Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 16-16)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تحقيق الآية يبتني على مقدّمات : إحداها : أن الإنسان ما دام كونه الدنيوي بمنزلة مسافر يسافر للتجارة ، أما كونه مسافراً ، فأمر قد جُبل عليه كل ما هو متعلق الوجود بالطبيعة الجمسانية والكون الدنيوي ، إذ قد حقّق في مقامه بالبرهان الذي لاح لنا بفضل الله ، أن الطبائع الجسمانية أبداً في التحول والانتقال والتجدّد والزوال من حال الى حال ، استحالة جوهرية وانتقالاً ذاتياً وتوجهاً جِبلّياً الى نشأة اخرى ، وأما كونه تاجراً فممّا فيه لاختياره مدخل ، إذ الفائز بسعادة الربح الأخروي ، إنما يفوز به بأعمال صحالة اختارية ، والممنوّ بشقاوة الخسران الأبدي ، إنما يبتلى به بأعمال فاسدة اختارية ، كما قال تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ التوبة : 95 ] . وقوله : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] . وقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . المقدمة الثانية : انه لما كان كل مسافر للتجارة لا بدّ له من رأس مال ، وقد ثبت أن الإنسان مسافر للتجارة ، فلا بدّ له من رأس مال ، ورأس ماله هو الفطرة الأصلية التي قد فطره الله عليها ، وهي القوة الاستعدادية لأجل الوصول الى الدرجات العاليات ، والفوز بالمنازل والسعادات ، وهذه القوة الفطرية ، هي المعبّر عنها في هذه الآية بالهدىٰ ، إذ الهدىٰ عبارة عن كون السالك على الطريق الذي يؤدي الى مطلوبه ويقابله الضلال ، وهو كونه جائراً منحرفاً عن ذلك الطريق ، فعلىٰ ما فسّرنا الهدىٰ به ، ليس لأحد أن يقول : كيف اشترَوا الضلالة بالهدى ، وما كانوا على هدى قطّ ؟ لأن كل واحد من الناس ، في أول نشأته وحداثة وجوده على رأس الطريق منه الى الله ، فهو على هدى بحسب الفكرة ، وإنما يقع الجور بحسب ما يكتسبه من الأفعال والاعتقادات ، كما ورد في الحديث عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " كل مولود يولَد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه " . المقدمة الثالثة : أنّ الربح والخسران ليسا بأمرين عارضين لغاية هذا السفر ، ممكنَي الانفكاك عن منازل هذه الحركة ، بل الوصول الى كل منزل من منازل الآخرة يلزمه ما يخصّه من ربح أو خسران ، أو نعيم أو حرمان ، أو راحة أو عذاب ، بل الربح هنا بنفس الوصول الى المنزل الأسنى والمقام الأعلى ، وكذا الخسران بنفس الوصول الى الهوى الأدنى . سُئل بعض أهل الله عن عذاب القبر ، فقال : القبر كلّه عذاب ، إشارة الى أن العذاب عبارة عن الانحباس في مضيق البرازخ السفلية ، والتقيّد بقيود المؤذيات الحيوانية ، والتألّم بآلام العقارب والحيّات النفسانية ، كما أنّ النعيم والراحة بالخلاص عنها والفوز بالدرجات العاليات ، لأن ما فيها كلّه رَوْح وريحان وجنة ورضوان ، وما في البرازخ السفلية كلّه آلام ومحن ومؤذيات وعقارب وحيّات وسموم ونيران وحميم وزقّوم . فإذا تقررت هذه المقدمات ، فنقول : قد حكى الله تعالى عن المنافقين والمغترين بلوامع سراب الدنيا من أهل الكتاب وغيرهم ، الذين تفقّهوا لغير الدين ، وعملوا بغير عمل أهل اليقين ، طلباً للحطام ومصيدة للعوام ؛ بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا الآخرة بالأولى والدرر الفاخرة بالثمن الأوكس الأدنى ، واستبدلوها به حيث إنهم أخلّوا بالهدى الذي جعلهم الله في أصل الفطرة التي فطر الناس عليها ، محصّلين الضلالة التي ذهبوا اليها ، واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى ، فجاورا عن القصد وفقدوا الاهتداء . وأصل الاشتراء : بذل الثمن أو ما يجري مجراه ، لتحصيل ما يطلب من الأعيان ، سواء كان عيناً محسوساً أو غيره كما في قوله : @ أخذت بالجُمّة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدُردُرا وبالطويل العمر عمراً جيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصّرا @@ فإن كان أحد العوضين ناضّاً ، تعيّن من حيث انه لا يطلب لعينه أن يكون ثمناً وبذله اشتراء ، وإلا فأي العوضين تصوّرتَه بصورة الثمن ، فباذلُه يكون مشترياً وآخذه يكون بائعاً ، ولذلك عدّت الكلمتان من الأضداد . وقوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } ، ترشيح للمجاز ، لما استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعَه ما يشاكله تمثيلاً لخسارتهم كما قيل : @ ولما رأيت النسر عرّى ابن دأية وعشّش في وَكريه جاش له صدري @@ وأما إسناد الربح الى التجارة - والحال انه لأربابها - فهو على سبيل الاتسّاع ، لتلبّسها بالفاعل ، أو لمشابهتها ايّاه من حيث إنها سبب الربح والخسران . فصل وأما قوله : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ، فمعناه : أن الذي يقصده التاجرون في أسفارهم ومتصرفاتهم أمران : سلامة رأس المال ، والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين وفاتوا المقصدين ؛ لأن رأس مالهم هو الفطرة الصافية عن المزاحمات ، واللوح الصافي النفساني ، والعقل الهيولاني ، فلما اعتقدوا هذه الآراء الخبيثة ، وانتقشت نفوسهم بهذه النقوش المزخرفة ، وانفعلت عقولهم عن هذه العقائد الباطلة . فخرجت فطرتهم عمّا كانت عليها ، وبطل استعدادها لتحصيل ما هو موجب حياتها في معادها ، وزينة ذاتها وسبب عيشها في الآخرة ، فهؤلاء مع انهم لم يربحوا فقد خسروا ، وأفسدوا رأس مال العقل السليم المهتدي الى طريق الحق ، والفوز بالنعيم ، فلهم الحسرة والعذاب الأليم . وقال قتادة في معنى هذه الآية : انتقلوا من الهدى الى الضلال ، ومن الطاعة الى المعصية ، ومن الجماعة الى الفرقة ، ومن الأمن الى الخوف ، ومن السنّة الى البدعة . أقول : والكل صحيح ، لأنها من لوازم الخروج عن الفطرة الساذجة بالعقيدة الفاسدة في باب المبدإ والمعاد ، فإن بناء الحسنات والخيرات كلها على معرفة الحق والسلوك بما يوجبه ، وبناء السيئات والشرور على الجهل به والحيَد عن صراطه .