على السلامة الأصلية ، وتحمل هذه الحالة سهل . فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير ، وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات ، وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور ، وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان ، فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام ، وهو أن يقول « سلام عليكم » ومن لطائف قولنا « سلام عليكم » أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة ، والأمر كذلك بحسب العقل ، وبحسب الشرع . أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ * كِرَاماً كَـٰتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] والعقل أيضاً يدل عليه ، وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة ، فبعضها أرواح خيرة عاقلة ، وبعضها كدرة خبيثة ، وبعضها شهوانية ، وبعضها غضبية ، ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية ، وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب ، وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات ، تارة في اليقظة ، وتارة في النوم . وأيضاً الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية . يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة ، وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيراً فخير وأن شراً فشر . وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوباً بتلك الأرواح المجانسة له ، فقوله : « سلام عليكم » إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية . ومن لطائف هذا الباب أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة ، وقويت وتجردت ، ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة . فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة الأنبياء ، ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة ، والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة ، حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب ، فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ، ويقوي روحه بمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم . إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره : « سلام عليكم » حدث بينهما تعلق شديد ، وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ، ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب ، فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام ، والله أعلم . المسألة السادسة : قوله : { إنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } قال الواحدي : السكن في اللغة ما سكنت إليه ، والمعنى : أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك ، وللمفسرين عبارات : قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعاؤك رحمة لهم . وقال قتادة : وقار لهم . وقال الكلبي : طمأنينة لهم ، وقال الفراء : إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم . وأقول : إن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة ، فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم ، فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم ، وانتقلوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية ، وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة . ثم قال : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لقولهم : { عَلِيمٌ } بنياتهم .