Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 19-20)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد مثّل الله تعالى حال المنافقين والكافرين بهذين التمثيلين باعتبار فساد القوّتين . أما التمثيل الأول ، فهو باعتبار فساد قوّتهم العلميّة التي من شأنها مشاهدة أنوار الحقائق ، وأما هذا التمثيل ، فهو باعتبار بطلان قوّتهم العمليّة التي من شأنها سلوك طريق الحقّ بها . فقوله : { كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } إمّا عطف على : الذي استوقد أي كمثَل ذوي صيّبِ ، بقرينة قوله { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } أو عطف على المثَل ، أي مثَلهم وحالهم كصيّب ، فلا بدَ من تقدير ضمير يعود إليه . وكلمة " أو " في الأصل ، للتساوي في الشكّ ، ثم اتّسع فيها فاستعمل للتساوي من غير شكٍّ ، مثْل جالِس الحسَن أو ابن سيرين ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] . والمراد منع الخلوّ دون منع الجمع ، فالمعنى : أن قصة المنافقين مشبّهة بهاتين القصّتين ، وأنّهما سواء في صحّة التشبيه بهما باعتبار الجهتين ، وأنت مخيّر في التمثيل بهما جميعاً ، أو بأيّهما شئت ، وكان الممثّل له في التمثيل الأول ، حال المنافقين المنتسبين بأهل العلم لحفظ ظواهر الأقوال ، المغترّين بإبداء الشبهات ، وهم الذين إذا جاءتهم البيّنات يفرحون بما عندهم من العلْم . وفي هذا التمثيل حال المنافقين الذين هم من أهل النسْك وأهل التقليد من غير بصيرة تامّة وإياهما عُني في قوله صلّى الله عليه وآله : " قصم ظهرْي رجُلان عالِمٌ متهتّك وجاهلٌ متنسّك " . وعن أمير المؤمنين عليه السلام : قطَع ظهري رجُلان من الدنيا : رجلٌ عليمُ اللّسان فاسقٌ ، ورجلٌ جاهلُ القلْب ناسكٌ ، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنسْكه عن جهْلِه ، فاتّقوا الفاسق من العلماءِ والجاهلَ من المتعبّدين ، أولئك فتنة كل مفتون … " فوجه المماثلة هٰهنا ؛ أن المراد من المطَر هو الإيمان ، أو القرآن لكونه منشأ الحياة المعنويّة والأرزاق الأخرويّة . والظلمات هي الشبهات والمتشابهات التي يخفى وجهها على الجهّال والأرذال ويضلّون في إدراكها ، كما قال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] . والرعْد والبرْق والصواعق ، هي التكاليف الشاقّة ، بعضها من باب الأعمال وبعضها من باب الاعتقادات ، كفعل الصلاة وال صيام والحجّ ، وترك الرياسات ، والمجاهدة مع الآباء والأمّهات ، وترك الأديان القديمة ، والاعتقاد بحقّية هذا الدين والانقياد له . فكما أن الإنسان يبالغ في الإحتراز عن المطر الصيّب ، الذي هو أشدّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأمور المقارنة ، فكذا المنافق الجاهل ، يحترز عن الإيمان أو القرآن بسبب هذه الأمور ، زعماً منه أن الغرض منها ايلامه وتخويفه وتشديد الأمر عليه ، بحيث تكاد توجب هلاكه ، ولم يعلم أن فيها شفاءً لما في الصدور ، وتنويراً للقلوب ، وإحياءً للنفوس المريضة بداء الجهالة ، ورحمةً للذين آمنوا ، وهدى للعالمين . والمراد من قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أنّ الجاهل المنافق كثيراً ما يتصامَم عن ذكر الآيات والحجَج والبيّنات ، حذراً عن سماع ما يوجب فساد عاقبتهم ، ويظهر عليهم مآل ما هم عليه من النفاق والفسْقِ ولا يعلم السفيه الأحمق أن التصامم والتعامي لا يدفع الداهية والموت ، كما أنّ الصاعقة لو أتت إلى شخصٍ لا يمكن له دفعها بجعل إصبعيه في أذنيه . وقوله : { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } : إشارةً إلى أنّ لمعات القرآن أو الإيمان ، وأنواره الباهرة ، تكاد تخطف أبصار بصائر الناظرين فيه ، حتى كأنهم لضعف بصائرهم عن احتمال شوارقها ولوامعها ، كالمبهوتين المتحيّرين . والمراد من قوله : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى ظهَر لهم ، أو نقل إليهم شيءٌ من خوارق العادات والكرامات ، أو متى حصل لهم شيء من المنافع كحصول الغنائم ، أو التوقير والتقديم في المجالس ، أو تولية الأمور كضبط الأموال وحفظ الأمانات ، وسعاية الزكوات والحسبة والشهادة وغيرها ، فإنّهم يرغبون في الدين ويجهدون في العمل . وإذا أظلمَ عليهم ، أى متى لم يجدوا شيئاً من الكرامات أو من المنافع ، فحينئذ يقفون عن العمل ، ويكرهون الإيمان ، ولا يرغبون فيه . هذا ما ظهَر في معنى الآية . ويقرب منه ما قيل : شبّه الايمان والقرآن وسائر ما أوتي الإنسان من المعارف التي هي سبب الحياة الأبديّة بالصيّب الذي به حياة الأرض ، وما ارتكبت بها من الشبَه المبطِلة ، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة لأهل البدَع بالظلُمات ، وما فيها من الوعْد والوعيد بالرعد ، وما فيها من الآيات الباهِرة بالبرْق ، وتصاممهم عمّا يسمعون من الوعيد بحال من يهوّله الرعْد فيخاف صواعقه فيسدّ أُذُنه عنها ، مع أنّه لا خلاص لهم منها ، وهو معنى قوله : { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ } . واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مطرَح ضوءِ البرق كلّما أضاء لهم ، وتوقّفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهةً أو تعنّ لهم مصيبةٌ بتوقّفهم إذا أظلم عليهم ، وأشير بقوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } إلى أنّه سبحانه جَعَلَ لَهم السْمعَ والأبصار ليتوسّلوا بهما إلى الهدى والفلاح ويتسبّبوا بهما إلى تحصيل السمع المعنوي والبصيرة الباطنية ، لدفع الشبهات وإزالة الظلمات في طريق الهداية ، وسلوك الآخرة ، طلباً للحياة الباقية ، وتقرّباً إلى الله معطي الخيرات الأبديّة ، ثمّ إنّهم صرَفوها إلى الحظوظ العاجِلة ، وسدّوها عن الفوايد الآجلة ، وهذه المدركات مع مداركها ، أمورٌ ذاهبة زائلة ، ولو شاء الله لجعلهم عادمين للسمْع والأبصار كما هم عليه في القيامة يوم لا نور إلا نور المعرفة والإيمان . فصل [ التشبيه هنا مركب ، أم مفرّق ] قد يقال : وقع في التمثيلين تشبيه أشياء بأشياء ؛ فأين ذكر المشبّهات فيهما ؟ وما المشتبه بالصيّب ، والظلمات ، والرعد ، والبرق ، والصواعق هٰهنا ؟ وهلاّ صرّح بها ، كما في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } [ فاطر : 19 - 21 ] . وكقول امرؤ القيس : @ كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العنّاب والحشَف البالي @@ فيجاب : بأنّه يجوز كون المشبه في المفردات مطويّاً ذكره على سنن الإستعارة من قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ فاطر : 12 ] . ولعلماء البيان في هذا الموضع قولان : أحدهما : ما سلَكنا سبيلَه وأوضحنا طريقه ، وهو تشبيه مفرّق معناه أن يكون الممثّل مركّباً من أمور ، والممثّل له أيضاً كذلك ، ويكون كل واحد من آحاد أحدهما شبيهاً بما يوازنه من الآخر ، من غير اشتراط أن يكون جميع أعداد المركّب للمشبّه مذكوراً صريحاً ، كما علمت من التطبيق الذي مرّ ذكره . والثاني : ما اختاره صاحب الكشاف قائلاً : إنّ الصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه إن التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركّبة ، دون المفرّقة لا يتكلّف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، وهو القول الفحْل والمذهب الجَزل ، أراد به أن يشبه كيفيّة منتزعة من مجموع أمور تضامّت أجزاؤه وتلاصقت حتّى صارت شيئاً واحداً بأخرى مثلها ، كما في قوله تعالى : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] مثّل حال اليهود في حملهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، فأمّا أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيّرة شيئاً واحداً ، فلا ، فكذلك لمّا وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم ، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبّهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم ، بما يكابد مَنْ طفيت ناره بعد ايقادها في ظُلمة الليلِ وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق . والبحث فيه من وجهين : أحدهما : إن الهيئة الإنتزاعيّة الحاصلة من أمرين أو أمور ، إذا كانت واحدة يجب أن تكون الأمور المنتزعة هي منها أيضاً متماثلة متشابهة من الوجه الذي به يصلح للانتزاع . لما تقرّر في العلوم العقليّة ، أن المعنى الواحد ، لا يمكن أن ينتزع من أشياء متخالفة الحقائق من جهة يخالفها ، سواء كانت بسائط أو مركّبات ، مثلاً : الهيئة الإنسانيّة المحسوسة المنتزعة من تركيب أجزاء الإنسان ، لا يكمن أن تنتزع من تركيب أجزاء الفيل وغيره إلاّ على نحو ضعيف المشابهة لها . وثانيهما : إنّ المواضع التي ذكرها من القرآن وغيره ، وادّعى فيها تشبيه المركّب بالمركّب من دون تشبيه الأفراد ، لا نسلّم أن الأمر فيها كما زعمه ، بل لا تخلوا المواضع عن المشابهة بين الأفراد ، ففي قوله تعالى : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ } [ الجمعة : 5 ] الآية ، كما حصل تشبيه حال اليهود - وهو جهلهم بما في التوراة - بحال الحمار - وهو جهله بما حمل عليه ، فكذلك قد حصلت المشابهة بين اليهود والحمار في الحمق والجهالة ، فإن حقيقة الحماريّة وروحها هي الجهالة المفرطة ، سواء كانت مقترنة مع شكل الحمار أو شكل الإنسان ، وليس الإنسان إنساناً بشكله وصورة خِلْقته ، بل بمعنى الإنسانيّة ، وروح الناطقيّة التي هي عبارة عن إدراك المعارف . وكذا بين التوراة وأسفار الحكمة ، لاتحادهما فيما يؤدّي إلى التعليم والهداية من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينيّة ، وكذا وقع تشبيه حمل . الألفاظ والظواهر وعدم حمْل الأسرار والمعاني منهم ، بحمْل أوقار الصحُف ، وعدم الشعور بما فيها . ثم لا يخفى على ذوي النُهى ، أن هذا القسم ألطَف وأحكَم وأبلَغ فيما هو المقصود من التمثيل وأدلّ على القدرة ؛ فينبغي حمل الآيات عليه مهما أمكن ، ونحن لا ننكر وجود القسم الثاني في القرآن وغيره . فصل [ نظر في العلّة الفاعليّة ] فإن قيل : ما الفائدة في قوله : مِنَ ٱلسَّمَآءِ ، مع أن الصيِّب لا يكون إلاّ من السماء ؟ قلنا فيه فائدتان : الأولى : ما مرّ من دلالة تعريف السماء وتنكير الصيّب على أنّه مطبق آخذ بآفاق السماء . والثانية : إنّ من الناس من قصر نظره عن الأسباب العالية المنبعثة من قدرة الله وحكمته فقال : إنّ المطر إنّما يحصل من ارتفاع أبخِرةٍ رطبة من الأرض إلى الهواء ، فتنعقد هناك من شدة البرودة الزمهريريّة ، ثم تنزل مرّة أخرى على هيئة القطرات ، فذاك هو المطر ، ثم إنّ الله أبطَل ذلك المذهب هٰهنا بأن ذلك الصيِّب نزل من السماء . وكذلك قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] . { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] … لأنّ أسباب هذه الأمور منبعثة من عالَم السماء . واعلم أنّ العلم بحقائق الموجودات بعضها فوق بعض ، وكذا العلماء بحسبها ، ذوو درجات متفاضلة متعالية ، كما قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 77 ] . وقال : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 65 ] . مثاله : أنّ الطبيعي والحكيم قد يتشاركان في النظر في كثير من الأشياء ؛ لكن الطبيعي يأخذ الأوسط في حجّته من الطبيعة السارية في الأجسام بأمر الله ، والحكيم يأخذ العلة من العالم العلوي والمفارق المحْض ، والعلّة الغائيّة التي هي الخير الأعلى والعلّة القصوى للوجود ، فالطبيعي يُعطي بُرهاناً لِمّياً ، ما دامت المادّة القابلة والطبيعة الفاعلة موجودتين ، والحكيم يعطي البرهان اللِميّ مطلقاً . وبالجملة ، فإذا أعطي البرهان من الأسباب المقارنة ، كان من العلْم الأسفَل ، وإن أعطي من العلل المفارقة العالية ، كان من العلْم الأعلى ، والعلل المقارنة هي الهيولى والصورة ، والعلل المفارقة هي الفاعل والغاية . وأمّا العارف المتألّة ، فنظره أدقّ وأبصر ، وعلْمه أعلى وأشرف من جميع العلوم ، حيث يقع نظره في معرفة كلّ الأشياء الى الحقّ الأول ، ويأخذ علّة مقاصده ووسط براهينه من أسماء الله الحسنى وآياته الكبرى ، وليس لغيرهم هذا الشأن ، ولا برهانهم هذا البرهان ، وأكثر الناس مقصور النظر ؛ إمّا على عالم الشهادة كالظاهريين ، أو على عالم الباطن كالباطنيين ، وكلاهما ينظران بالعَين العوراء . مثال ذلك الْعلم بمنشأ الرعْد والبرْق . فالرعْد ، هو الصوت الذي يسمع من السحاب ، كأنّ أجرام السحاب تصطدم وتضطرب وترتعد إذا جذبها الريح ، فتصوّت عند ذلك من الارتعاد ، والبرق : الذي يلمع من السحاب ، من بَرَقَ الشيء بريقاً . واللفظان مصدران في الأصل ، ولذلك لم يجمعا . وقيل : " الرعْد هو ملك موكّل بالسحاب يسبّح " روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد ، وهو المرويّ عن أئمتنا عليهم السلام . وقيل : " إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب " . روي : " إنّه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه " . وقيل : " البرق مخاريق الملائكة من حديد ، تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار " وهو المرويّ عن علي عليه السلام . وقيل : " سوط من نور يزجر به الملك السحاب " عن ابن عباس . وقيل : " هو مصع ملك " عن مجاهد . والمصاع . المجالدة بالسيوف وغيرها . وقيل : إنّه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام . والكلّ صحيح حسب مراتب المشاهدة لمراتب العوالِم . فإذا سمعت أيّها العاقل الطبيعي ، أن ملَكاً يسوق السحاب بالزجر والصوت زجره يسمع زجل الرعود ، وإذا سجت به خفيفة السحاب التمعت صواعق البروق ، وأنت تحكم بعقلك أنه اصطكاك الأجرام من الحرارة الدخانيّة والبرودة البخاريّة الواقعة فوقها ، فالذي أدركته بعقلك قضيّة صحيحة ، لو لم تنكر ما فوقها ، ولكن حرمت القضيّة الأخرى ، أنّه ملك يسوق السحاب ولم تكد تراها لأنّه يدرك بنور البصيرة ، وأنت في ظلمة الغشاوة وبك زمانة الجهالة ، لا سبيل لك إلى سلوك عالَم النور . وقسْ عليه سائر التأثيرات العلويّة في الأمور السفليّة ، كالزلازل والهدّات وغيرها ، فأمّا ما ورد في باب الخسوف والكسوف ، أنّه من تخويف الله عباده ، وإظهار قدرته ، مع ما ثبَت بالهندسة لك أنّ خسوف القمر لحجب نور الشمس عن جرمه لحيلولة الأرض ، وأنّ كسوف الشمس يكون بحجاب جرْم القمر نورها عن الأبصار ، فأهل الإيمان لا يُنكرون ما دلّت عليه البراهين الهندسيّة ، ولكن الجاحدين لأنوار الشريعة ، ينكرون أحكام الغيب ولم يتفكّروا في قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] . وقوله : { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ هود : 123 ] وقوله : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [ الأنعام : 73 ] . { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [ النساء : 46 ] . فما بالك أيها الأعور ، هلاّ نظرت بالعينين وأثبتَّ العالَمين ، فالله أظهر الملك والشهادة لقضيّة اسمه الظاهر ، والغيب والملكوت لقضيّة اسمه الباطن ، فلو كنت أدركت العالَمين ، لجمعت بين الفلَك والملك ، وأثبتَّ المعقول والمنقول . على أنّ في نظر العارف المحقِّق ، الفلَك ملكٌ متمثّل ، والمنقول معقول ينتقل إلى عالَمك الذي أنت فيه ، والشرع عقلٌ ظاهر ، والعقل شرعٌ باطن ، فالجسماني للفلك والروحاني للملك ، فمن حكم بأنّ الفلك له إرادة وقدرَة فلمْ يدر أنّ الإرادة والقدرة للملك الموكّل به ، وصورة الفلك من عالم التقدير والتسخير ، لا من عالم الحكمة والتدبير ، وهكذا الكواكب وما يضاف إليها من التأثيرات والتدبيرات ، هو من الملائكة الموكّلين بعالَم السماء ، وهي في ذواتها مَوات . فصل قوله : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ، إنْ أريد بالصيِّب المطر ، فظلماته تكاثفه أي تتابعه وظلُمة غمامه مضمومة إليهما ظُلمة الليل . وإن أريد به السحاب ، فظلمته سحمته وتطبيقه إذا كان اسحم مطبقاً . وارتفاعها بالظرف - وفاقاً - لاعتماده على موصوف ، وكون الصيِّب - بمعنى المطر - مكاناً للرعد والبرق ، لأنّهما في أعلاه وأسفله . ولأنّ التعلّق بين المطَر والسحاب قوي كالتداخل ، جاز إجراء أحدهما مجرى الآخر فيما هو من باب الوضع . وقيل : ضمير { فيه } راجع إلى " السَّمَاءِ " ، لأنّ المراد بها السحاب وهو مذكر . وإنّما لم يقل : " رُعود وبُروق " ، كما قيل : { ظُلُمَات } لأنّ أنواعاً متخالفة من الظلمة قد اجتمعت ، فاحتيجت إلى صيغة الجمع بخلاف صاحبيها . وإنّما جاءت الثلاثة منكّرات ، لأن المراد ضروب خاصّة منها ، كأنه قيل : " ظلُمات داجيةٌ ورعد قاصفٌ وبرق خاطفٌ " . والضمير في : { يَجْعَلُونَ } لأصحاب الصيّب ، والمرجع وإن كان محذوفاً لفظاً لكنّه باقٍ معنى ، فيجوز أن يعوّل عليه . والجملة استيناف كأنّها وقعتْ في جواب منْ قال : " فَكيْفَ حالُهم مع مثْل هذه الشدّة والهول ؟ " . وإنّما ذكر : " الأصابع " موضع " الأنامل " للمبالغة ، أو لأنّ المراد بعضها ، وقوله : { مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ } متعلّق بـ " يَجْعَلُونَ " أي : من أجلها . والصاعقة : قصفةُ رعد شديد معها جوهرُ ناريُ قويُّ الناريّة ، لا تمرّ بشيءٍ إلاّ أتت عليه ، بقي بحاله إن كان متخلخلاً لطيفاً ، وأذابته أو دكّته بسرعة إن كان متكاثفاً صلْباً . وهي مع قوّتها سريعة الخمود والجمود ، و " التاء " فيها للمبالغة كالراوية ، أو مصدريّة كالعاقبة . وقوله : { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } نصب على العلّة . والموت : زوال الحياة وعدمها عما فيه قوّة قبولها . وقيل : صفة تضادّ الحياة ، تمسّكاً بقوله : { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] . ودُفِعَ : بأنّ " الخلْق " هٰهنا بمعنى التقدير ، والأعدام مقدرة وإن لم تكن مجعولة . ومعنى إحاطته تعالى بالكافرين : شمول قدرته عليهم وإحاطة أمره ونقمته بهم لقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 54 ] . وقيل : المعنى إنّهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط ، لا يخلصهم الخداع والحيَل . والجملة اعتراضيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب . و " الخطْف " : الأخذ بسرعة . وقرء مجاهد : " يخطِف " - بكسر الطاء - والفتح أفصح ؛ وعن ابن مسعود والحسن : " يَخَطّف " - بفتح الياء والخاء - على أنّه " يَخْتَطف " فأدغمت التاء في الطاء بعد نقل حركتها إلى ما قبلها . وعنه " يخطف " - بكسر الخاء - لالتقاء الساكنين واتّباع الياء لها . وعن زيد بن علي عليه السلام : " يخطف " من خطف . وعن أبَيّ : " يتخطَف " من قوله : { وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . وقوله : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } استيناف ثالث ، كأنّه جواب لمن يقول : " كيف يصنعون في حالتي ظهور البرق وخفائه " ؟ فأجيب بذلك . و { أَضَآءَ } إمّا متعدٍّ ، والمفعول محذوف . بمعنى : " كلّما نوّر لهم ممشى أخذوه " ، أو لازم بمعنى : " كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره " ، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة " كلّما ضاء " . وكذلك { أَظلَم } فإنّه جاء متعدّياً إلى مفعول من " ظِلْم الليل " ، ويشهد له قراءة " أظلِم " على البناء للمفعول . وإنّما قال مع الإضاءة " كلّما " ، ومع الإظلام " إذا " ، لكونهم حرّاصاً على المشي . فكلّما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك الوقوف ، ولو شاء الله في قصف الرعد فأصمّهم وفي ضوء البرق فأعماهم . ومفعول { شَآءَ } محذوف لدلالة الجواب عليه ، ولقد تكاثَر حذفه في " شَاءَ " و " أرَاد " حتّى لا يكاد يذكر إلاّ في الشيء المستغرب كقوله : " وَلو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه " . تنبيه : قال في التفسير الكبير : " إنّ المشهور أنّ كلمة " لَو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ومنهم من أنكر ذلك ، وزعم أنّها لا تفيد إلاّ الربط ، واحتجّ بالآية والخبر . أمّا الآية : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] . فلو أفادت ذلك لزم التناقض ، لأن قوله : { لَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً } [ الأنفال : 23 ] مقتضاه أنه ما علِم فيهم خيراً ، وقوله : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] مفاده أنّه تعالى ما أسمعهم ، وهم [ ما ] توَلّوا ، لكن [ عدم ] التولّي خير ، فيلزم أن يكون قد علم الله فيهم خيراً ؛ وما علِم فيهم خيراً . وأما الخبر : فقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " نعمَ العبد صُهيب ، لو لم يخَف الله لم يعصه " فعلى مقتضى قولهم يلزم أنّه خاف الله وعصاه ، وذلك متناقض . فعلمنا أن كلمة " لو " لا تفيد ألاّ الربط " - انتهى كلامه . وفائدة هذه الشرطية على المذهب المشهور ، إبداء المانع لذهاب سمْعهم وأبصارهم الظاهريتين مع قيام ما يقتضيه ، والتنبيه على أن تأثير الأسباب في مسبّباتها مشروط بمشيّة الله تعالى وإن كان وجودها مرتبطاً بأسبابها منوطاً بآجالها وأوقاتها والكلّ واقع بقدرته . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالتصريح به ، والتقرير له ، وفائدتها على المذهب الأخير ، الإخبار عن ذهاب الحاسّتين عنهم في الحقيقة ، مع أنّ الناس يزعمون أنّهما موجودتان لهم ، فهم صمٌّ وعميٌ في الحقيقة . وعند أهل الكشف ، مع وجود الآلتين فيهم كأنّهم أموات لا يشعرون عند الله وعند أوليائه ، كما قال : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [ النمل : 80 ] ، مع أنّهم يحسّون ويتحرّكون كالأحياء ، وهذا من عجائب قدرة الله تعالى في خَلْق الآدمي . فصل اعلم إنّ الشيئية وإن كانت بحسب المفهوم أعمّ من الوجود ، إلاّ إنّها تساوق الوجود بحسب التحقّق ، وجماعة ممّن جعلها أعمّ تحقّقاً منه ، خرجوا إلى خيالات عجيبة فقالوا : المعدوم الممكن شيء ، وهو ثابت ، لكونه محكوماً عليه بأحكام صادقة توجب تمييزه عن غيره ، وليس بموجود فيكون ثابتاً ، وسلّموا أنّ المحال منفيٌّ ، وأنّه لا واسطة بين النفي والإثبات ، وربما أثبتوا واسطة بين الموجود والمعدوم ممّا سمّوه حالاً ، وبناء هوساتهم على الغفلة عن عالَم الغيب وما فيه من الأمور الذهنيّة الغائبة عنهم ، ولم يعلموا أنّ التفرقة بين المعدومين عن الأعيان ، باعتبار ما أضيف إلى المتصوّر الموجود في الذهن من مفهوميهما ، فإنّ ما ليس له وجودٌ لا في الذهن ولا في العين ، فالتصديق عليه تحكّمٌ وهذيان ، والإخبار عنه ممتنع . ومما يفتضحون به أن يقال لهم : إذا كان الممكن معدوماً ، فوجوده هل هو ثابت أو منفيُ ، فإنّه باعترافهم لا يخرج الشيء عن النفي والإثبات ، فإن كان منفيّاً - وكل منفي عندهم ممتنع - فالوجود الممكن يصير ممتنعاً ، هذا خُلْف ، وإن كان ثابتاً ، وكلّ صفة ثابتة للشيء يجوز أن يوصف بها الشيء ، فالمعدوم يصحّ أن يوصف في حال عدمه بالوجود ، فيلزم التناقض ، وهو محال . ثمّ من العجب أن الوجود عندهم يفيده الفاعل ، وهو ليس بموجود ولا معدوم ، فلا يفيد الفاعل وجود الوجود - مع أنّ الكلام يعود إليه - ولا يفيد ثباته ، فإنه كان ثابتاً بامكانه في نفسه ، فما أفاد الفاعل للماهيات شيئاً فهؤلاء عطّلوا العالم عن الصانع . ومنهم من استدلّ بهذه الآية على أنّ المعدوم شيء ، قال : لأنّه تعالى أثبت القدرة على الشيء ، والموجود لا قدرة عليه ، لاستحالة ايجاد الموجود وتحصيل الحاصل ، فالذي عليه القدرة معدومٌ ، وهو شيء ، فالمعدوم شيء . والجواب : بالحلّ والنقض . أمّا الأول ؛ فلأنّ ايجاد الموجود بنفس هذا الايجاد ، وكذا تحصيل الحاصل بنفس هذا التحصيل ، غير مستحيل ، بل هو واقع ، لأنّ الإيجاد هو الاستتباع في الوجود ، والممكن يفتقر في بقائه إلى العلّة ، كما يفتقر في حدوثه . وأمّا الثاني ؛ فلأنّه لو صحَّ هذا الكلام ، لزم أنّ ما لا يقدر الله عليه أن لا يكون شيئاً ، فالموجود لمّا لم يقدر الله عليه ، وجَب أن لا يكون شيئاً ، وهو شيءٌ عندهم . واحتجّ جهم بهذه الآية على أن الله تعالى ليس بشيء . قال : " لأنّها تدلّ على أن كل شيء مقدور لله تعالى ، و " الله " ليس بمقدور له ، فوجب أن لا يكون شيئاً " واحتجّ أيضاً بقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . قال : " لو كان شيئاً لكان مثلَ نفسِه ، فكان يكذب قوله ، فوجب أن لا يكون شيئاً لئلا يتناقض كلامه . والجواب : إنّ هذه اطلاقات عرفيّة ، وتجوّزات لا يجوز التعويل عليها في أصول الإيمان والاعتقاد ، فبطَل ما صنعوه وتخيّلوه . وهو كما استدلّ بعض الأشاعرة على أنّ الشيء يختصّ بالموجود ، لأنّه في الأصل مصدر " شَاء " أطلق تارة بمعنى " شاء " - اسم الفاعل - وحينئذ يتناول الباري تعالى ، كما قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 19 ] . وتارةً بمعنى مشيء - اسم مفعول - أي مشيء وجوده ، وما شاء الله وجوده فهو موجود في الجملة ، وعليه يحمل قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 20 ] { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] . فهما على عمومهما بلا مثنوية . فصل القدْرة هي التمكين من ايجاد الشيء . وقيل : صفة تقتضي التمكين . وقيل صفة تؤثر وفق الإرادة فخرج ما لا تأثير له من الصفات ، وإن توقّف تأثير القدرة عليها كالعلم في بعض القادرين ، وما يؤثر لكن لا على وفق الإرادة كالطبائع المسخّرة العنصرية مثل صورة النار في إحراقها . وقيل : قدرة الحيوان ، كيفيّة نفسانيّة بها يتمكّن من الفعل والترك ، وهي في الحقيقة قوّة إمكانية نسبتها إلى الطرفين سواء ، وقدرة الله ، كون ذاته تعالى من غير اعتبار الإرادة أو انضمامها بحيث يصح عنه صدور الفعل وعدمه ، والمشهور عن الحكماء ، أنّ الله قادر على كلّ شيء ، بمعنى إنْ شاءَ فعَل وإنْ لم يشأ لم يفعلْ ، سواء شاء ففعَل ، أو لم يشأ فلم يفعلْ ، إذ ليس صدق الشرطيّة متعلّقاً بصدق طرفيها . والإرادة صفة ترجّح تعلّق القدرة بأحد طرفي المقدور ، وهي تنبعث عن الداعي ، فقيل إنّها شوق متأكّد ، وقيل إنّها مغايرة للشوق ، لأنّها هي الإجماع وتصميمُ العزم ، إذ قد يشتهي الإنسان ما لا يريده ، كالمحرّمات الشهويّة عند المؤمن العفيف ، وقد يريد ما لا يشتهيه ، كالأدوية البشعة النافعة . وربما يفرق بينهما ، بأنّ الإرادة ميلٌ اختياريٌ ، والشوق ميل طبيعيٌّ ولهذا يعاقَب المكلّف بإرادته المعاصي ، ولا يعاقب بإشتهائها ، وفي كون الإرادة من الأفعال الإختياريّة نظرٌ . وإلاّ لأدّى إلى التسلسل ، لاحتياجه إلى إرادة أخرى ، هكذا قيل ، وللكلام عليه مجال ليس هٰهنا موضعه . واعلم أنّ الداعي على فعْل الباري عند المحقّقين ، ليس بأمر زائد على ذاته وقدرته ، كالإرادة ، لأنّه عندهم عبارة عن كون ذاته عالِماً بالنظام الأعلى للعالَم ، والأشاعرة لم يقولوا بالداعي ، لتجويزهم ترجيح المختار أحد مقدوريه بالإرادة من غير مرجّح ، وتخصيص أحد المتساويين من غير مخصّص ، والمعتزلة ، وكذا أصحابنا الإماميّة ، قائلون بالداعي ، لشهادة عقولهم باستحالة الترجيح بلا مرجّح مع استلزامه للترجيح بلا مرجّح إذا نقل الكلام في تحقّق الإرادة وعدمها ، وذلك بديهيُّ الإمتناع عند كافّة العقلاء ، لكن المعتزلة قالوا بزيادة الداعي على ذاته تعالى وعلى علْمه ، فمنهم من يقول - موافقاً لبعض أصحابنا - إنّه مصلحةٌ راجعةٌ إلى شخص شخص من أشخاص الموجودات ، ومنهم من يقول : إنّه ذات الوقت ، ومنهم من يقول بامتناع وجود العالَم في غير ذلك الوقت ، إذ لا وقت قبله ، وهذا المقام مما لم تثبت فيه قدمٌ راسخ إلاّ لمن نوّر الله بصيرته ، فإنّه من مزالّ أقدام الأقوام . واشتقاق " القُدْرَةِ " من " القَدْر " ، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته ، أو مقدار ما تقتضيه مشيّته . واستدلّ بهذه الآية على أنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى ؛ لأنّ مقدور العبد شيءٌ ، وكلّ شيءٍ مقدور له تعالى - خلافاً لأبي هاشم وأبي علي - ، وعلى أن المحدث حال حدوثه مقدورٌ . لأن المحدَث حال حدوثه " شيء " ، وكل شيء مقدور - خلافاً للمعتزلة - فإنّهم قائلون : بأن الاستطاعة قبل الفعل محال . واستدلّ من قال بتقدّمها على الفعل بوجهين : أحدهما : أنّه لو تحقّق قبل الفعل ، لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليف العاجز ، وهو غير واقع بالإتّفاق ، كما قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وثانيهما : أنّ القدرة يلزمها كونها محتاجاً إليها في الفعل ، ومع الفعل لا يبقى الاحتياج ، وقد مرّ وجه اندفاعه ، لأنّ الحصول لا ينافي الحاجة إلى العلّة . وأجيب عن الأول : بأنّ تكليف الكافر بايقاع الإيمان في ثاني الحال ، أعني وقت حصول الاستطاعة ، وهي مع الفعل . ويرد عليه أنّه لو استمرّ على الكفر ، لم تتحقّق القدرة أصلاً بناء على أنّها مع الفعل ، والتالي باطلٌ بالاتفاق . تتمةٌ : من كان المؤثّر في وجود الأشياء ليس عنده إلاّ الباري تعالى كالمحقّقين من الحكماء ، حيث يجعلون غيره من الأسباب من قبيل الشروط والمعدّات والروابط والمقدّمات . وكذا الأشاعرة القائلون بنفي العلّية والمعلوليّة والتقدّم والتأخّر بين الأشياء ، فالآية باقية على عمومها لجميع الممكنات ، سواء كانت موجودة بالفعل أو معدومة . وأمّا المعتزلة ، فمنهم من عمّمها وقال إنّ قدرته على ثلاثة أوجه : على المعدومات بأن أوجدها ، وعلى الموجودات بأن يفنيها ؛ وعلى مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه . ومنهم من خصّصها في مقدوراته دون مقدور غيره ، لاستحالة كون مقدور واحد بين قادرين ، لأنّه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد موجوداً ومعدوماً وهو تناقض محالٌ ، وتخصيص العامّ جائز في الجملة ، وواجبٌ بدليل العقل ، لأن قوله : { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] ، يقتضي أن يكون قادراً على نفسه ، ثمّ خصّ بدليل العقل ، وذلك لا يوجب الكذْب على الله والطعن في القرآن ، لأنّ لفظ الكلّ ، كما انّه مستعمل في المجموع ، فقد يستعمل في الأكثر ، وذلك مجاز مشهور في اللغة ، لم يكن استعمال اللفظ كذباً . وهٰهنا تحقيق آخر ، وهو أن الشيئية معناها غير الوجود ، فإنّ كلّ ممكن موجود فللعقل أن يحلّله إلى وجود هو له في غيره ، وإلى مهيّة هي له في نفسه ؛ فالشيئيّة غير الوجود ، إلاّ أنَّها لا تنفكّ عن الوجود كما مرّ ، خلافاً للمعتزلة ، أمّا الباري جلّ ذكره ، فإذ لا مٰهيَّة له سوى الوجود البَحْت ، فلا شيئية له غير شيئيّة الوجود . فإذا تقرّر هذا فنقول : نسبة الباري جلّ ذكره إلى المٰهيّات كلّها بالقدرة ، وإلى الوجودات بالإيجاد والإضافة بالفعل ، لأنّ معنى القدرة ؛ صحّة الفعل والترك ، والمٰهيَّة في نفسها قابلةٌ للوجود والعدم على التساوي دائماً ، سواء كان حين الوجود أو قبله أو بعده ، فالمقدوريّة ثابتةٌ لها دائماً . وأمّا الوجودات ، فحقيقتها أنّها موجودة بالفعل بايجاد الله ، وليست هي في أنفسها جائزة العدم ، لأنّها عين جهات رحمته وَجُودِه ، وامكاناتها عبارة عن كونها مفتقرة الذوات إليه تعالى ، مجعولة بجعله وابداعه ، والضرورة الوجوديّة الثابتة لها ضرورات ذاتية ما دامت الذات ، وليست ضرورة أزليّة ، والفرق بين الوجوبين ثابتٌ عند أهل الميزان المستقيم ، فالله على كلّ شيء قدير ، فاعلم هذا فإنه من العلوم الشريفة المحرّمة على غير أهلها .