Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 37-37)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : في { ٱلنَّسِىء } قولان : القول الأول : أنه التأخير . قال أبو زيد : نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه ، والاسم النسيئة والنسء ، ومنه : أنسأ الله فلاناً أجله ، ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي : النسىء مصدر كالنذير والنكير ، ويحتمل أيضاً أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل : بمعنى مقتول ، إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول ، لأنه إن حمل على ذلك كان معناه : إنما المؤخر زيادة في الكفر ، والمؤخر الشهر ، فيلزم كون الشهر كفراً ، وذلك باطل ، بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء ، وهو التأخير . وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ، ليست له تلك الحرمة . وروي عن ابن كثير من طريق شبل : النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي ، كقولهم : نسأت ، أي أخرت وروي عنه أيضاً : النسىء مخففة الياء ، ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل : أرجيت وأرجأت . وروي عنه : النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي . والقول الثاني : قال قطرب : النسىء أصله من الزيادة يقال : نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه ، وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه ، ونسأت المرأة حبلت ، جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن ، وقيل للناقة : نسأتها ، أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي : الصحيح القول الأول ، وهو أن أصل النسىء التأخير ، ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ، ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها ، لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعاً من حسن المسير ، ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه . إذا عرفت هذين القولين فنقول : إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية ، فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات ، لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة ، فعلموا أن بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا ، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ، ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين ، احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران : أحدهما : أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات . والثاني : أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره ، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر ، وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة ، فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران : أحدهما : الزيادة في عدة الشهور . والثاني : تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين ، ويفيد الزيادة عند الباقين ، وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين . والحاصل من هذا الكلام : أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا ، وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية ، فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية ، واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا ، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم ، فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم ، وإنما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر ، لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم ، ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر ، وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب ، وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب ، فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرداً عن طاعته ، وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر ، وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات ، وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهاً آخر فقالوا : إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة ، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمٰعيل عليهما السلام ، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا : إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن ، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم . قال الواحدي : وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد ، بل كان ذلك حاصلاً في كل الشهور ، وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه . واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر ، فقال عليه السلام : " " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شهراً " " وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها . المسألة الثانية : قوله تعالى : { زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ } معناه : أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر ، فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفاً من الكفر زيادة في الكفر . احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول : الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار ، قال : لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماماً ، فكان ترك هذا التأخير إيماناً ، وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار . فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيماناً قال المصنف رضي الله عنه : هذا الاستدلال ضعيف ، لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلاً من الأشهر القمرية ، فإذا اعتبرنا السنة الشمسية ، فربما وقع الحج في المحرم مرة وفي صفر أخرى . فقولهم : بأن هذا الحج صحيح يجزى ، وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمٱعيل عليهما السلام ، فكان هذا كفراً بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار . أما قوله تعالى : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم ، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضاً ، لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال . وقراءة أهل الكوفة { يضل } بضم الياء وفتح الضاد ، ومعناه : أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور ، فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَـٰلِهِمْ } أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه . وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه : أحدها : يضل الله به الذين كفروا . والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا . والثالث : وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم ، وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان . واعلم أن الكناية في قوله : { يُضِلُّ بِهِ } يعود إلى النسىء وقوله : { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا } فالضمير عائد إلى النسىء . والمعنى : يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً . قال الواحدي : يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ، ويحرمون التأخير عاماً آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه . قال رضي الله عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين ، وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس ، إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر ، وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول ، وحملنا قوله : { إِنَّمَا ٱلنَّسِىء } زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سبباً في زيادة الكفر ، وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل . أما قوله : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } قال أهل اللغة يقال : واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه . قال المبرد : يقال : تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ، ومعنى واحد . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنهم ما أحلوا شهراً من الحرام إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام ، لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة ، مطابقة لما ذكره الله تعالى ، هذا هو المراد من المواطأة . ولما بين تعالى كون هذا العمل كفراً ومنكراً قال : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَـٰلِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قال ابن عباس والحسن : يريد زين لهم الشيطان هذا العمل والله لا يرشد كل كفار أثيم .