Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 17-18)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تحقيق الآية يستدعي تمهيد مقدّمات . إحداها : هي إن العوالم متطابقة والنشآت متحاذية ، نسبة الأعلى إلى الأدنى كنسبة الصافي إلى الكدر ، ونسبة اللبّ الى القشر . ونسبة الأدنى إلى الأعلى كنسبة الفرع إلى الأصل ، ونسبة الظلّ إلى الشخص ، ونسبة الشخص إلى الطبيعة ، ونسبة المثال إلى الحقيقة . فكلّ ما في الدنيا لا بدّ له في الآخرة من أصل ، وإلاّ لكان كسراب باطل وخيال عاطل ، وكلّ ما في الآخرة لا بدّ له في الدنيا من مثال ، وإلاّ لكان كمقدّمة بلا نتيجة وشجرة بلا ثمرة ، وعلّة بلا معلول ، وجواد بلا جود ، لأنّ الدنيا عالم الملك والشهادة ، والآخرة من عالم الغيب والملكوت ، ولكلّ إنسان دنياً وآخرة ، وأعني بدنياك : حالتك قبل الموت ، وبآخرتك : حالتك بعد الموت . فدنياك وآخرتك ، من جملة أحوالك ودرجاتك ، يسمّى القريب الداني منها دنياً ، وما بعده المتأخّر آخرة ، وكون الدنيا متقدّمة على الآخرة ، ليس بحسب الأمر في ذاته ، بل بالإضافة إلينا ، من جهة أنّ الإنسان أول ما يحدث ، يكون في عالم الحسّ والشهادة ، ثمّ يتدرّج قليلاً قليلاً في قوّة الوجود ، حتى ينتقل من هذا العالم إلى عالم الغيب والآخرة عند قيامة . فبالقياس إليه ، تكون الدنيا أولاه والآخرة أخراه ، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في رتبة الوجود ، وثانيةٌ لها ، وهي وإن كانت ثانية في رتبة الوجود ؛ فإنّها أول في حقّ رؤيتك ؛ فإنك لا ترى نفسك ، وترى صورتك في المرآة أولاً ، فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة ، فانقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة ، وانقلب المتأخر متقدماً . وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس ، ضرورة هذا العالم ، وكذلك عالم الشهادة محال لعالم الغيب والملكوت . ومن الناس من يُسرّ له نظر الإعتبار ، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلاّ ويَعْبُرُ به إلى عالم الملكوت ، فيسمى عبوره عبرة ؛ وقد أمر الخلق به ، قال سبحانه : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ومنهم من عميت بصيرته فلم يعبر ، فاحتبس في عالم الملك والشهادة ، وتنفتح إلى حبسه أبواب جهنّم ، وهذا الحبس ممتلئ ناراً شأنها أن تطّلع على الأفئدة ، إلا أن بينه وبين إدراك الَمِها حجابٌ ، فإذا رُفع الحجاب بالموت ، أدرك . وعن هذا أظهر الله الحقّ على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا : الجنّة والنار مخلوقتان . ثمّ إنّا نحن الآن : نتكلّم أو نخاطب في الدنيا مَن في الآخرة . والغرض من إنزال القرآن ، أكثره شرح أحوال الآخرة ، وخصوصاً في هذه الآية ، فإنّ الغرض شرح أحوال طائفة من المنافقين بحسب باطنهم وآخرتهم ، والآخرة من عالم الملكوت ، ولا يتصوّر شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال ، ولذلك قال سبحانه : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] . وهم الذين جردوا صور المحسوسات عن قشورها المادية ، وأحضروها عند عقولهم العابرة عن عالم الأمثلة الحسّية إلى عالم الحقائق والملكوت ، وعالم الأمثلة الحسية بالقياس إلى عالم الحقائق ، كنشأة النوم بالقياس إلى عالم الملكوت ، ولذلك قال عليه السلام : " الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا " . وما سيكون في اليقظة لا يبيّن لك في النوم إلا بضرب الأمثال المحوِجة إلى التعبير ، وكذلك ما سيكون في يقظة يوم القيامة ، لا يبيّن لك في ليالي حجُب الدنيا إلا في كسوة الأمثال ، وأعني بكسوة الأمثال ، ما تعرفه من علم التعبير ، فإنّ شأن علماء التعبير أن يعبروا من الأمثلة إلى الحقائق . ولنذكر لك ثلاثة أمثلة من تعبيرات ابن سيرين تكفيك إن كنت فَطِناً لفهم معنى المثال ونسبته إلى الحقيقة . فقد جاءَ رجلُ إليه وقال : رأيت كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء . فقال : إنك مؤذِّن توذِّن في رمضان قبل الفجر فقال : صدقت . وجاء آخر فقال : رأيت كأنّي أصبّ الزيت في الزيتون . فقال : إنْ كان تحتك جارية اشتريتها ففتّش عن حالها فإنّها أمك ، لأنّ الزيتون أصل الزيت ، فهو ردٌّ إلى الأصل ، فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سُبيت في صِغَره . وقال آخر له : كأنّي أعلّقُ الدرّ في أعناق الخنازير ، فقال : إنّك تعلّم الحكمة غير أهلها - وكان كما قال - . فالتعبير من أوله إلى آخره مثال لعرفان طريق الأمثال ، وليس للأنبياء عليهم السلام أن يتكلموا مع الخلق إلاّ بضرب الأمثال ، لأنّهم كلّفوا أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، وقدر عقولهم أنّهم في النوم ، كما ورد : " الدنيا دار منام ، والعيش فيها كأحلام " . والنائم لا ينكشف له شيء إلاّ بصورة المثل ، فإذا ماتوا انتبهوا ووصلوا إلى تعبير منامهم ، وعرفوا أن المثل المضروب لهم كان صادقاً كله . وإنّما نعني بالمثَل ؛ أداء المعنى ، أو وجوده في صورة إن نُظر إلى معناه وباطنه وُجد صادقاً ، وإن نُظر إلى صورته وظاهره وجد كاذباً . المقدّمة الثانية : إنّ موجودية الممكنات بحقيقة الوجود الفائض من الحقّ الأول ، وقد علمت فيما سبق ، أن الوجود في كلّ شيء هو نحو وجوده ، وهو صورة ذاته دون المسمّى بالماهية ، إلاّ أنّ صورة الوجود في بعض الأشياء كالمفارقات ، وضرب من الملائكة والمدبرات العلوية ، قائمة في أنفسها بذات باريها وموجدها . وفي بعض الأشياء كالطبائع وضَرْبٍ من الملكوت والمدبرات السفليّة ، قائمة لا في أنفسها ، بل بتبعيّة المحال والمقادير ، وكلّ من قِسميّ الوجود ، أعني القائم بالذات والقائم بالمقدار ، نورُ من أنوار الله الفائضة عنه في سموات الأرواح وأراضي الأشباح ، وهو من إسمه : العَليم والنُّور ، إذ هو عالم الغيب والشهادة ، والله نورُ السَّمٰواتِ والأرضِ ، بل الوجود على مراتبه كلّه نور والله نور الأنوار . والإنسان بالقوّة ، مشتمل على كل قسم من النور ، وأشرف أنواره المكمونة بالقوّة في ذاته بحسب أصل الفطرة ، هو النور العقلي المدرك للحقائق ، الفعّال للصورة العقليّة والنفسانيّة والحسيّة عند تفرّده بذاته ، وخروجه من القوّة إلى الفعل ، واتّصاله بحضرة الحقّ الأول ، وإنّما يخرج من القوة إلى الفعل ، عند استكماله بسلوك سبيل الحقّ وانقياد الشريعة الإلهية بالإيمان والعمل الصالح ، وصرف قواه الإدراكيّة ؛ كالحواسّ الظاهرة والتحريكية ، كالقدرة والإرادة والشهوة والغضب ، فيما خِلقت هي لأجله . وهذه القوى أيضاً ضروب من الأنوار الوجودية التي أنعمها الله علينا للإستعمال في التوصل بها إليه تعالى والتقرّب منه ، وهي أيضاً في أول النشأة ، ضعيفة خامدة في مادة البدن ، سيّما الباطنيّة منها ، كالوهم والخيال من القسم الأول ، والهوى وحب الجاه والرياسة من القسم الثاني ، وهذه الأنوار الحسّية ، وكذا محسوساتها ومتعلّقاتها ، صورٌ مكمونة في مواد الأجسام ، سيّما العنصرية ، كالصورة الناريّة في الفحم ، إذ جميع هذه الأجسام التي تلينا وما حولنا بمنزلة الفحم والزغال ، وأنوار صور الحقائق مندمجة فيها ، وإنّما تظهر من البطون وتبرز من الكمون لنا بسبب حركات ورياضات في كورة الدنيا وعالم الطبيعة ، هي بمنزلة النفاخات الواقعة في كورة الحدادين . وأول ما يخرج إلى الفعل من القوّة ، وإلى البروز من الكمون ، هو صورة الحسّ والمحسوس ، إذ كلّ إدراك ، سواء كان حسّاً أو تخيّلاً أو وهماً أو تعقّلاً أو تألّهاً ، فهو بضرب من التجريد ، ومراتب التجريدات في الشدة والضعف ، كمراتب الإدراكات في الكمال والنقص ، فأقلّ التجريدات ، التجريد الحاصل في الحس ، فإن الحس يجرّد الصورة القائمة بالمادّة المغشاة بالغواشي المادّية من أصل تلك المادّة ، ولكن لا يجرّدها من الغواشي ، بل هي معها ، مع اشتراط أن يكون لمحلها من الحس نسبة وضعيّة جسمانيّة إلى تلك المادة المنتزعة هي عنها ، حتّى أنه لو غابت تلك المادة غابت الصورة أيضاً عن الحس . وأمّا الخيال ، فيجرّد الصورة عن المادّة تجريداً أتمّ ، وإلى أفق المفارقات تقريباً أشدّ ، فإنّه يجرّدها عن المادّة ، وعن ملابسها وغواشيها الجسمانيّة من غير اشتراط حضور المادّة أيضاً ، لكن بشرط بقاء تخصّصها وتعيّنها المشابه لتعيّنها المادّي في عالم التمثل الخيالي . وأما الوهم ، فيجرّد الصورة تجريداً أتمّ من تجريد الحسّ والخيال جميعاً بحيث يتصوّر المعاني الحاصلة في الأجسام ، ويجرّدها عن المواد وعن صفاتها المكتنفة بها ، لكن لا يمكن للوهم تجريد المعنى بالكليّة عن الموادّ الشخصية ، وعن صفاتها جميعاً حتى عن اضافتها إلى الشخص ، بل يتصوّر كلاً من المعاني مضافاً إلى شخص بعينه ، إذ الوهم نفسه أيضاً كذلك ، لأنه عبارة عن قوّة عقليّة مضافة إلى جوهر جسماني ، حتّى لو تجرّد عن هذه الإضافات ، صار الوهم عقلاً ، والشيطان مَلَكاً ، والجزبرة حكمة . وأمّا العقل فشأنه تجريد الصور عن المواد تجريداً أتمّ وأقوى من جميع ما سبق ، لأنّه كما يجرّدها عن المواد وملابسها ، يجرّدها عن أنحاء التعلّقات والإضافات كلّها ، فيصيّرها لبّاً خالصاً صافياً مقدّساً مطهّراً عن الأرجاس والأدناس ، لائقاً بحضرة القدس وحظيرة الإنس ، وذلك ما أردناه . المقدمة الثالثة : إنّ هذه القوى من الإنسان من فروعات جوهره العقلي ، بمنزلة أشعّة وأنوار لازمة لجوهر نوانيّ متعلق بالبدن ، كمصباح في بيت تقع منه أنوار وأشعّة على جدرانه وسقوفه وزواياه وأكنافه وكلٌّ من هذه القوى ، ينفعل ويستنير ويخرج من القوّة إلى الفعل بواسطة صور محسوسة تخصّها ، فالبصَر بالمبصرات كالألوان ، والسمع بالمسموعات كالأصوات . وبالجملة ، الحسّ بالمحسوس يستنير ويخرج وجوده من القوّة إلى الفعل ، والخيال بالصور المتخيّلة ، يستنير ويقوى ويصير من حد النقص إلى حدّ الكمال ، وقد علمت أن كل كمال ونور إنّما يحصل بضرب من التجرّد والبعد عن المادّة ، وكلّ نقص وظُلمة إنّما يحصل بواسطة لصوق بالمادة وقرب منها . وعلمت أن مراتب الكمالات حسب مراتب التجريدات ، ووجود هذه القوى متقدّم بحسب الحدوث على وجود القوّة العقليّة تقدّماً زمانياً وبالطبع ، ووجود القوّة العقلية متقدّم بقاء على وجودها تقدّماً ذاتياً وبالعليّة والشرف ، لأنّها من فروعها ومعاليلها عند تجوهر العقل وحصوله بالفعل ، فالعاقلة مفتقرة إليها في أول النشأة ، وعند أوان الاستكمال والحركة إلى المبدء الفعّال ، وهي مفتقرة إليها في النشأة الثانية وبقاء الآخرة . فمن استكمل ذاته ما دام الكون الدنيوي بنور الإيمان واليقين ، قامت مع روحه جميع قواه ، وتنوّرت بنوره يوم الدين ، وحشرت معه يوم حشر الخلائق أجمعين . ومن لم يستكمل ذاته هٰهنا بنور الإيمان ، ولم تنفتح بصيرة باطنه إلى عالم الروح والريحان ، لِفَرط جهالته ، وتراكم غشاوته ، وكثرة حجابه ، وكثافة نقابه ، سُلبت في الآخرة عنه قواه وحواسه ، وبقيت نفسه في ظلمات الهاوية وأدخنة السعير أصمّ وأبكم وأعمى قائلاً بلسان الحال : { لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 125 - 126 ] . المقدّمة الرابعة : إن الوجودات الفائضة من الحقّ ، بعضها من عالم النور ، وبعضها من عالم النار ، وبعضها من عالم الظلمة والدخان . أمّا التي هي من عالم النور ، فهي العقول القادسة ، والنفوس الزكية ، والملائكة العلويّة ، والأخيار من الجنّ . وأمّا التي هي من عالَم النار ، فهي النفوس الخبيثة ، والشياطين والأشرار من الجن . وأمّا عالم الظلمة والدخان ، فهي موادّ هذا العالم من الأفلاك ، ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] . وقال : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصّلت : 11 ] . وقال : { وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 - 2 ] . إشارة إلى موادّ الأفلاك التسع ومادّة العناصر . وقال : { جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] . وقال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [ الملك : 5 ] . فلولا ضوءُ الشمس ونورُ القمر ومصابيح الكواكب ، لكانَ هذا العالم في ظلمة محضة لا أوحش منها . فاستنار هذا العالم بتلك الأنوار الحسّية المتعلّقة ، وأمّا عالم الآخرة ، فلا يمكن أن يستنير بشيء من هذه الأنوار الحسّية ، بل لا بدّ في استنارته من نور آخر من ضروب الأنوار المعنويّة . إما العلمية فكما للمقرَّبين . وإمّا العمليّة فكما لأصحاب اليمين . كما قال تعالى : { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] . وقال : { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [ الحديد : 13 ] . وأمّا عالم النار ، فليست ناره من جنس هذه النارالتي في الدنيا ، فإنّ هذه ليست ناراً محضةً ، بل ناراً مع مادّة مقداريّة كالحطب ونحوه ، ومع هيئة نوريّة حسيّة ، ووضع وشكل محسوسين ، وأمّا النار المحضة ، فلا يكون معها هذا الصفاء والإشراق والتلألؤ واللمعان ، فإن هذه كلها مسلوبة عن نار جهنّم ، بل هي سوداء مظلمة كما ورد في الخبر . وإنّما تثبت هذه الأوصاف لهذه النيران الدنيوية ، لأنها ليست نيراناً محضة ، بل في مادّتها نار ونور سانح كما مرّ ، وأمّا التي هي نارٌ محضة ، فتمامها أنّها صورة جوهريّة حارّة بالذّات ، محرّكة للموادّ ، محلّلة مذيبة للأجساد ، محرقة مؤذية مهلكة ، قطّاعة نزّاعة مفسدة للصور الإتّصالية ، وفساد الصور بوارها ، فدار البوار هي محل ظهور سلطان النار . وأمّا عالم النور ، فهو محل ظهور الحقائق من حيث إنّها حقائق وبقاؤها وسلطانها ، والأبواب إليها منسدّة إلاّ من قِبَل آثارها ، ومن ناحية صوَرها المحسوسة ، ولهذا قيل : مَنْ فَقَد حسّاً فَقَد علماً . ومن تأمّل علِم إن النيران التي عندنا ، فمحلّ ناريّتها الحقيقية في الحقيقة دار البوار لا دار القرار ، لأن النار هي المحلّلة المفرّقة ، وهذا المحسوس من النار ليس محرقاً حقيقة ، والذي يباشر الإحراق والتفريق حقاً وحقيقة هي نار مستورة عن هذه الحواس ، خارجة عن فكر الناس والقياس ، مرتبطة بهذا المحسوس وبغيره ارتباطاً ، وهذا شيء يوافقنا فيه علماء النظر ، لاعترافهم بأن الأثر لا يبقى بعد وجود ما هو الفاعل له حقيقة ، وإنما الذين يبقى بعده الأثر فهو فاعلٌ في علم الطبيعة ، وباصطلاح الطبيعيّين ، وذلك يسمّى في علم ما بعد الطبيعة وباصطلاح الإلهيين : " مُعِدّاً " ، لا فاعلاً مفيداً . فقد تبيّن واتّضح أن ناريّة النار - أي كونها محلّلة مزيلة للصورة - ليست حاصلة فيما يفارقه ، وأنّ نار الله الكبرى لا مستقرّ لها سوى دار البوار ، لأن حقيقتها منبعثةً عن تنزّلات الأنوار الإلهيّة والعقليّة عند هبوطها عن عالم النور إلى عالم الاستحالة والدُثور ، فالطبيعة الناريّة ساريةً في كل المستحيلات الجوهريّة . وعندنا أن جميع الجواهر الماديّة - سماويّة كانت أو أرضية - سيّالةً في ذاتها ، قابلة للاستحالة الجوهريّة والتجدّد والذوبان بتأثير نيران الطبائع الغير المحسوسة ، وهي نيران أخروية كامنة في بواطن الأجسام الدنيوية ، والنفس الأمّارة بالسوء أيضاً نار موقدة تطّلع على الأفئدة ، وهي كلها مؤلمة ، إلا أن بين الناس وبين إدارك الَمِها حجاباً . والجحيم ، وجودها معلوم لبعض العلماء ، يدرك مرّة بإدراك يسمّى : " علم اليقين " ، ومرة بادراك يسمى بـ " عين اليقين " ، وعين اليقين لا يكون إلاّ في الآخرة ، وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ، ولكن للذين وفّي حظّهم من نور اليقين ، فلذلك قال تعالى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } [ التكاثر : 5 - 6 ] . أي : في الدنيا ، { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 7 ] . أي : في الآخرة . والدليل على كون النار الأخرويّة كامنة في جميع الأجرام الدنيوية التي هي بمنزلة الوقود والحشيش لها - سواء كانت حارّة يابسة كالنار ، أو باردة رطبة كالماء - قوله تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] . وقوله : { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [ الطور : 6 ] . وقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [ البقرة : 24 ] . والأحاديث في هذا الباب كثيرة : منها : ما يروى أنه قال صلّى الله عليه وآله : " لا يركبنَّ رجلٌ بحراً إلاّ غازياً أو معتمراً ، فإن تحتَ البَحر ناراً . أو تحت النارِ بحْراً " . ومنها : أنّه قال صلى الله عليه وآله : " البحْرُ كلُّه نارٌ في نارٍ " . وعن ابن عباس : إن النار تحت سبعة أبحر مطبقة . ومنها : " ما ورد في حديث المعراج أنّه رأى في السماء الدنيا آدم أبا البشر ، وكان عن يمينه بابٌ يأتي من قبله ريحٌ طيّبة ، وعن شماله ريحٌ منتنةٌ ، فأخبره جبرئيل أنّ أحدهما هو الجنّة والآخر هو النار " . ومنها : ما في حديث الكسوف ، أنّه قال صلى الله عليه وآله : " ما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه ، لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخّرت مخافة أن يصيبني من نفخها ( الحديث ) " . ومنها أيضاً ما يدلّ على أن النار في السماء كما ذكره مجاهد والضحّاك في قوله تعالى : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] أنّ المراد هو الجنّة والنار ، وكما يروى في حديث المعراج أيضاً : إنه صلى الله عليه وآله رأى في السماء الدنيا مالكاً خازن النار ، وفتح له طريقاً من طرق النار لينظر إليها حتى ارتقى من دخانها وشررها وما عن يساره من الباب . إذا تمهّدتْ هذه المقدّمات فنقول : إن الله تعالى أراد أن يكشف عن حال المنافقين الذين كانوا مشتغلين باكتساب الظواهر ، والإغترار ببعض الآثار ، ولم يباشر الإيمان قلوبهم ، واقتصروا على البحث والتكرار ، وصرفوا كدّهم في الصرْف والنحو والأشعار ، وحفظ قوالب الأحاديث والأخبار ، طلباً لحُطام هذه الدار ، وتقرّباً إلى السلاطين والأشرار ، بحال من استوقد ناراً ، وهي نار النفس الوقّادة ، التي تستوقد أولاً من أشعة المدارك الحسّية المتنوَّرة بنور الصور المحسوسة ، وهذه الأنوار الحسّية التي تنفعل منها الحواس ، وتخرج بها من القوّة إلى الفعل ، أنوار حادثة متجدّدة زائلة عند فتور القوى ودُثورها حين استيلاء المرض والهرم عليها ، وإنّما الفائدة فيها تنبّه النفس بصور هذه المدركات ، لتنتقل منها إلى إدراك صورها العقليّة وأنوارها المعنويّة الحاصلة في عالم الأنوار ، وبها تخرج قوّتها العاقلة إلى الفعل ، وتستسعد بالسعادة الأخرويّة . فمَن اقتصر حاله في استعمال هذه القوى لا لأجل تحصيل المعارف الإلهيّة والتنوّر بأنوارها الدائمة ، فهو كمن استوقد ناراً واستضاء ما حول نفسه بتلك النار ، وهي القوى الحسّاسة والمحرّكة ، وحين أضاءت النار ما حوله من القوى والمدارك الخارجة عن ذاته قبل أن يبلغ أثر الضوء إلى نفسه ، ذهب الله بنورهم ، أي بنوره وبنور من يَحذو حذْوه ، لأن الأنوار المحسوسة كلّها زائلة داثرة تنقص وتندثر ، عند عروض الشيب والموت ، ثمّ لم يبق لهم نورٌ أصلاً ، لا نور الحواسّ لزوالها عند الموت ؛ ولا نور الإيمان والمعرفة ، لعدم اكتسابهم له ، فلا جرم تُركوا في ظلمات الموت والجهالة وغيرها ، كظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة يوم القيامة وظلمة عذاب السرمد ، كأنها ظلمات متراكمةً بعضها فوق بعض ، فلا يبصرون شيئاً ، وسُلبت قواهم وجوارحهم كلّها ، فلا سمْع ولا نطْق ولا بصَر ، كما لا أذن ولا لسان ولا عين ، فهم صمٌّ بكْمٌّ عمْيٌّ لا يرجعون ، لأنّ الرجوع إلى الفطرة الأولى من الممتنعات ، والممتنع لا يكون مقدوراً أصلاً . فالآية مثلٌ ضربه الله لمن آتاه ضَرْباً من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصّل به إلى نعيم الأبَد وسعادة السرمد ، فبقيَ متحيِّراً متحسِّراً في ظلمة لا أوحش منها ، مسلوب الحواس والآلات تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى . ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقين ، وكلّ من آثَر الضلالة على الهُدى المجعول له بالفطرة الأولى ، ويمكن أن يكون المراد من قوله : { فَلَمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَه } ، أنّ الرجل المنافق قد يكون من أهل الوعظ والتذكير ، يستضيء بنور وعظه وتذكيره حواليه من المستمعين ، وهو نفسه لا ينتفع بما يقوله ولا يعمل به ، كما قيل : " مثَل العالِم بأمر الله غير العالِم بالله ، كمثَل السراج يُحرق نفسه ويُضيء غيرَه " وفي الحديث عنه : " إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجِر " . فهذا ما تيسّر لنا في فهم هذه الآية بفضل الله ، ولنرجع إلى حلّ الألفاظ وما ذكره المفسّرون إنشاء الله . فصل ما هو ضربُ المثَل قالوا : إنّ المقصود من ضرّب المثال أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأن الغرض ( من المثل ) تشبيه الخفيّ بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكّد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحسّ مطابقاً للعقل ، وذلك هو النهاية في الايضاح ، ألا ترى إن الترغيب بالإيمان والتزهيد عن الكفر مجرّدين عن ضرب المثَل ، لا يتأكد تأثيرهما في القلب ، وإذا مثّل الإيمان بالنور ، والكفر بالظُلمة ، يتأكّد تأثير حسن الإيمان وقبح الكفر في القلب ؟ ولهذا أكثر لله في كتابه المبين وفي سائر كتبه ضرب الأمثال ، وقال : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } [ العنكبوت : 43 ] ومن سور الإنجيل : " سورة الأمثال " . أقول : قد علمت أنّ حقيقة التمثيل ما هو ، ودريت أن الغرض ليس مجرد التأثير والوقع في النفس ، بل بيان حقيقة الأمر وملاكه وروحه ، أوَ لا ترى أن الألفاظ المذكورة في هذه الآية ، من النار والاستيقاد والإضاءَة والنور والذهاب والظلمات وغيرها ، كلّها محمولة على الحقيقة ، مشهودة بنظر البصيرة ، بل هي حقيقة أحوالهم الباطنة ، والتي هم عليها من الأحوال والأفعال الظاهرة هي مثال لتلك الأحوال ، كما قرّرنا من أنّ ما في الدنيا أمثلة لما في الآخرة ، لكن المماثلة لمّا كانت من الجانبين ، يجوز استعمالها في كلّ من الطرفين ، إذ المثَل في أصل كلامهم بمعنى المثْل ، وهو النظير ، يقال : مَثَل ومِثْل ومَثيل ، كشَبَه وشِبْه وشَبيه ، ثمّ قيل للقول السائر الممثَل مضربه بمورده : مثَل ، وربما اشترط أن يكون قولاً فيه غرابة بوجه . ثم ذكروا في الآية سؤالات وأجوبة . أحدها : إنّ مستوقِد النار اكتسب لنفسه نوراً ، والله تعالى أذهب بنوره وتركه في ظلمات ، والمنافق لم يكتسب خيراً ، وليس له نورٌ ، فما وجه التشبيه ؟ والجواب بوجوه : الأول : بما قال السدي : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة ، ثم نافقوا ، فهم بايمانهم اكتسبوا نوراً ، ثمّ بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور ، ووقعوا في حيرة عظيمة . أقول : وهذا ليس بشيء ، لأن الإيمان إن كان مجرّد الإقرار باللسان ، فليس بنور ، وإن كان العرفان الحقيقي الحاصل بالبرهان ، فليس بقابل للزوال . والثاني : بما ذكره الحسن : وهو انهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم ، وسلامة أموالهم عن الغنيمة ، وأولادهم عن السبي ، وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، عدّ ذلك نوراً من أنوار الإيمان ، ولمّا كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليل القدر ، شبّههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوءها قليلاً ، ثمّ سلب ذلك ، فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءت في أعقاب النار . وكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور ، وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة . الثالث : أن يقال ليس وجه الشبه أن للمنافق نوراً ، بل شبّه حاله في تحيّره وظلمته في القيامة ، بحال المستوقد الذي زال نوره وبقي متحيّراً في طريقه المظلم . الرابع : أنّه صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان ممثّلاً بالنور ، وذهابه هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق ، وإنّما سمّي مجرّد القول بتلك الكلمة نوراً ، وإن كان القائل بها أظهر في تلك الساعة خلافها ، لأنه قول حق في نفسه . الخامس : أنّه سمّي إظهار الكلمة نوراً ، لأنه يتزيّن به ظاهره ، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم ، ثمّ إن الله ذهب بذلك النور ، بهتْك ستر المنافق بتعريف نبيّه صلّى الله عليه وآله والمؤمنين حقيقة أمره ، فيظهر له اسم النفاق ، فبقي في ظلمة لا يبصر ، إذ النور الذي كان قد زال بما كشف الله تعالى أمره . السادس : إن المشبّه به هو مستوقِد نار لا يرضاها الله ، فشبّه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار ، لأن فتنتهم كانت قليلة البقاء ، ألا ترى إلى قوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } [ المائدة : 64 ] . السابع : قال سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلّى الله عليه وآله ، واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلمّا خرج كفروا به ، فكان انتظارهم لخروجه صلّى الله عليه وآله كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد خروجه كزوال ذلك النور . السؤال الثاني : إنّ الآية تقتضي تشبيه المثَل بالمثل ، فما مثَل المنافقين ومثَل المستوقِد ناراً حتّى شبّه أحدهما بالآخر . الجواب : إنّه قد استعير " المثَل " للقصّة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة ، كأنّه قيل : " قصّتهم العجيبة كقصّة الذي استوقد ناراً " . وكذا قوله : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الرعد : 35 ] . { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النحل : 60 ] . والمعنى : وصفهم وشأنهم المتعجّب كحال من استوقد ناراً . السؤال الثالث : كيف مثّلت الجماعة بالواحد ؟ والجواب عنه بوجوه : أحدها : إنّه يجوز وضع " الذي " موضع " الذين " كقوله : { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [ التوبة : 69 ] . إن جعل مرجع الضمير في قوله : { بِنُورِهم } وإنّما جاز ذلك ولم يجز وضع " القائم " موضع " القائمين " ، لكون " الذي " وصلة إلى ما بعده من الجملة التي هي صلَته ، فلا قصْد إلى مطابقته بالموصوف جمعاً وإفراداً ، ولكثرة وقوعه في كلامهم ، وكونه مستطالاً بصلته استحقّ التخفيف ، ولذلك بولِغ فيه ، فحذف ياؤه ثمّ كسْرته ، ثمّ اقتصر على " اللام " في أسماء الفاعلين والمفعولين ، ولأنّه ليس باسم تامّ ، بل هو كجزء منه ، فحقّه أن لا يجمع ، كما لا تجمع اخواتها وليس " الذين " جمعه المصحّح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ، ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل . الثاني : إنّ المراد جنس المستوقِدين : أو بتأويل الجمع ، أو الرهْط الذي استوقَد ناراً . الثالث : إنّ المراد من " مثَلهم " ، مثَل كلّ واحد منهم ، كقوله تعالى : { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] . أي نُخرج كلّ واحد منكم . الرابع : - وهو الأصوب والأقوى - إنّ التشبيه وقع بين القصّة والقصّة ، لا بين الذوات والذوات . وهذا كما قال تعالى : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] . وكقوله : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] . السؤال الرابع ما الوَقود ؟ وما النار ؟ وما الإضاءَة ؟ وما النور ؟ وما الظلمة ؟ . الجواب : وَقود النار سطوعها وارتفاع لهبها . والنار جوهرٌ لطيف ، مضيءٌ ، محرقٌ ، حارٌّ ، واشتقاقها من " نار ، ينور " إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً . والنور : مشتقٌ منها ، وهو ضوءها . والمنار : العلامة . والمنارة : هي الشي الذي يؤذّن عليه . ويقال أيضاً لما يوضع السراج عليه . ومنها النورة ، لأنها تظهر البدن . والإضاءة : هي فرط الإنارة ، ومصداقه قوله تعالى : { جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] . والظُلمَة : عدم النور عمّا من شأنه أن يستنير . والظلْم في أصل اللغة بمعنى النقصان . قال تعالى : { آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً } [ الكهف : 33 ] أي : لم تنقص . وفي المَثل : " مَن أشبه أباه فما ظلَم " ، أي ما نقص حقّ الشَبَه . والظلْم : الثلْج ، لأنّه ينقص بسرعة . والظلْم : ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلْج . قال ابن الفارض : @ عليكَ بها صرفاً وإن شئت مزجَها فعدلُك عن ظلم الحبيب هو الظلْم @@ و { أَضَاءَتْ } ، يجوز كونها متعدّية ولازمة ، والأقرب هٰهنا هو الأول ، وعلى الثاني تكون مستندة إلى : " مَا حَولَه " ، والتأنيث ، للحمل على المعنى ، لأنّ ما حَول المستوقِد أماكن وأشياء . ويعضده قراءة ابن عبلة " ضَاءَتْ " . ويجوز إسنادها إلى ضمير : " النار " ، وتكون : " مَا " موصولة منصوبة على الظرفية ، أو مزيدة ، و " حولَه " ظرفاً . والحَوْلُ : الدور المتّصل . وتأليفه للدوران . وقيل للسَنة : حَول . لأنّها تدور . والحَوالة : إنقلاب الحقّ من شخص إلى آخر . والحَوَل : إنقلاب العيْن . والمحاولة : طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له . وقوله : { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } جواب " لمّا " ، والضمير للذي ، وإنّما جمع حملاً على المعنى ، ولم يقل : " ذّهب الله بنارِهم " ، لكون النور هو المراد من ايقادها . ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً كما في قوله : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف : 15 ] لاستطالة الكلام مع أمن الالتباس للدلالة عليه ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حولَه خمدت فبقوا خابطين في ظلام ، متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء ، خائبين بعد الكدح في إحياء النار . وعلى هذا يكون : { ذَهَبَ ٱللَّهُ } كلاماً مستأنفاً أجيب به اعتراض سائل : " ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقِد انطفت ناره ؟ " ، أو يكون بَدَلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان ؛ والضمير على هٰذين الوجهين ، للمنافقين ، وعلى الأول ، للموصول ، لكونه في معنى الجمع ، وأما توحيده في : { حولِه } فللحمل على اللفظ . السؤال الخامس : هلاَّ قيل : " ذهب الله بضوئهم " لقوله : { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } . الجواب : هذا أبلغ ، إذ في الضوء زيادة ، والغرض إزالة النور بالكلّية ، ونفي الأشد لا يوجب نفي الأضعف ، أوَ لا ترى كيف عقّبه بقوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } والظلْمة عدم النور وانطماسه بالكلّية ، وقد جمعت ونكّرت ثمّ اتبعت زيادة في التأكيد بقوله : { لاَّ يُبْصِرُونَ } . تنبيهٌ : إسناد الإذهاب إلى الله تعالى ؛ أمّا في الممثّل له : فلأنّ الكلّ واقعٌ بقضائه وقدَره ، أو لأنّ الاطفاء وقع بسبب أمر خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطَر . وأمّا في الممثّل : فقد علمت ممّا ذكر ، أن ذهاب أنوار الحسّ والخيال والوهم وسائر القوى من النفس الغير المنوّرة بنور الإيمان ، أمرٌ ضروري حاصل عند الموت بقضاء الله - لا صُنع لأحد غيره فيه - ، ولهذا قال : { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِم } ، ولم يقل : " أذهَبَ الله نورَهم " ، لما في الأول من الاستصحاب والاستمساك . كما في قوله تعالى : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] . يقال : " ذهب السلطان بماله " إذا أخذه وأمسكه ، " وما يمسك الله فلا مرسل له " ، فهو أبلغ من الإذهاب . وفيه سترٌّ آخر . وقرء اليماني : " أذهبَ الله نورهم " . و " تَرَكَ " في الأصل ، بمعنى طرح وخلّى ، وله مفعول واحد ، وإذا ضمّن معنى " صيّر " علّق بشيئين فجرى مجرى أفعال القلوب . ومنه قوله { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أصله : " هم في ظلمات " ثم دخل " ترَكَ " فنصبهما . ومفعول : { لاَّ يُبْصِرُونَ } ، من قبيل المتروك المطرَّح ، لا من قبيل المقدّر المنويّ ، إذ الغرض سلب الإبصار ، لا سلب تعلّقه بشيء ، كما في قوله : { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] . تذكرة فيها تبصرة قد علمت تباين المسلكين في تحقيق الآية ، وتفارقهما في تبيينها من حمل الألفاظ في أحدهما على الحقيقة الباطنيّة ، وفي الآخر إمّا على التجوّز أو الاستعارة . وكذلك قالوا جرياً على طريقتهم في قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } ، إنّه لمّا كان المعلوم من حالهم أنّهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون ، امتنع حمل الآية على الحقيقة ، فلم يبق إلا تشبيه حالهم - لشدة تمسّكهم بالعناد ، وإعراضهم عمّا يطرق سمْعهم من القرآن ، وما يظهره الرسول صلّى الله عليه وآله من الأدلّة والآيات - كمن هو أصمٌّ في الحقيقة ، فلا يسمع ، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب ، فلذلك جعلَه بمنزلة الأبكم ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة ، ولم يبصر طريق الرشد ، فهو بمنزلة الأعمى ، فحملوا هذه الألفاظ الثلاثة في حقّهم على المجاز والتشبيه لحالهم بحال من أيفت مشاعره وانتفتْ قواه كقوله : @ صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكرت به وإن ذُكرت بسوء عندهم أذُنٌ @@ وكانت على طريقة قولهم : " هم ليوثٌ " للشجعان ، " وهم بحورٌ " للأسخياء ؛ وما حملوها على الحقيقة لكونهم مسلوبي القوى والمشاعر الأخروية التي هذه المشاعر الدنيوية قشورها وظواهرها ، فإن للنفس في ذاتها سمعاً وبصراً ونطقاً وغير ذلك ، أوَلا ترى أنّ الإنسان عند نومه - الذي هو أخو موته - يسمع ويبصر وينطق . والمسلوب عن الكفّار والمنافقين ، هو مشاعر الآخرة ، لأنّ وجودها تابعةٌ لوجود العقل المنوّر بنور الإيمان كما مرّ . ثم اختلفوا في أن إطلاقها عليهم استعارة أو تشبيهٌ بليغٌ ، فالمحققون منهم على أنه تشبيهٌ بليغ وليس باستعارة ، لأنّ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة ، كقول زهير : @ لدى أسد شاكي السلاح مقذّف له لبدٌ أظفاره لم تقلّم @@ ومن ثمّة ترى المفلّقين السحرة منهم يتناسبون التشبيه ، ويضربون عن توهّمه صفحاً ، كما قال أبو تمام : @ ويصعد حتى يظنّ الجَهول بأنّ له حاجة في السماء @@ وها هنا - وإن طوي ذكره - لكنّه في حكم المنطوق به ، ونظيره : @ أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ فتخاء تنفر من صفير الصافر @@ وقيل : هذا إذا جعل الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكةُ للتمثيل ونتيجةٌ له ، وإن جُعل للمستوقدين ، فهي على حقيقتها ، والمعنى : أنّهم لمّا أوقدوا ناراً ، ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلّت حواسّهم وانقضت قواهم . وقرئت الثلاثة بالنصب على الحال من مفعول تركهم .