Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 10-10)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إعلم أنّه كما انّ للأبدان صحّة ومرضاً ودواءً وغذاءً ، فكذلك للقلوب صحّة ومرض ودواء وغذاء . وذلك لأنّ الصحّة عبارةٌ عن صفةٍ توجِب صدورَ الأفعال عن موضوعها مستقيمة سليمة ، والمرض له صفةٌ توجِب وقوعَ الأفعال عنه مختلّة ؛ ولما كنت حياة القلب إنّما هي بنور الإيمان بالله واليوم الآخر ، كما انّ حياة البدن بقوّة الحسِّ والحركة ، وكان الفعل الخاص به : إنما هو ذكر الله وطاعته وعبوديّته ، كما إن الفعل الخاصّ بالبدن : الحسّ والحركة - كالأكل والشرب والجُماع والمشي وغيرها - فإذا وقع في القلب من الصفات ما صار مانعاً له من هذه الآثار ، كانت تلك الصفات أمراضاً ، وتلك الصفات بعضها سموم قتّالة : كالجهل المركّب ، والنفاق ، والجحود ، والشكّ ، والعناد ، والحسد ، واللداد وغير ذلك من الصفات المهلكات ، فإنّها اذا استحكمت ورسخت في القلب ، فهي غير قابلة للعلاج . وبعضها ليست كذلك ، كالصغائر من السيّئات ، والتفاريق من الخطئيات . واعلم أنّ الدنيا دار المرض ، وليس على ظَهْر الأرض إلا المرضىٰ ، كما ليس في بطنها إلاّ الأموات ، وإنّما توجد الصحّة والسلامة المطلقة في العالَم الأعلى من طبقات الجنان ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] . ومرضى القلوب ها هنا أكثر من مرضى الأبدان ، والعلماء أطبّاء القلوب ، وحكّام الشريعة قوّام دار المرضىٰ . وكل مريضٍ لم يقبل العلاج بمداواة العالِم ، سُلّم الى الحاكم ليكفّ شرّه عن باقي الناس ، كما يسلّم الطبيبُ المريضَ الذي لا يحتمي ، أو الذي غلب علي الجنون الى القيّم ليقيّده بالسلاسل والأغلال ، ويكفّ شره عن سائر الناس . وإنّما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل : أحدها : أنّ صاحب القلب المريض لا يدري أنّه مريضٌ . وثانيها : أن عاقبتَه غيرُ مشاهَدةٍ في هذا العالَم ، بخلاف مرض البدن فإنّ عاقبتَه - وهي موت البدن - ، مشاهدة تنفر الطباع منه ، وما بعد الموت غير مشاهَد لقلّة النفرة عن موت القلب الذي هو عاقبة مرضه ، وإن علمها مرتكبُ الأمراض القلبيّة والكبائر الموبقة ، فلذلك نراه يتّكل على فضل الله ، ويجتهد في علاج البدَن . وثالثها : وهو الداء العضال ، وهو إمّا فقْد العلماء الذين هم الأطبّاء ، كما في هذه الأعصار ، أو فقد الإيمان بما يقول الطبيبُ ، كما في عصر النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأعصار ورثته ( عليهم السلام ) . فنقول : يحتاج المريض الى التصديق بأمور : الأول : أنّ للمرض والصحّة أسباباً يتوصّل اليها بالاختيار على ما رتّبه مسبّب الأسباب . وهذا هو الايمان بأصل الطبّ ، فإنّ من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ، فيزداد مرضُه الى أن يلحق به الهلاك ، وهذا وِزانه في مرض القلوب هو الإيمان بأصل الشريعة ، وهو أن للحياة الأخرويّة والسعادة الدائمة سبَباً هو الطاعة ، وللموت الأخروي والشقاوة الأبديّة سبباً هو المعصية ، وهذا - وهو الإيمان بأصل الشرايع - لا بدّ من حصوله إمّا عن تحقيق أو تقليد ، وكلاهما من جملة الإيمان . الثاني : أنّه لا بدّ أن يعتقد المريض في طبيب معيّن أنّه عالِمٌ بالطبّ ، حاذقٌ فيه ، صادقٌ فيما يخبر به ويعبِّر عنه ، لا يلبَس ولا يكذب . فإنّ ايمانَه بأصل الطبّ لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان . ووزانه فيما نحن فيه : العلمُ بصدق الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، والإيمان بأنّ كل ما يقوله حقٌّ وصدقٌ ، ولا كذبَ فيه ولا خُلف . الثالث : أنّه لا بدّ أن يُصغي الى الطبيب فيما يحذّره من تناول الفواكه والأشياء المضرّة على أكله ، حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء ، فتكون شدّة الخوف باعثاً له على الاحتماء ، ووِزانُه من الدين : الإصغاء الى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى ، والترهيب من ارتكاب الذنوب واتّباع الهوى ، والتصديق بما يلقى الى سمعه من ذلك من غير شكّ وريبة ، حتّى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر ، الذي هو الركن في العلاج . والركن الآخر : هو العلْم بما ذكره الطبيب ، فإنّ الشفاءَ لا يحصل إلاّ بالدواء ، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء ، إذ لا معنى للدواء إلاّ مناقضة أسباب الداء ، فكلّ داء حصل من سبب ، فدواؤه رَفْعُ ذلك السبب وحلّه وإبطاله ، ولا يبطل الشيء إلاّ بضدّه ، والضدّان متساويان في المعرفة والجهالة ، فلا سبب للإصرار بالمعاصي إلا الجهل والغفلة ، والشهوة والهوى ، ولا يضادّ الغفلة إلاّ العلم ، ولا يضادّ الهوى إلاّ الصبر على قطع الأسباب المحرّكة للهوى ، والغفلة رأس الخطايا ، قال الله تعالى : { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [ النحل : 108 - 109 ] . فلا دواء إذن لأمراض القلوب إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر ، كما يجمع في السكنجبين بين حلاوة السكّر وحُموضة الخلّ ، ويُقصد بكلّ واحد منهما غرض آخر في العلاج ، بمجموعهما تنقمع الأسباب المهيّجة للصفراء ، فهكذا ينبغي أن يفهم علاج القلب عن مرضه ، فإنّه لا بدّ فيه أصلان : العلم والتقوى ، والقرآن كلّه في بيانهما كما لا يخفى على أهل البصيرة . وقد مرّ أنّ فائدة الأعمال الشرعيّة كلّها - وجوديّة كانت أو عدميّة - تصفية القلب عمّا يكدّره ويمرضه ويحجبه عن مطالعة الحقّ والعلم بالله وصفاته وأفعاله ، هي الغاية القصوى لوجود الانسان وسائر الأكوان . فصل [ مبدأ الخير والشر ] لما كانت الزيادة من جنس المزيد عليه ، وقد علمت أنّ مرض القلب هو الصفات المضادّة لأفعاله وآثاره الخاصّة ، التي أصلها الإيمان بالله ، والمعرفة بآياته وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر ، فرئيس الأمراض القلبيّة هو الكفر بالله ، والجهل بهذه الأمور ، فقوله : { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } محمولٌ على الكفر والجهل ؛ فيلزم أن يكون الله فاعلاً للكفر والجهل . وهذا ممّا استشكله جماعة كالثنويّة والمجوس ، الذين جعلوا فاعلَ الشرور مبدعاً آخر غير فاعل الخيرات ، وقالوا بأصلين قديمين ، هما عندهم : النور والظلمة ، أو يزدان وأَهْرِمَن . لأنّ هذا الإشكال بعينه هي الشبهة المشهورة ، وهي : أن في العالَم خيراتٍ وشروراً ، والموجود الممكنيّ لا بدّ فيه من مؤثّر ، وينتهي الى مؤثّر قديم دفعاً للدور والتسلسل ؛ والمؤثّر في الخيرات والشرور لا يمكن أن يكون مبدأ واحداً ، وإلاّ لكان أمر واحد خيِّراً وشرّيراً معاً . فخالِق الأنوار والخيرات هو القديم المسمّى بالنور عندهم ، أو يزدان ، وخالق الظلمات والشرور ، هو القديم المسمّى بالظلمة عندهم ، أو أهر من وقال تعالى دفعاً لهذا الاعتقاد : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] . وهكذا قالت القدرية الذين هم مجوسُ هذه الأمّة أنّ في هذا العالَم يوجد الكفر والمعاصي كما يوجد الإيمان والطاعات ، والله تعالى منزّه أن يكون خالِق الكفر والمعصية ، فكلّ معصيةٍ وكفرٍ فمنشأ صدروها وفاعلها وخالِقها هو الشيطانُ أو العبدُ ، وإنّ الله تعالى هو فاعلُ الإيمان والطاعات ، وقال تعالى رداً عليهم : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] . وقوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] . وأمّا حلّ الشبهة فهو أنّ الفائضَ من الباري جلّ اسمه ليس إلاّ نور الوجود والرحمة ، وهذا النور ينقلب ظلمة من جهة خصوصيّة بعض القوابل المظلمة بواسطة هيئات ردية غاسقة ، كالشمس التي شأنها الإضاءة والتنوير للأشياء المحاذية لها ، وإفادة الحياة وإنعاش الحرارة الغريزيّة للمركّبات ، لكنها قد توجب اسوداد بعض الأجسام ، وتعفين بعض الموادّ الفاسدة ، لخصوصيّة عروض الهيئات المفسدة العائقة لها عن قبول الصلاح والاعتدال ، والحكماء ذكَروا في رفع شهبة الثَنَويّة انّ الأشياء على خمسة احتملات . أحدها : الخير الذي لا شرّ فيه أصلاً . والثاني : الشرّ الذي لا خير فيه أصلاً . والثالث : ما تكون خيريّته غالبةً على الشريّة ( فيه ) . والرابع : عكس ذلك . والخامس : ما يتساوى فيه الأمران . وذات الواجب الخيّر ، لمّا لم يجز أن يصير مبدءاً للشرور ، وجَب أن لا يصدر عنه من هذه الأقسام إلاّ قسمان ، أي الأول الذي لا شريّة فيه ، والقسم الثالث الذي خيريّته غالبة على شريّته ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرٌّ كثير . فنقول : الثنويّة القائلة بأن الله لا يصير مبدءاً لما فيه شرٌّ ، أمكن إلزامهم ، وقد تفاخَر أرسطو وزير إسكندر الرومي الملقّب عندهم بالمعلّم الأول بذلك الكلام . فإن قال قائلٌ : انّه فقد جاز أن يصدر عن الأول تعالى خير محض مبرأ عن الشر ؟ فيقال : إنّ هذا لم يكن جائزاً في مثل هذا القسم من القسمين المذكورين ، وإن كان جائزاً في الوجود المطلق ، على أنه ضربٌ منه غير هذا الضرب ، وذلك ممّا قد فاض عنه تعالى : كالموجودات العلويّة ، والملائكة السماويّة ، والنفوس الشريفة ، والعقول القادسة ، وبقي هذا النمط في الإمكان ، ولم يمكن ترك ايجاده لأجل ما يخالطه من الشرّ ، لما علمت من أنّ تركَه شرّ الشرّين ، فكونه خير الشرّين فالكلّ من عند الله . وقد مرّ في المفاتيح انّه من الواجب في الحكمة أن يكون في العالَم مظاهر جميع الصفات الإلٰهيّة ، فلا بدّ لكل من الوصفين المتقابلين من مظهرٍ ، فالكفر ونتائجه ومباديه : كالشياطين ومن ضاهاهم من الأشرار ، مظاهر القهر والغضب ، والإيمان ونتائجه ومباديه : كالملائكة ومن والاهم من الأخيار ، ومظاهر اللطف والمحبّة . ثمّ لا اعتراض في تخصيص كلّ بما يخصّه ، لأن هذا الترتيب من لوازم الوجود والإيجاد . فإن قلت : ما ذكرتَه من التوحيد في الأفعال متحقّق ظاهر مهما ثبت انّ الوسائط والأسباب مسخّرات ، وكلّ ذلك ظهر إلاّ في أفاعيل الإنسان وحركاته ، فإنّه يتحرك إنْ شاء ، ويسكن إن شاء ، فكيف يكون مسخّراً في فعله ؟ فنقول : اعلم أنّه لو كان الإنسان مع هذا بحيث يشاء إن شاء ، ولا يشاء إن لم يشأ ، لكان هذا مزلّة القدم وموضع الغلَط ، ولكن علمته أنّه يفعل إذا شاءَ ، وما يشاء يشاءُ ، شاء أم لم يشأ فليست المشيّة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرتْ الى مشيئة أخرى وتسلسل الأمر الى غير النهاية ، وإذا لم تكن المشية اليه ، بل مهما وُجدت المشيّة التي شأنها تصريف القدرة الى مقدورِها ، انصرفت القدرة لا محالة ؛ ولم يكن لها سبيلٌ الى المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورةً بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيّة ، والمشيّة تحدث ضرورةً في القلب ، فهذه ضروريات مترتّبة بعضها على بعض ، وليس للعبد أن يدفع وجودَ المشيّة ، ولا انصراف القدرة وانبعاثها الى المقدور بعدها ، ولا وجود بعث المشيّة للقدرة ، فهو مضطرٌّ في الجميع . فإن قلت : فهذا جبرٌ محضٌ ، والجبر يناقض الاختيار ، وأنت لا تنكر الاختيار وكونه سبباً للفعل ، لا كما زعمته الأشاعرة القائلين بوجود الاختيار من غير أن يكون سببيّة ، وهو المسمّى عندهم بالكسب . قلت : لو انكشف لك الغطاء ، لعرفتَ أنّ الإنسان في عين الاختيار مجبورٌ ، فهو إذن مجبورٌ على الاختيار ، وأنّه مضطر في صورة مختار . وهذا كما ورَد في الحديث الذي مرَ ذكره عن الصادق ( عليه السلام ) : " لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين " وهذا معنى ما قيل : الوجوبُ بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّده ، يعني : أنّ الاضطرار في الاختيار يؤكّد وجودَ الاختيار ؛ لأن الشيء ما لم يجب وجودُه لا يوجَد ، فالاختيار أيضاً من جملة الأشياء الممكنة التي في وجودها أن تصير أولاً واجباً حتّى تتحقّق ، وإذا وجَب الاختيار حتّى يوجَد ، فقد سبقَه الاضطرار المؤكِّد لوجوده . وإن أردتَ أن تفهم معنى الاختيار ؛ - فإنّ أكثر الناس جاهلون بمعناه - فلنشرح إيّاه شرحاً وجيزاً فنقول : لفظ الفعل يطلق في الإنسان على ثلاثة أوجه ، إذ يقال : الإنسان يكتب بالإصبَع ، ويتنفّس بالرئة والحنجرة ، ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه ، فهذه أنحاء من أفاعيله في هذا العالَم - عالم الشهادة - وله ضروب أُخرى من الفعل في عالَم الغيب ، ليس هذا المقام موضعُ بيانه ، فإذن يُنسب اليه ها هنا الخرْقُ في الماء ، والتنفّس والكتابة ، وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحدٌ ، ولكنّها تختلف وراء ذلك في أمور أخرىٰ ، فأُعرب لذلك عنها بعباراتٍ ثلاث : فسمّي خرقه للماء - عند وقوعه على وجهه - فعلاً طبيعياً ، وسمّي تنفّسه فعلاً إراديّاً ، وسمّيت كتابته فِعلاً اختيارياً ، والجبر ظاهرٌ في الفعْل الطبيعي ، لأنه مهما وقف على وجه الماء انخرق لا محالة ، فيكون الخرق بعد التخطّي من سطع الماء الى الماء ضرورياً ، والتنفّس في معناه ، فإن نسبة حركة الحنجرة الى ارادة التنفّس كنسبة خرق الماء الى ثقل البدن ، فمهما كان الثقل موجوداً وجد الانخراق بعده ، وليس الثقل اليه ، فكذلك ليست الإرادة ، ولذلك إذا قصد عين الإنسان بابرة طبق الأجفان بالاضطرار ، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لا يقدر ، مع انّ تغميض الأجفان فعلٌ إرادي ، لأنه مسبوق بشعور وإرادة ، ولكنّه إذا تمثّل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك ، حديث الإرادة للتغميض ضرورة ، وحدثت الحركة بها ، ولو أراد أن يترك ، لم يقدر عليه مع انّه فعل بالقدرة والإرادة ، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضرورياً . وأما الثالث : وهو المسمّى بالاختياريّ - ويقال له القصد - فهو مظنّة الالتباس كالكتابة والمشي . وهو الذي يقال فيه : إن شاء فعلَ وإن لم يشأ لم يفعلْ ، وتارةً يشاء وتارةً لا يشاء . فيظنّ من هذا أنّ الأمر إليه ، ومبناه الجهل بمعنى الاختيار ، فليكشف عنه ، وبيانه أنّ الإرداة مع العلم الذي يحكم بأنّ الشيء موافقٌ لك ، فإنّ الأشياء تنقسم الى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنّه يوافقك من غير تردّد وتحيّر ، والى ما يتردّد العقل فيه ، فالذي يقطع به من غير تردّد - كما يقصد عينك بابرة أو بدنك بسيف - فلا يكون في علمك تردّد في أنّ دفع ذلك خيرٌ وموافقٌ لك ، فلا جَرَمَ تنبعث الإرادة بالعلم ، والقدرة بالإرادة ، وتحصل حركة الأجفان بالدفع ، وحركة اليد بدفع السيف ، وذلك من غير رويّةٍ وفكرٍ . ومن الأشياء ما يتوقّف التمييز والعقل فيه ، فلا يدري أنّه موافق أم لا ، فيحتاج الى رويّة وفكر حتّى يتبيّن أنّ الخير في الفعل أو الترك ، فإذا حصل بالفكر انّ أحدهما خير ، التحق ذلك بالذي يقطع به انّه خيرٌ من غير رويّة وفكر ، وانبعثت الإرادة ها هنا كما تنبعث لدفع حوالة السيف والسنان من غير رويّة وفكر . فإذا انبعثت الإرادة للفعل الذي ظهر للعقل انّه خيرٌ ، سمّيت هذه الإرادة اختياراً ، مشتقّاً من الخير ، أي هو انبعاث الى ما ظهرَ للعقل انّه خير ، وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلاّ الى ما انتظرت تلك الإرادة ، وهو ظهور خيريّة الفعل في حقه ، إلا أنّ الخيريّة في دفع السيف ، ظهرت من غير رويّة بل على البديهة ، وهذا افتقر الى الرويّة . فالاختيار عبارةٌ عن إرادة خاصّة ، هي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إداركه توقّف ، ولا يمكن أن تنبعث الإرادة إلاّ بحكم الحسّ والتخيّل ، كما في القسم الأول منها ، أو بحكم جزم من العقل كما في الثاني ، فداعِية الإرادة - وهي كون الفعل موافقاً - مسخّرة لحكم العقل أو الحسّ ، والقدرة مسخّرة للداعية ، والحركة مسخّرة للقدرة ، والكلّ يصدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري ، فإنما هو محلٌّ ومَجرى لهذه الأمور ، فأما أن يكون فاعلاً فكلاّ . فإذاً معنى كون الإنسان مجبوراً ؛ أنّ جميع ذلك واردٌ عليه حاصل فيه من غيره لا منه ، ومعنى كونه مختاراً ؛ أنّه محلّ الإرادة لا غير ، فاذاً هو مجبور على الاختيار . ففعل النار جبر محض ، وفعل الله اختيار محض ، لأنّ الاختيار والداعي فيه عين ذاته ، وفعل الإنسان منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار . [ التوحيد الافعالي ] فإن قلت : فهل تقول : إنّ العلمَ ولّد الإرادةَ ، والإرادة ولّدت القدرة ، والقدرة ولّدت الحركة ، وإنّ كلَ متأخّرٍ حدث من المقدّم ؟ فإن قلت ذك ، فقد حكمتَ بحدوث شيء لا من قدرة الله ، وإن أبيت ذلك ، فما معنى ترتّب البعض من هذا على البعض . فاعلم أنّ الفرق حاصل بين ما منه الشيء وما به الشيء ، فإنّ أجزاء الحركة والزمان حصَل بعضُها من بعض ، ولم يحصل بعضها بسبب بعض ، وكذلك المركّب - كالمعجون - حاصلٌ من أجزائه ، وليس بحاصل بسبب أجزائه . فالقول بأنّ بعض تلك الأمور حصل بسبب بعض آخر منها ، جهلٌ محض ، سواء عبّر عنه بالتولّد أو بغيره ، بل حوالة جميعها على المعنى الذي يعبّر عنه بالقدرة الأزليّة ، وهو الأصل الذي لم يقف كافّة الخلق على كُنه معناه إلاّ الراسخون ، وليس عند غيرهم منه إلاّ مجرد لفظه ، مع نوع تشبيه له بقدرتنا ، وهو بعيدٌ عن الحقّ ، وبيان ذلك يطول ولكن لا يتقدّم متقدّمٌ ولا يتأخّر متأخرٌ إلاّ بالحقّ واللزوم فكذلك جميع أفعال الله المترتّبة ، فإنّ لها ضرباً آخر من التقدّم لبعضها على بعضٍ ، غير التقدّم المسمّى عند الفلاسفة بالتقدّم بالطبع ، وغير الذي سمّوه التقدّم بالعلّية ، فإنّهما متّحققان بين المهيّات بعضها مع بعض بواسطة ، وهذا الذي كلامنا فيه ، تقدّم وتأخّر بين الموجودات التي هي أنوارٌ مترتّبة في الإفاضة عن الحقّ ، أو بين مراتب تنزّلات الحقّ الأول ، وقد سمّيناهما التقدّم والتأخّر بالحقيقة بالاعتبار الأول ، والتقدّم والتأخّر بالحقّ بالاعتبار الثاني ، وهذا ممّا لا يظهر إلاّ للخواصّ المكاشفين بنور الحقّ ، ولا ينفع ذكره للحمقىٰ الجاهلين المجانين ، إلاّ فتنة وتحريكاً لسلسلة جنونهم ، وحلاّ لعقائد ظواهر الشريعة عن ألسِنتهم وأيديهم . وبالجملة ، فلولا الترتيب بين الموجودات ، لبطل النظامُ ، ولم تكن الغايات مترتّبة على الأشياء ، ولكان فعلُ الله على ذلك التقدير الذي توهّمه جماعةٌ من الناس - كأصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم - عبثاً وتهذاراً وهباءً ولعباً ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الدخان : 38 - 39 ] . فكلّ ما بين السماء والأرض على ترتيب واجب وحقٍ لازم ، لا يتصور أن يكون إلاّ كما حدَث ، وعلى الترتيب الذي حدث ، فما تأخَّر متأخّر إلاّ لانتظار ما يتوقّف عليه ويشترط به ، والموقوف بعد الموقوف عليه ، والشرط قبل المشروط . وعكس هذا الترتيب وخلافُه محالان ، والمحالُ لا يوصف بكونه مقدوراً ، فلا يتأخّر العلم عن النظر إلا لفقد شرط الحياة ، ولا تتأخّر عنها الارادة بعد العلم إلاّ لفقد شرط العلم ، وكل ذلك على منهاج الواجب وترتيب الحقّ ، ليس في شيء من ذلك لعبٌ واتّفاقٌ ، بل كل ذلك بحكمة وتدبير . وتفهيم ذلك عسيرٌ ، على الأفهام غير يسير ، وللفرق بين سبب به وسبب منه ، وإطلاق الفاعل على كلّ من هذين المعنيين ، نسب الله الأفعال في القرآن مرّة الى الملائكة ، ومرّة الى العباد ، ونسبَها مرّة الى نفسه ، فقال في الموت : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] ثمّ قال : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] . وقال : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] . ثم قال : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] . والنافخ جبرائيل . وقال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] . وقال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] . والتعذيب هو عين القتل ، بل صرّح وقال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] . ثم قال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهراً ، لكن معناه : رميتَ بالمعنى الذي يكونُ العبدُ رامياً ، وما رميتَ بالمعنى الذي يكون الحقُّ رامياً ، إذ هما معنيان مختلفان . وعن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في وصف مَلَك الأرحام أنّه يدخل الرحم فيأخذ النطفة بيده : ثمّ يصوّرها جسداً ، فيقول : يا ربّ أذكَر أم أنثى أسويّ أم معوّج ؟ فيقول الله ما شاء ، ويخلق المَلَك . وفي لفظ آخر : ويصوّر الملك فيها الروحَ بالسعادة والشقاوة . وقال بعض السلف : إن المَلَك الذي يقال له الروح ، هو الذي يولجُ الأرواح في الأجسام ، وإنّه يتنفس بوضعه ، فيكون كل نفَس من أنفاسه روحاً تلج في جسم . وقال بعض العرفاء : ما ذكَره من مثل هذا المَلَك صفته ، فهو حقّ بمشاهدة أرباب القلوب ببصائرهم ، وأما كون الروح عبارة عنه ، فلا يمكن أن يعمل إلاّ بالنقل . والحكم به تخمين مجرّد . وكذلك ذكر الله في القرآن الأدلة والآيات في الأرض والسمٰوات وقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] . ثم قال : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] . وقال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] . فبيّن أنّه الدليل على نفسه . وليس ذلك بمتناقض ، بل طرق الاستدلال ، فكم من طالب عرف الحق بالنظر الى الموجودات ، وكم من طالب عرف الحق بالنظر إليه ، وبه كلّ الموجودات . كما قال بعضهم : عرفتُ ربّي بربّي ، ولولا ربّي لما عرفتُ ربّي . وقد وصف الله نفسَه بأنه المحيي والمميت ، ثمّ فوّض الموتَ والحياة الى ملَكين ، ففي الخبر : إن ملَكَ الموتِ وملكَ الحياة تناظرا ، فقال ملك الموت : أنا أُميتُ ، وقال ملك الحياة : أنا أُحيي الأمواتِ . فأوحى الله إليهما : كونا على عملكما وما سُخِّرتما له من الصُّنع . فإنّي أنا المميتُ وأنا المحيي . لا مميتَ ولا محيي سواي . فالمحقّق أضافَ الكلّ الى الله ، لأنه عرف الحقّ والحقيقة . ولمّا جرى بيتُ لَبيد على لسان بعض الأعراب ، قصداً أو اتّفاقاً ، صدّه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) فقال : أصدق بيتٍ قاله شاعر ، قول لبيد : @ ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ @@ أيّ كلّ ما لاَ قِوامَ له بنفسه ، وإنّما قِوامه بغيره ، فو باعتبار نفسه باطلٌ ، وإنّما حقيّته وحقيقته بغيره لا بنفسه ، فإذاً لا حقّ بالحقيقة إلا القيّوم الحقّ الذي ليس كمثله شيء ، فإنّه قائم بذاته ، وكل ما سواه قائمٌ بقدرته ، فهو الحقّ وما سواه باطلٌ ، ولنرجع الى ما كنّا بصدده . فصل [ رد احتجاجات المعتزلة ] إعلم أنّ المعتزلة لما كان أصل اعتقادهم أنّ فاعلَ الكفر والجهل والظُّلمة وسائر الشرور الواقعة في هذا العالَم هو غير الله ؛ أشكلَ عليهم قوله : { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، قالوا : لا يجوز أن يكون مراد الله منه الكفرَ والجهلَ لوجوه مذكورة في التفسير الكبير من غير جواب ، ونحن نذكرها ونجيب عنها : الأول : أنّ الكفار كانوا في غاية الحرص على الطعن في القرآن ، فلو كان المعنى ذلك ، لقالوا للنبي ( صلّى الله عليه وآله ) : إذا فَعل الله الكفُر فينا ، فكيف يأمرنا بالإيمان ؟ والجواب : أولاً : بالنقض ، لأنّ ما ذكروه جارٍ بعينه في مثل قوله : { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ } [ الجاثية : 23 ] . وقوله : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ فاطر : 8 ] وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الكهف : 57 ] . إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنه تعالى أبعدَ الكفار والمنافقين عن دار كرامته ، وصدّهم عن سبيله ، وجنَّبهم عن الجنّة . وثانياً : إن المنافقين إذا قالوا ذلك ، فللبني ( صلّى الله عليه وآله ) أن يقول : إنّما طرأَ عليكم من الله الظُّلمة والحجاب ، لشؤم ما فعلتم أولاً من الانكار والجحود والتمادي على الجهْل والكفر ، كما قال تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] . وقوله : { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] . وقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [ المائدة : 13 ] . الثاني : إنه تعالى لو كان فاعلاً للكفر ، لجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فكان لا يبقى كون القرآن حجّة . والجواب : منع هذه الملازمة . وأي علاقة لزوميّة بين ايجاد الكفر في النفوس المظلمة الجاحدة لآيات الله ، وبين اظهار المعجزة على يد الكاذب ؟ الثالث : إنّه تعالى ذكَر هذه الآيات في معرض الذمّ لهم على كفرهم ، فكيف يذمّهم على شيء خلقَه فيهم ؟ والجواب : إنّ هذا بعينه مصادرةٌ على المطلوب الأول ، فإنّ أصل الكلام في أنّ الله فاعل الكلّ أم لا . الرابع : قوله تعالى : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فإن كان تعالى خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم ، فأيّ ذنب لهم حتّى يعذبهم ؟ والجواب : بما مر سابقاً ، أن العقوبات للجرائم ، من باب التوابع والثمرات لبذور المعاصي والسيّئات ، والله منزّه عن الانفعال والتغيّر في الصفات ، كالغضب ونحوه ، فكان حاصل الجواب عن قول من قال " إذا كان الكلّ به ومنه وإليه ، فكيف غضب على نفسه وذمّ فعله " ؟ ما قد ذكر سابقاً من تقسيمه عباده وبحسب المشية الى ما سبق لغاية الحكمة ، والى من استوقف دونها ، فاستعير للنسبة الأولى اسم الرضاء ، وللثانية عبارة الغضَب ، وأُردف الأول بخلعه الثناء زيادةً في القبول والرضاء . وأُردف الثاني بنقمة اللعن والذمّ زيادةً في النكال ، فهو المعطي للجمال والمثني ، وهو المعطي للنكال والمردي ، فيكون بالحقيقة هو المجمل والمثني والمثنىٰ عليه في جميع الأحوال ، والحمد لله على كلّ حال . الخامس : إنّه تعالى أضافه اليهم بقوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، وعلى هذا وصَفهم تعالى بانّهم مُفسِدون في الأرض ، وأنّهم هم السفهاء ، إذا خلَوا الى شياطينهم قالوا انّا معكم ، فدلّ على أنّ المراد منه شيءٌ آخر . والجواب : بمثل ما مرّ ، وهو أنّ إظلام قلوبهم وتسويدها بالكفر ، مسبَّب عن كذبهم وتكذيبهم للرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وإفسادهم في الأرض ، واستهزائهم بالمؤمنين ، وهذه أيضاً أسباب لاشتداد مرضهم وازدياد كفرهم . فصل [ تأويلات المعتزلة ] ثمّ قالت المعتزلة : إذا ثبت أنّ المراد ليس ما هو الظاهر من قوله تعالى : { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } ، فلا بدّ من التأويل فيه ، وهو من وجوه : الأول : بحمل المرض على الغمّ لأنه يقال : مرض قلبي من أمر كذا ، والمعنى : أنّ المنافقين لمّا رأوا ثبات أمر النبي ( صلّى الله عليه وآله ) واستعلاء شأنه يوماً فيوماً وذلك كان يؤثّر في زوال رياساتهم ، فهؤلاء لما اشتدّ عليهم الغمّ وصف الله تعالى ذلك ، أي زادهم غمّاً على غمّهم بما يزيد في أمر الرسول وتعظيم شأنه . الثاني : إنّ مرضَهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف ، وتكرير الوحي ، وتضاعف النصر ، فهو كقوله تعالى في سورة التوبة : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . والسورةُ لم تفعل ذلك ، ولكنهم ازدادوا رِجساً عند نزولها لمّا كفروا بها قبل ذلك . وكقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } [ المائدة : 64 ] . وقوله : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] . وكقولك لمن نصحتَه فلم يقبل وتمادى في فساده : ما زادتك نصيحتي الاّ شراً وفساداً . فكذا هؤلاء المنافقين ، لمّا كفروا وازداد كفرهم عند التكليف والدعوة من الله الى شرائع دينه ، اضيفت زيادة كفرهم إليه تعالى . الثالث : أن يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخوف لأنّ قلوبَهم كانت قويّة ، إمّا لقوّة طمعهم فيما كانوا يتحدّثون به انّ ريح الإسلام تهبّّ حيناً ثم تسكن ، ولواءَه يخفق أياماً ثم يقرّ ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال الله على رسوله النصر ، وإظهار دينه الحقّ على الدين كله . وإمّا لجرأتهم وجسارتهم في الحرب فضعفت جبناً ، حين قذف في قلوبهم الرُّعب ، وشاهَدوا شوكة المسلمين وامد الله لهم بالملائكة . ومعنى الزيادة : أنّه كلّما زاد الله رسولَه نصرةً وتبسّطاً في البلاد ، ازدادوا حسداً وبُغضاً ، وازدادت قلوبهم ضعفاً ويأساً عمّا طمعوا فيه ، وجبنا وخوراً ، وأن يحمل المرض على تغيّر مزاج القلب وتألّمه ، وذلك لأنّ الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه ، فإذا دام به ذلك ؛ فربما صار ذلك سبباً لتغيّر مزاج قلبه ومرضه ، قالوا : وحملُ اللفظ على هذا الوجه حملٌ له على حقيقته ، فكان أَوْلىٰ من سائر الوجوه . فصل فيه حكمة عرشية [ اللذة والألم ] قوله : { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، قال صاحب الكشّاف : يقال : ألم فهو اليم ، كوجع فهو وجيعٌ ، وهذا على طريقة قولهم ، جَدّ جدُّه ، والألم في الحقيقة للمؤلم ، كما أنّ الجدّ للجادّ . أقول : إنّ المؤلم بالحقيقة ، هو الألم الحاصل في القلب دون السبب الخارجي ، كما انّ صورة اللذّة الحاصلة في النفس عند إدراك الملائم النفسي أو البدني ، هي الملذّة بالحقيقة ، لا ما خرج عن التصوّر ، وليس الملذّ والمؤذي بالحقيقة إلاّ المرتسم في القلب ، - أعني النفس - لا الموجود في الخارج ، وكلّما ارتسمت في النفس صورة العذاب أو مقابلها يفعل فعلها وإن لم يكن سبب من خارج ، فإنّ السبب الذاتي هو هذا المرتسم ، والخارج سببٌ بالعرض ، أو سبب السبب ، فالأوّل : كما في اليقظة ، فإن الصور الملذّة أو المؤذية المرتسمة في النفس تبتدئ من الصور الماديّة الخارجيّة ، وقد ثبت في العلوم الحقيقيّة ، أنّ تأثيرها على سبيل الاتّفاق والإعداد ، وانها أسباب بالعرَض ، والثاني : كما في النوم ، فإنّ الصور الملذّة أو المكرهة قد تبتدئ من داخل باطن النفس إليها حتّى تنتهي الى مشهد الحسّ المشترك ، فتدركها النفس ، وقد لا تكون كذلك ، بل تنتقل صور مخزونات النفس بعضها الى بعض ، فإذا ابتدأت من داخل النفس ، فيكون سبب ارتسامها من عالَم الغيب ، والأسباب الموجودة في عالَم الغيب سببيّتها تكون ذاتية ، فيكون الملذّ والمؤذي في النوم أو ما يجري مجراه كالموت والبرزخ ، هي الصورة المرتسمة في النفس ، وسبب ارتسامها ملذّ ومؤلم بالواسطة . فصل [ في قوله تعالى : بما كانوا يكذبون ] قوله : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، صريحٌ في أنّ عذابهم الأليم معلّل بكذبهم ، على قراءة عاصم وحمزة والكسائي ، وذلك يقتضي أن يكون كلّ كذب قبيحاً حراماً . وفيه رمز آخر الى قبحه ، حيث علّل به استحقاق العذاب ، وترتّب عليه دون الكفر مع وجوده ، ونحوه قوله تعالى : { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] . وانّهم كانوا كفرَة إلا انّه خصّت الخطيئات بالسببيّة ، استعظاماً لها ، وتنفيراً عن ارتكابها . والكذب : هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به ، وهو حرامٌ كلّه ، أمّا ما يروى عن إبراهيم ( عليه السلام ) أنّه كذِب ثلاثة كذبات ، فالمراد التعريض ، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمّي به . والمراد بكذبهم قولهم : { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ البقرة : 8 ] ، والجاحظ لا يسمّيه كذباً إلاّ إذا علم كون المخبَرِ عنه على خلافه ، وهذه الآية حجّة عليه . وقرأ الباقون : يُكذّبون ، من كذّبه ، نقيض صدّقه ، لأنهم كانوا يكذّبون الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) بقلوبهم ، وإذا خلوا الى شياطينهم . أو من كذب الذي هو مبالغة كذب ، كما بولغ في صدق فقيل صدّق مشدّداً ، ونظيرهما : بان الشيءُ وبيّن . وقلص وقلّص ، أو بمعنى الكثرة كقولهم : موّتت البهائم وبرّكت الإبل .