Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 9-9)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إن للمنافقين قبائح كثيرة من رذائل القلب وخبائث النفس ، ذكَر الله أربعة منها في هذه الآيات : أحدها : ما ذكَره في هذه الآية وهي المخادعة مع الله والمؤمنين . والخَدْعُ : أن توهِمَ غيرَك خلافَ ما تُخفيه في نفسك من المكروه ، لتصرِفه عمّا هو بصدده من قولهم : خدع الضبُّ : إذا توارى في جُحره وضبٌّ خادعٌ وخدع إذا أوهم الحارس إقباله عليه ثمّ خرج من باب آخر . وأصله الإخفاء . ومنه المخدَع : للخزانة . والأخدعان : لعرقين خفيّين في العنق . فهو ضرب من النفاق والغرور والرياء في الأفعال الحسنة . وكلّ ذلك بخلاف ما يقتضيه دين الله وطريقه ، لأنّ الدين يوجب الاستقامةَ والعدولَ عن الغُرور والتدليس والمكر والإساءة ، كما يوجب الاخلاص : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] . وأما أنّهم كيف خادَعوا الله ولا تخفى عنه خافيةٌ ، وكيف خادعَهم الله ، والمؤمنون - كما تقتضيه صيغة المفاعلة - والخدعة صفةٌ مذمومةٌ ؟ فالمراد من الأول أحد أمور خمسة : أولها : أن يكون ذلك على معتقَدهم وظنِّهم أنّ الله ممَّن يرضى عنهم بصورة الأعمال الصادرة عنهم سُمعة ورياءً ، مع أن القصد منهم بما لم يكن إلا أغراض النفس والهوى ، ومحبة الجاه والثروة ومتاع الدنيا ؛ وذلك لاغترارهم وجهلهم بأن الناقد بصير ، والطريق اليه خطيرٌ ، والبضاعة معيبة مموّهة ، ولا يُقْبَل عند الله إلاّ العمل الخالص ، وكيف ، ومن كان ادعاؤه الإيمان بالله واليوم الآخر نفاقاً ، لم يكن قد عرف الحقّ وصفاته ، وأن له تعلّقاً بكل معلومٍ ، وله غِنىً عن كلّ ما سواه . فلم يبعد عن مثله تجويز أن يكون الله في زعمه مخدوعاً من وجه خفي ، وربما يوجد في الناس - بل في أكثر الأكياس منهم - مَن كان هذا شأنهم مع الله ، وقد شاهَدناهم وصحبناهم كثيراً . وثانيها أن يقال : صورة صنيعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان ويستبطنون الكفر - صورة صنيع الخادعين . وثالثها : أنّ المراد مِن " يخادعون الله " ، المخادعة مع رسول الله ، إمّا على حذف المضاف ، أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنّه خليفته في أرضه ، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده ، وهو مع ذلك خارجٌ عن مقام بشريّته ، ذاهبٌ الى الله وملكوته ، واصلٌ بكلّيته في بحبوحة قُربه ومطالعة جماله وجلاله ، مستغرقٌ في شهود إلٰهيته ، كما قال تعالى { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . وقال ( صلّى الله عليه وآله ) : " مَن رآني فقد رأى الحقّ " وفي الحديث القدسي : " من بارزَ وليّاً فقد بارزني . ومن عاداه فقد عادني " . ورابعها : ما ذكرَه صاحب الكشاف ، وهو أن يكون من قبيل قولهم : " أعجبني زيدٌ وكرمه " فيكون المعنى : يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة ، قوّة الاختصاص . وله نظائر ذكرَها . وخامسها : ما في الكشّاف أيضاً ، وهو أن يقال ، عنى به " يخدعون " إلاّ انه أخرج في زنة المفاعلة للمبالغة ، لأنّ الزنة في أصلها للمبالغة ، والفعل متى غولِب فيه فاعله كان أبلغ وأحكم منه إذا زاوَله من غير مقابلة معارض ، ويعضده قراءة من قرأ " يخدعون " ، ولأنه بيان : ليقول ، ويحتمل الاستيناف ، لذكر ما هو الغرَض من دعواهم الإيمان كذباً . والمراد من الثاني هو أنّ صورة صُنع الله معهم صورة صُنع الخادع ، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم ، وهم عنده أخبث الكفّار ، وأهل الدرَك الأسفل من النار ، استدراجاً لهم ، وتلطّفاً في إغفالهم عمّا أعدّ لأوليائه ، وردْعهم وطرْدهم من جناب قُدسه ومحلّ كرامته من حيث لا يشعرون ، مجازاةً لهم بمثل صنيعهم . وكذا صورة صُنع الرسول والمؤمنين معهم من حيث امتثالهم أمر الله في إخفاء حالهم ، وإجراء الإسلام عليهم ، وربما كانوا ولاة في البلاد ، وقُضاة في دار الإسلام يحكمون على أموال المسلمين وفروجهم ودمائهم ، ويجب على الناس الاقتداء بهم في الصلاة ، والامتثال لأمرهم ونهيهم تقيّة ومداراة معهم ، كما أخبر عنه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بقوله : سيكون بعدي اثرة ، وقال للاصحاب : إنّكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة . وعن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء ؟ قلت : أَمَا والذي بعثَك بالحقّ ، أضعُ سيفي على عاتقي ، ثمّ أضرب به حتّى القاك ، قال : أَوَلاَ أدلّك على خيرٍ من ذلك ؟ تصبرُ حتى تَلقاني " . فصل الداعي لهم على الخديعة مع المؤمنين يحتمل مقاصد وأغراضاً شتّى : منها : أنّهم دفعوا عن أنفسهم أحكام الكفّار ؛ من قتل نفوسِهم ، ونهْب أموالهم ، وسبي ذَراريهم ، قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " أُمرتُ أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إلٰه إلاّ الله " . ومنها : قبولهم عند أهل الاسلام وإجراؤهم مجرى المؤمنين في التعظيم والإكرام . ومنها : أنّهم ربما التمسوا من النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) والمؤمنين إفشاء أسراره واسرارهم لينقلوها الى أعدائهم من الكفّار . ومنها : أنّهم طمعوا الاقتسام من أموال الغنائم - الى غير ذلك من المقاصد والأغراض . وليس لك أن تقول : لمّا كان الله قادراً على أن يوحي الى نبيّه محمد ( صلّى الله عليه وآله ) جميع ما قصدوه وأضمروه في نفوسهم ليدفع شرَّهم وخداعهم وإفسادهم ، فلِمَ لم يفعل ذلك ولَمْ يهتك أسرارهم ؟ قلنا : وإنّه أيضاً قادرٌ على استيصال إبليس وذريّته أجمعين ، ولكنّه أبقاهم وقوّاهم وأجراهم مجرى الدم في عروق الآدميّين ، لأنّ في ذلك الحكمة والمصلحة ما لا يعلم غورُه إلاّ الله ومَن اهتدى بنوره ، واطّلع على وَحيه من أهل الرسالة والوِلاية . فصل فيه حكمة مشرقية [ كيف يخدع الانسان نفسه ] قوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، أي خداع المنافقين لا ينجع إلاّ في أنفسهم بإهلاكها وتخسيرها ، وايراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق ، واجتماع أسباب البُعد من الله والشقاء عليها ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] . وكذا خداع الله المتسبّب عن خداعهم ، يؤثّر في أنفسهم أبلغ تأثير ، ويوبقهم أشد إيباق لقوله تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ آل عمران : 54 ] . وهم من غاية تعمّقهم في جهلهم ، ما يُحسّون بذلك الأمر المكشوف الظاهر ، إذ الشعور : علم الشيء إذا حصل بالحسّ ، من الشعار ، - ومشاعر الإنسان حواسّه - عنى به أنّ لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، لكنهم لتماديهم في الغفلة ، كالذي به خدرٌ لا يحسّ ، والمراد من النفْس : ذاتُ الشيء وحقيقته ، ولا يختصّ بالأجسام لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] . وقد يطلق على جوهرٍ مفارقٍ عن الأجسام ذاتاً وحقيقةً ، مقارنٍ لها فِعلاً وتأثيراً ، ثمّ قيل للقلب : نفسٌ ، لأنّه خليفة النفس في البدن ، كما انّ الصدر خليفةُ الطبيعة . ويقال للدم : نفسٌ ، لأنّ قوامَ حياتها البدنيّة بالدم ، وللماء : نفس لفَرط حاجتها إليه ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] . وللرأي في قولهم : فلانٌ يوامر نفسَه : إذا تردّد في الأمر واتّجه له رأيان وداعيان ، كأنّهم أرادوا داعيي النفس وناجِيَيْٰها ، فسمّوهما نَفْسَين ، لصدورهما عن النفس ، أو تشبيهاً لهما بمُبَشرين يأمر أحدهما وينهى الآخر ، وستطّلع على هذا السرّ . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : وما يخادعون . والباقون : يخدعون ، وحجّة الأولين التطابق في اللفظ بين الكلامين . وحجة الباقين : أن المخادعة إنّما تكون بين اثنين ، فلا يكون الإنسان الواحدُ مخادعاً لنفسه . أقول : وكذلك الخداع لا يكون إلاّ بين اثنين . والفرق بينهما : بأن الفعل في الأول من الجانبين ، وكذا الانفعال ، وفي الثاني : الفعل من جانب ، والانفعال من جانب آخر ، فالإنسان الواحد ، كما لا يخادع مع نفسه ، كذلك لا يخدع نفسَه أيضاً ، فما هو الجواب لذاك ، فهو الجواب لهذا . فالأوْلىٰ أن يراد حقيقة المخادعة ، أي وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنّونها الأماني الباطلة ، ويحدّثونها بالأكاذيب ، من الإيعاد بالخير ، والوعد بالشر ، وغير ذلك ، وكذلك أنفسهم تعدهم وتمنّيهم وتحدثهم بالأماني . وتحقيق ذلك يبتني على معرفة النفس الإنسانية وهي : أنّ للنفس الإنسانيّة نشآت ومقامات متعدّدة ، كالحسيّة والخياليّة والعقليّة ، ولها مراحل ومنازل متفاوتة ، كالدنيا والبرزخ والآخرة ، وأكثر الناس ما داموا في الدنيا ، فمقام نفوسهم بالفعل عالَم الحسّ ، ولها بالقوّة نشأة الروح والعقل ، وذلك إذا لم يبطل استعدادها لحصول النشأة الباقية ، وأما إذا بطل ذلك ، بمسخ باطنهم وطمسه بالكليّة ، فليست نفوسُهم هي أرواحاً ولا عقولاً لا بالفعل ولا بالقوّة ، ولا لها نشأة إلا نشأة الحسّ فقط كنفوس سائر الحيوانات . وبعض الناس ، ممّن خرجت نفسُه من القوّة الى الفعل في نشآته الثلاث - كالكمّل من العلماء الإلٰهيّين والأولياء - فلهم من الأحديّة الحقّة ما حازوا به الأكوان الثلاثة ، ولا يشغلهم شأنٌ عن شأن ولا يمنعهم موطنٌ عن موطن . فإذا تقرر هذا فنقول : النفس بحسب كلّ مقام ونشأة ، هي غيرها بحسب مقام آخر ونشأة أُخرىٰ ، وبواسطة مزاولة أفعال تُناسب النشأة الدنيويّة وتكريرها تَقَوّي الجنبة السافلة منها وتضعف الجنبة العالية ، وبالعكس عند مزاولة أفعال تناسب النشأة الآخرة وتكريرها . وعند الرسوخ في الأفعال الشهويّة والغضبيّة ، والأعمال البهيميّة والسبُعيّة ، تبطل النشأة العقليّة والحياة الملكيّة بالكليّة ، بحيث لا يُرجىٰ إمكان عودها ، وذلك هو الخسران المبين ، لأنّ النفس خسرت ذاتها الباقية ونشأتها العقليّة ، وعوضت عنها بهذه النشأة الفانية والحياة الحسّية كما قال : { خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 12 ] . بتضييع رأس مالهم ، وهو الفطرة السليمة والعقل السليم . ومن هذا القبيل ، وقوع المخادعة بين النفس وذاتها ، لكونها ذات وجهين : وجهٌ الى الحسّ والشهوة والدنيا والشيطان ، ووجهٌ الى العقل والعدالة والعقبى والملك ، ولكلّ من الوجهين أسباب ومهيّجات ، ودواعي وأغراض ، وأشخاص من جنود الشيطان وجنود الملك ، والمنازعة [ بين القبيلين ] والمطاردة قائمة في عرصة باطن الإنسان وميدان صدره ، ومعركة قلبه عند بلوغ الإنسان الى مرتبة التمييز وصيرورته مكلّفاً ، والمملكة الإنسانية - وهي البُنية بما فيها من القُوى والمشاعر والأجزاء - مشتركة بين الخصمين الى أن ينفتح لأحدهما ويتخلّص عن الآخر . وأكثر الناس ممَّن انفتحت عرصة باطنه ومملكة ظاهره للهوى والشيطان ، وبقي لمقابلهما من العقل والملك اجتيازٌ واختلاسٌ وعبور فيها على الندرة ، إلاّ من عصمه الله وقوّى الملكيّة على نفسه الشيطانيّة . فإذا ثبتَ حكم المحاربة بين النفس وذاتها باعتبار كونها ذات الوجهين ، فكذلك حكم المخادعة بينها وبين ذاتها . كيف والحرب خدعة ، فالمحاربة لا تخلو عن المخادعة ، ومن هذا الباب حكم الآيات الدالّة على مغايرة النفس لذاتها كقوله : { أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] وقوله : { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النازعات : 40 ] . وقوله : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . وقوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] . وقول موسى : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] الآية ، وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] . فاعلم ما ذكرنا ، فإنه مفتاح من مفاتيح معرفة النفس ، التي بها تفتح أبواب خزائن علم القرآن إنشاء الله . وقرئ : " وما يخدّعون " بالتشديد من خدّع ، ويَخدعون بفتح الياء بمعنى يختدعون ، ويُخدَعون ويُخادَعون على صيغة المجهول .