Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 1-1)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فصل في نبذ من أسرار الحروف لمّا ذكر الله عن نفسه أنّه الظاهر وأنّه الباطن وأنّه المتكلم ، وأنّ له كلاماً وكلماتٍ وكتباً ، وذكر نبيُّه ( صلّى الله عليه وآله ) : " أنّ له نفَساً من الإسم الرحمن ، الذي به استوى على العرش ، وهو بمنزلة قلب الإنسان كما قال : قلبُ المؤمنِ عرشُ الله " صحّ لنا الإيمان بهذه الأمور . فلمّا علمنا أنّ له نفساً لا كأنفاسنا ، بل على وجه يليق بذاته وصفاته أنّه الباطن والظاهر كبطوننا وظهورنا ، وأنّ له كلاماً على وجه يناسب عظمته وجلاله ، علِمنا أنّ كلماته هي الموجودات الصادرة عنه ، الناشية عن ذاته بذاته ، من غير توسّط مادة أو محل أو استعداد على مثال الحروف والكلمات الناشية من الإنسان التي يتشكّل بها الهواءُ الخارج من باطنه ؛ ولا كمثل أفعال الإنسان التي تتوسّط فيها الآلات الجسمانيّة الخارجة عنه . ولما علمت أنّ قلب الإنسان - لمكان الروح الحيواني الذي هو سبب حياة البدن ، - بمنزلة عرش الرحمن ومحل الرحمة ، وان صدره الواسع - لمكان الروح الطبيعي الساري في جميع البدن أعلاه وأسفله - بمنزلة كرسيّه الذي وسع السموات والأرض ؛ فاعلم أنّ الله جعل للهواء الخارج من الصدر بعد نزوله إليه من القلب ثمانية وعشرين مَقطعاً للنفَس ، يظهر في كل مقطَع حرفاً معيّناً ما هو عين الآخر ، ميّزه القطع مع كونه ليس غير النفَس . فالعين واحدة من حيث إنّها نَفسٌ ، وكثيرة من حيث المقاطِع ، وهي أمورٌ عدميّة كما انّ امتياز الوجودات الخاصّة ليست بأمر زائد على حقيقة الوجود الانبساطي الفائض من الحق تعالى . بل امتيازها عنها ، وامتياز بعضها عن بعض ، ليس إلا من جهة مراتب النقصانات والتنزّلات اللازمة للمعلوليّة ، فليس التفاوت بينها إلاّ من جهة الكمال والنقص ، والتقدّم والتأخّر ، والقرب والبعد من العلّة الأولى . فكذلك حال الحروف الصوتيّة الإنسانيّة ، المنقسمة إلى ثمانية وعشرين حرفاً . لأن الكرسيّ ، وهو فلَك المنازل - ومِثاله الصدْرُ فينا - منقسمٌ باعتبار المنازل والأمكنة للسيّارات الفلكيّة - من الكواكب وأرواحها ونفوسها المتحرّكة بأمر الله ، المتردّدة على حسب ما حملها الله من أحكام الوحي والرسالة الى خلْقه - الى ثمانية وعشرين منزلاً . ولك أن تستشكل هذا بما قد ورَد في الخبر عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : إنّ المُنزَل عليه تسعة وعشرون حرفاً ، وما أنزل الله على آدم إلاّ تسعة وعشرين حرفاً ، وإنّ " لام ألف " حرفٌ واحدٌ قد أنزله الله عزّ وجل على آدم في صحيفة واحدة ، ومعه ألْف مَلَك ، ومن كذب ولم يؤمن به فقد كفَر بما أنزل الله على محمد ( صلّى الله عليه وآله ) ، ومن لم يؤمن بالحروف - وهي تسعة وعشرون فلا يخرج من النار أبداً . فاعلم أنّ هذا غير مناقضٍ لما ذكَرنا ، من كون الحروف ثمانية وعشرين ، فإنّ الألف اللينة ليست كسائر الحروف متعيّنة بتعيّن خاصّ وحيّزٍ مخصوص ومخرَجٍ مشخَص ، بل هي بحقيقتها الهوائيّة ساريةٌ في جميع التعيّنات الحرفيّة ، فكأنَها ظلٌّ للوحدة الإلٰهيّة السارية في وحدات الأكوان الوجودّية . وقد مرّت الإشارةُ إلى أنّها عين النفس الإنساني ، كالعقل الأول الذي مرتبته عين مرتبة الوجود الانبساطي المنبسط على هياكل الماهيات المتعيّنة ، وهو الحقّ المخلوق به . فللألِف اعتباران : اعتبار اللاّتعيّن ، لكونها عين النَّفَس الهوائي ، واعتبار التعيّن الذي هو أول التعيّنات كالهمزة ، فإنّها من أقصى الحلْق ، إلاّ انّ مخرَجَ الهمزة كالهاء أول المخارج ، ومخرَج الألِف الساكنة من الجوف وهو الفضاء الواقع في جهة العلو ، وتغاير الحروفِ بتغايُرِ المَخارج . ومن هذا الاعتبار يجبُ عدّ الألِف المتحرّكة والساكنة حرفين ، ولمّا كانت أسماءُ الحروفِ مصدَّرة بمسمّياتها التي هي الزُّبُر ، وهذه القاعدة غير مطرّدة بالقياس إلى الألف لِما فيه من سرّ الوحدة الإلٰهيّة التي لا اسم لها بخصوصيّة ذاتها ، لاستحالة الابتداء بالساكن الحقيقي ، فلم يكن بدٌّ من ارتدافِها بحرفٍ ينوبُ عن ذاتها سادّاً مسدّ التصدير بها . وكانت " اللامُ " بحسب عددها - الذي هو بمنزلة روح الحرف - يساوي عدَد الحروف كلّها مع واحدٍ ، وكان فيها سرّ الجمعيّة الألِفيّة ، وأيضاً كان عددُ الحروفِ أعني التسعة والعشرين مقوّم عدد لام ، والألف الساكنة أيضاً هي التاسعة والعشرون ، كان ضمّ الألِف إلى اللاّم هو الأحق بالاعتبار ، فاعتبر " لا " في منزلة الألف اللّينة ، فجعل لام ألِف اسماً لها ، والألف إسماً للهمزة ، فلا محالة صارت الحروف تسعة وعشرين . ومن اعتبر الحروفَ ثمانية وعشرين - وهي عدد منازل القمر - ، كان نظرُه إلى الحروفِ الصِّرْفة المتعيّنة بالمخارج المتحيّزة بالأمكنة من جهة قبولِها للحركة والسكون ، وهما من صفات الحدثان وسِمات النقصان ، والألف لسيت متحرّكة ولا ساكنة إلاّ بالمعنى السلبي التحصيلي ، تقابِل الحرَكة تقابُل السلب والايجاب ، لا تقابُل العدَم والملكة ، فلا جَرَمَ جعل أمراً خارجاً عن سلسلة الأكوان الحرفيّة ، لأنها في الحقيقة فاعلها وراسمها ومقومها . وفيها سرّ الإلٰهيّة وظلّ الربوبيّة ، ونسبتها الى سائِر الحروف ، نسبة الحقّ المخلوق به إلى صوَر الموجودات العالَميّة . ومما يؤيِّد هذا ما رواه [ أبو ] إسحـٰق الثعلبي في تفسيره مسنِداً إلى عليّ بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، قال : سُئل جعفر الصادق ( عليه السلام ) عن قوله تعالى : آلم ، فقال : في الألِف ستّ صفاتٍ من صفات الله عز وجل : " الابتداء " ، فإن الله تعالى ابتدأ جميع الخلْق ، والألف ابتداء الحروف . " والاستواء " ، فهو عادلٌ غير جائر ، والألِف مستوٍ في ذاته . " والانفراد " ، فالله فردٌ والألِف فردٌ و " اتّصال الخلْق بالله والله لا يتّصل بالخلق ، وكلّهم يحتاجون إليه والله غنيّ عنهم " . فكذلك الألِف لا يتّصل بالحروف والحروف متّصلة به وهو منقطعٌ من غيره ، والله عز وجل بائِنٌ بجميع صفاته من خلقه ، ومعناه من الألْفة ، وكما أن الله عز وجل سبب ألفَةِ الخلْق ، فكذلك الألِف ، علّة تألّف الحروف وهو سبب ألفَتِها . بحث وتنبيه [ الالف وأسرارها ] إنّ ما ورَد في الكشّاف وغيره من التفاسير سيّما الكبير من " أن هذه الألفاظ لمّا كانت أسماء لمسمّياتها التي هي حروفٌ يتركب منها الكِلم ، وكانت هذه الأسماء مؤلَّفاتٍ ، ومسمّياتها حروفاً وحدانا ، صدرت بتلك الحروف لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمْع ، واستعيرت الهمزة مكان الألفِ لتعذّر الابتداء بها " ففيه نظَرٌ . لأنّ المراد من الألِف المذكورة ها هنا ، إن كان هي الهمزة ، فقد وقَع التصدير بالمسمّى في اسمها ، فإن أول حروف لفظ " الألف " هي الهمزة المفتوحة . وإن كان المراد منه الألف اللينة التي هي من حروف العلّة ، ففيه حزازتان : تصديرُ الهمزة بغير مسمّاها وهو خرْقُ القاعدة المذكورة ، والترجيح من غير مرجّح ، فإنّ الهمزة أولى من الألِف بأن يصدّر اسمها بمسمّى الهمزة . بل الأولىٰ أن يجعلَ القاعدةُ مطّردة في الحروف الصحيحة الثمانية عشر كلّها ، ويجعل لفظ " الألِف " اسماً لما هو من جنس الحروف الصحيحة ، أعني الهمزة على الحقيقة ، كما هو الرسم في سائر الحروف ، ويجعل " اللام ألِف " اسماً للألِف اللينة بناء على ما ذكرنا سابقاً . ومن تأمّل في أحوال الألف وأسرارها حقّ التأمّل ، انكشفت عليه أسرارٌ شريفة من أحوال المبدإ وخصائصه الإلٰهيّة . منها : إنه لا اسم لها من جهة ذاتها الأحديّة ولا رسم . ومنها : إنّها الأول في تعداد الحروف من حيث تعيّنها بالهمزة . ومنها : إنّها بإزاء الواحد في الأرقام الحسابيّة . ومنها : إنّها ليست في ذاتها متحرّكة ولا ساكنة كما مرّ ، بل سكونها على وجه آخر أعلى من سكون الهمزة وسائر الحروف . ومنها : إنّها لا مخرَج لها على التعيين من جملة المخارج ؛ كما لا حيّز للبارى جلّ اسمه . ومنها : إنّها تقع أول الكلمات باعتبار تعيّنها الهمزي ، وتقع غاية الكلمات لا آخر بعدها ، كما انّ البارى أول الأشياء لا أول له وغاية الأشياء لا غاية له . ومنها : إنها أبسط من كل حرف في الوجود الهوائي السمعي ، وشكلها أبسط أشكال الحروف في الوجود الكَتْبي البصري . ومنها : ما مر ذكره في الوجود الستّة من الصفات المذكورة في الحديث المرويّ عن جعفر الصادق ( عليه السلام ) وعلى آبائه التحيّة والإكرام . كشف غطاء [ الروح البخاري مثال العَماء ] ثم اعلم هداك الله طريق المعرفة والشهود ، أنّ النفْس الناطقة هي المدبّرة باذن الله تدبيراً طبيعيّاً أو نفسانيّاً لهذا البدن الجسماني ، الذي هو بجميع ما فيه من القُوى والحواسّ والأعضاء والآلات ، عالَم صغيرٌ بمنزلة العالَم الكبير بما فيه من الأفلاك والعناصر والبسائط والمركبات ، الذي دبّره الله تدبيراً إلٰهيّاً وتصرّف فيه برحمته وعنايته . ثم إنّ النفْس لم تدبّر لهذا البدن ، ولم تتصرّف في قواه وأعضائه ، إلاّ بعد أن نزلت من علوّ تجرّدها وسماء تقدُّسها ، وبرزت من مكمن ذاتها الروحانيّة ، وباطن كينونتها العقلانيّة إلى عالَم الحسِّ والتجسُّم . فتوسَّطت بين غيب هويّتها ومظهر شهادتها ، في ألطف ما يوجَد من حدود عالَم البدن من البخار اللطيف النفساني المتعلّق بالقلْب الصنوبري الشكل ، المستدير الهيكل ، المحدّد لجهات البدن من أعلاه وأسفله . فالنفْس قبل تعلّقها بالبدن وتصرّفها فيه ، وتدبيرها لقواه وحواسّه التي هي كالسمـٰوات ، وأعضائه التي هي كالأرضيّات ، نزلت وتجسّمت بخاراً لطيفا يتكوّن منه جميع لطائف البدن ، وبسببه تقع الأفاعيل الإنسانيّة سيما المتكلّم بالحروف والكلمات ، التي هي أخص أفاعيل النفس الناطقة في هذا العالَم . وهذه اللطيفة البخاريّة ، التي تنزل فيها النفْس قبل تصرّفها وفعلها في عالَم البدن ، مثال للعَماء الذي جاء في الخبر وصْفُه بقوله : إنّه كان ربُّنا قبل أن يخلق الخلق في عماء ما فوقه هواه وما تحته هواء . فذكر انّ له الفوق ، وهو كون الحقّ فيه ، والتحت ، وهو كون العالَم فيه . والعماء يحدث عن بخار رطوبات الأركان الأربعة ، والفلك أيضاً دخانٌ لطيفٌ الطف من هذه الأبخرة الحاصلة من لطائف هذه العناصر ، بل عناصره كائنة على وجهٍ يناسب عالَم السماء ، وهي التي ينقسم بها الفلك أرباعاً ، ممّا يطول شرحُه . فالحاصل ، إنّ العماء الذي ورد في الحديث ، إنّ الله قبل أن يخلُق ، كان فيه مثالُه اللطيفة الجسمانيّة الموجودة في خِلقة الإنسان التي تعلّقت بها اللطيفة القدسيّة النازلة فيها من نفخ الحق من روحه ، وهي كلمة من كلمات الله ، وينبعث منها النَّفَس الهوائي المتصوَر بصور الحروف والكلمات الإنسانيّة المطابقة للحروف والكلمات الكائنة في النَّفَس الرحماني والوجود الانبساطي ، ليتحقّق ويتنوّر على البصير المحدِق بنور هذه المكاشفة البرهانيّة أن من عرف نفسَه فقد عرف ربَّه . فصل في الإشارة الى سر هذه الصفوة من المفاتيح الحرفية الواقعة في فواتيح السور روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنّ لكلّ كتاب صفوة ، وصفوة هذه الكتاب حروف التهجّي . وعن الشَّعبي قال : لله تعالى في كلّ كتابٍ سرٌّ ، وسرُّه في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السوَر . إعلم أنّ الذين اقتصرت علومُهم على ما يتعلّق بعالَم الشهادة ، وانحصرت عندهم معاني الموضوعات اللفظية فيما يوجَد في عالَم المحسوسات ، قالوا : إنّ الألفاظ التي تتهجّى بها أسماء مسمّياتها الحروف المبسوطة ، فإنّ الضاد مثلاً لفظةٌ مفردة دالّة بالتواطؤ على معنى مستقلٍّ بنفسه ، من غير دلالة على الزمان المعيّن ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب " فثبت أنّها أسماءٌ ، لأنها ممّا يصدق عليها حدّ الاسميّة ، ولأنها أيضاً يوجد فيها خواصّ الاسم - من كونها متصرّفاً فيها بالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والإسناد والإضافة - فكانت لا محالة أسماء ، وبه صرّح الخليل وأبو علي . وأما ما رواه أبو عيسى الترمذي عن ابن مسعود أنّه قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسَنة ، والحسَنة بعشر أمثالها . لا أقول الۤمۤ حرف ، بل الألف حرفٌ واللام حرفٌ ، والميم حرفٌ " - الحديث ، فقيل : إنّ المراد به غير المعنى الذي اصطُلح عليه ، فإنّ تخصيصه به عُرفٌ جديد . بل المعنى اللغوي ، ولعله سمّاه باسم مدلوله . وأقول : يمكن أن يراد بهذه الأسماء الثلاثة المذكورة في الحديث مسمّياتها من الحروف الوحدان . قالوا : إنّ حكم هذه الألفاظ مع كونها معربة أن تكون ساكنة الأعجاز ما لم تِلها العواملُ كأسماء الأعداد ، فيقال : ألِفْ لامْ ميمْ ، كما نقول : واحد إثنان ثلاثة ، فهي معربة ، وإنّما سكنت سكون الوقفِ لا سكون البِناء إذ لم تناسب مبنيَّ الأصل . ولذلك لم تُحدّ بحدٍ ككيفَ وأينَ وهؤلاءِ ومُنذ ، بل جمع فيها بين ساكنين فقيل : صْ قْ . فسكونُها سكون المعربات حيث لا يمسّها إعرابٌ لفقْد موجبه وعامله ، مع كونها قابلة للعمل ، معرّضة للإعراب . ثمّ قالوا : إنّ مسمّياتها لمّا كانت عنصر الكلام وبسائطه التي منها تركّبت ، افتتح الكلام في السور بطائفة منها ايقاظاً لمن تحدّىٰ بالقرآن ، وتنبيهاً على أنّ المتلوَّ عليهم كلامٌ منظومٌ مما ينظمون منه كلامَهم ، فلو كان من عند غير الله لما عجَزوا عن آخرِهم مع تظاهرهم وقوّة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه . وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقّلاً بنوع من الإعجاز ، فإنّ النطق بأسماء الحروف مختصٌّ بمن خطَّ ودرَسَ . فأمّا من الأمّي الذي لم يخالط الكتاب ، فمستبعَدٌ مستغربٌ خارقٌ للعادة كالكتابة والتلاوة ، سيّما وقد راعىٰ في ذلك ما يعجز عنه الأديبُ الأريبُ الفائقُ في فنّه . وهو أنّه أورد في هذه الفواتح أربعةَ عشر اسماً في نصف أسامي حروف المُعجم - ان لم يعدّ الألف فيها حرفاً برأسه - في تسع وعشرين سورة بعددها ، إذا عدّ فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها . فذكَر من المهموسة هي ما يضعف الاعتماد على مخرَجه ، ويجمعها : " فحثه شخص سكت " نصفها : الحاء والهاء والصاد والسين والكاف . ومن البواقي المجهورة نصفها : " لن يقطع امر " . ومن الشديدة ، الثمانية المجموعة يجمعها : " اجد قط بكت " ، أربعة يجمعها " اقطك " . والبواقي الرخوة عشرة ، يجمعها : " حمس على نصره " . ومن المطبقة ، التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها ، ومن البواقي المنفتحة نصفها . ومن القلقة : وهي حروف تضطرب عند خروجها ، ويجمعها : " قطب جد " نصفها الأقل لقلتها . ومن اللينتين الياء ، لأنّها أقلّ ثقلاً ، ومن المستعلية - وهي التي يتصعّد الصوت بها في الحنَك الأعلى - وهي سبعة ، يجمعها : " خص ضغط قض " - نصفها الأقلّ . ومن البواقي المنخفضة نصفها . ومن حروف البدل ؛ وهي أحد عشر - على ما ذكره سيبويه واختاره ابن جني - ويجمعها : " اجد طويت " منها الستّة الشائعة المشهورة التي يجمعها : " اهطمين " ، وممّا يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب ، وهي خمسة عشرة : الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو ، نصفها الأقل . ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية ، نصفها الأكثر ؛ الحاء والقاف والكاف والراء والسين واللام والنون ، لما في الإدغام من الخفّة والفصاحة ، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها وتدغم فيما يتقاربها وهي : الميم والزاي والسين والفاء نصفها . ولمّا كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان ، وهي ستّة يجمعها : " رب منفل " . والحلقيّة التي هي : الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة ، كثيرة الوقوع في الكلام ، ذكر ثلثيهما . ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ، ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها : " اليوم تنساه " سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك . ولو استقريت الكلم وتراكيبها ، وجدت الحروف المتروكة من كلّ جنس مكثورة بالمذكورة . ثم إنّه ذكرها مفردة وثنائيّة وثلاثية ورباعية وخماسيّة ، ايذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ومركّبة من حرفين فصاعداً الى الخمسة . وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور : " صۤ نۤ قۤ " ، لأنّها توجَد في الأقسام الثلاثة : الاسم والفعل والحرف . وأربع ثنائيات : " حـمۤ يسۤ طسۤ طٰه " ، لأنّها تكون في الحرف بلا حذفٍ ؛ كبَلْ وفي الفعل بحذف : كقُلْ . وفي الاسم بغير حذف : كمَنْ ، وبه : كدَمْ ، في تسع صور لوقوعه في كلّ واحدٍ من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه . ففي الأسماء : " مَن " و " إذ " و " ذو " . وفي الأفعال : قُلْ وبِغْ بِعْ وخفْ ، وفي الحروف : إنْ ومِنْ ومُذْ ، على لغة من جرّبها . وثلاث ثلاثيات لمجِيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة ، تنبيهاً على أنّ أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر ، عشرة منها للأسماء ، وثلاثة للأفعال . ورباعيتين وخماسيتين ، تنبيهاً على أن لكلّ منهما أصلاً ، كجعفَر وسفرجَل ، وملحقاً كقردد وجحنفل . ولعلّها فرّقت على السوَر ولم تعدّ بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة ، مع ما فيه من إعادة التحدّي وتكرير التنيبه والمبالغة فيه . والمعنى : هذا المتحدىٰ به مؤلَّفٌ من جنس هذه الحروف ، والمؤلَّف منها كذي . هذا ما ذكره علماء اللسان في هذا الباب ، وأما الذين ارتفعت درجتُهم عن هؤلاء ، فاختلفوا في معاني هذه الأسماء على قولين : القول الأول : إنّ هذا عِلْم مستورٌ وسرٌّ محجوبٌ وغيب مبطونٌ ودرٌّ مكنون استأثر الله بعلمِه ، وعليه يُحمل الخبَرانِ المذكوران سابقاً . وقال بعض العارفين : العلم بمنزلة البحْر ، فأجري منه وادٍ ثمّ أجري من الوادي نهرٌ ، ثمّ اجري من النهر جدولٌ ، ثمّ اجري من الجدول ساقيةٌ ، فلو اجري إلى الجدول ذلك الوادي لغرّقه وافسده ولو سالَ البحرُ الى الوادي لأفسده ، وهو المراد من قوله تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . فبحور العلم عند الله ، وأعطى الرسل منها أودية ، ثمّ أجرى الرسل من أوديتهم أنهاراً [ إلى العلماء ] ، ثمّ أَعطت العلماءَ للعامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامّة سواقي إلى أهليهم بقدر طاقتهم . ومن هذا روي في الخبر : للعلماء سرٌّ ، وللخلفاء سرٌّ ، وللأنبياء سرٌّ ، وللملائكة سرٌّ ، ولله تعالى بعد ذلك كلّه سرٌّ ، ولو اطّلع الجهّال على سرّ العلماء لأبادوهم ، ولو اطّلع العلماء على سرّ الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطّلع الخلفاءُ على سرّ الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطّلع الأنبياء على سرِّ الملائكة لاتّهموهم ، ولو اطّلع الملائكة على سرِّ الله ، لطاحوا حائرين وبادوا بائرين . والسبب في ذلك : أنّ العقولَ الضعيفة لا تحتمل الأسرارَ القويّة ، كما لا يتحتمل نورَ الشمس أبصارُ الخفافيش ، ولما زيد الأنبياء في عقولهم قدَروا على احتمال أسرار النبوّة ، ولما زيد العلماء في عقولهم قدَروا على احتمال ما عجزَت عنه العامّة . وكذلك علماءُ الباطن - وهم الحكماء - زيد في عقولهم فقدَروا على احتمال ما عجز عنه علماء الظاهر . وسُئل الشعبيُّ عن الحروف ، فقال : سرُّ الله لا تطلبوه . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس ، قال : عجزت العلماء عن إدراكها ، وقال الحسين بن الفضل : هو من المتشابهات . تنبيه [ ردٌّ على القائلين بعدم امكان فهم تفسير الحروف المقطعة ] واعلم أنّ هذا القول ليس بسديد ، لأنّه لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوماً للخلق ، إذ هو مما أنزله لهداية الخلق وإرشادهم وتكميلهم وإخراج عقولهم عن القوّة إلى الفعل ، وسياقة نفوسهم عن ظلمات الحِيرة والجهْل والعمى إلى نور المعرفة والعلم والبصيرة ، لتتنوّر ذواتهم بأنوار معارف القرآن ، ويستعدّوا للقاء الله في دار المثوبة والرضوان ، ويتخلّصوا عن آفات الجهالة الموجبة لكثير من الأمراض القلبيّة والآلام النفسانيّة المؤدِّية الى الهلاك ، المستلزمة لعذاب البُعد والاحتجاب ، كما للمطرودين عن باب الرحمة الإلٰهيّة ، المحترقين بنيران الجهالات المتراكمة ، المتألّمين بآلام الاعتقادات الرديّة الفاسدة ، فلا بدّ أن يوجد في عباد الله مَن كان عنده علم الكتاب ، وإلاّ لكان إنزاله عبثاً . نعم ، درجات الناس بحسب العقول متفاوتةٌ كما مرّ فيما ذكر من الخبَر . فلا جَرَم حظوظهم من آيات كتاب الله مختلفةٌ ، كتفاوت أغذية الناس والأنعام ممّا ينبت في الأرض من سائر الطعام . فلطائفةٍ منها القشور ، كالتبن والنخالة ، ولطائفه اللبوب والأدهان كالحَبِّ من الحنطة والدُّهن من الزيتون : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 33 ] . والحجّة لنا في هذا المقصد من الآيات والأخبار كثيرة : أما الآيات : فمنها قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . أمرهم بالتدبّر في معاني القرآن ، ولو كانت غير مفهومة لَما أمرهم بالتدبّر فيها . ومنها قوله : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 192 - 195 ] . فلو لم يكن مفهوماً بطل كونه ( صلَّى الله عليه وآله ) منذِراً به . وأيضاً فقوله { بِلِسَانٍ عَربِيٍّ مُبينٍ } . يدلّ على أنه نازلٌ بلغة العرب ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوماً . ومنها قوله : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] . والاستنباط منه لا يمكن إلاّ مع الإحاطة بمعناه . ومنها قوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] . وقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ } [ الأنعام : 38 ] . وقوله : { هُدىً لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] { هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] . وغير المعلوم لا يكون هدىٰ . ومنها قوله تعالى : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5 ] . وقوله : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . وكلّ هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم . ومنها قوله : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] . وقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النساء : 174 ] . فكيف يكون برهاناً وكتاباً مبيناً ونوراً مبيناً مع انّه غير مفهوم . ومنها قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] . فكيف يكون هادياً مع انّه غير معلوم ؟ ! إلى غير ذلك من الآيات المشيرة الى كون الغرض من إنزال القرآن تعليم العباد . وأما الأخبار ، فمنها قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " إنّي تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً كتابُ الله وعترتي " . وروى العامّة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال : " عليكم بكتاب الله ، فيه نبأُ ما قبلكم ، وخبرُ ما بعدكم ، وحكْم ما بينكم ، هو الفَصْل ليس بالهزِل من تَركه من جّبار قصَمه الله ، ومن اتّبع الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، والذكْر الحكيم ، والصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخْلق على كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدَق ومن حكَم به عدَل ، ومن خاصَم به فلَج ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم " . وأما ما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنّ لكل كتاب صفوة وانّ صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي ، فليس فيه ما يدلّ على أنّ معاني هذه الحروف غير مفهومة ، وكذا ما روي عن الشعبي لا تزيد دلالته على أن هذه الحروف من أسرار الله الخفيّة التي لا يعلمها كلّ أحد ، ولا يدلّ على أن الراسخين في العلم لا سبيل إلى إدراكها . وكذا ما ذكره بعض العارفين ، ليس فيه دلالة على عدم اطّلاع الناس على سرّ هذه الحروف ، بل فيه ما يدل على ضد ذلك كما لا يخفى . واحتجّ المخالفون بوجوه من العقل والنقل كلّها ضعيفة مدخولة : منها : انّه من المتشابه من القرآن وانّه غير معلوم لقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] ، والوقف ها هنا لازمٌ ، إذ لو عطف عليه قولُه : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] ، لبقي قوله : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ آل عمران : 7 ] منقطعاً عنه ، وهو غير جائز . وهو مجابٌ - لا بأنّ " يَقولُونَ " حالٌ . وإلاّ لكان حالاً للمعطوف عليه كما للمعطوف ، فيلزم أن يكون الله قائلاً : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وهو كفرٌ - بل بأنّه خبر مبتدأ محذوف بقرينة سابقة . ومنها : أنه روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) انّه قال : " إنّ من العلْم كهيئة المكنون لا يعلَمه إلاّ العلماء بالله فإذا نطَقوا به أنكره أهل الْعِزّة بالله " ودلالة هذا الخبر على ثبوت هذا الجانب ، أكثر من دلالته على ثبوت طرف المخالف . ومنها : أنّ القول بان هذه الفواتح غير معلومة ، مرويٌّ عن أكابر الصحابة ، فوجَب أن يكون حقاً . والجواب - بعد التسليم - أنّ دلالة ما روي عنهم على كونها غير معلومة لأحد من الناس مطلقاً وإن كان من الراسخين ، غير مسلّم . وعلى كونها غير معلومة لجمهور الناس ، لا تضرّنا ونحن نقول به . ومنها : أن الأفعال التي كُلفنا بها قسمان ، منها ما يُعرف وجهُ الحكمة فيها كالصلاة والصيام والزكاة . ومنها ما لا يُعرف وجهُ الحكمة فيها كأفعال الحجّ ، فكما يحسن من الله الأمرُ بالنوع الأول ، فكذا يحسن منه الأمُر بالنوع الثاني ، لأن الطاعة فيه تدلّ على كمال الانقياد ونهاية التسليم ، لأنه لمّا لم يعرف فيه وجه مصلحة ، لم يكن إتيانه إلاّ لمحض الانقياد والتسليم ، وإذا كان الأمرُ كذلك في الأفعال ، فلِمَ لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال ، وهو أنّ الله يأمرنا تارةً بأن نتكلّم بما نقفُ على معناه ، وتارةً بما لا نقفُ على معناه ، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر . أقول : وهذا أيضاً ساقط ، لأنّ كون الغاية في التكليف بالأعمال ، التسليم والانقياد ، وإن كان مسلَّماً ، لكن كون الغاية في العلوم كذلك ، غير مسلّم كما حقِّق في مقامه . وبالجملة ، المقصود من العلوم والمعارف ، تنويرُ القلب بأنوار الحقائق الإلٰهيّة ، ومن الأعمال والأفعال ، تطويعُ النفسِ الأمّارة للنفسِ المطمئنّة لئلا تزاحمها القُوى الشهويّة والغضبيّة وغيرها في السلوك إلى الله . وأعجبُ من ذلك قولهم : بل فيه فائدةٌ أخرى ، وهو أنّ الإنسان إذا وقع على المعنى وأحاط به ، سقط وقعه عن القلْب ، وإذا لم يقف على المقصود مع القطع بأنّ المتكلم بذلك أحكم الحاكمين ، فإنّه يبقى ملتفتاً إليه أبداً ومتفكّراً فيه دائماً ، ولُباب التكليف اشتغال السرّ بذكر الله والتفكّر في كلامه . أقول : ما أشبه هذا بكلام العوامّ والجهّال ، فإنّ التفكّر ليس من الغايات المتأصّلة ، ليكون بقاءُ الإنسان في التردّد الفكريّ أبداً سرمداً سعادةً ، على أن فيه تعباً ومشقّة في الحال ، وإنّما الفائدة فيه انتقال الذهن الى ما هو المطلوب الأصلي ، وهو الابتهاج بإدارك الحضرة الإلٰهية ، والاستسعاد بالأنوار الملكوتية . القول الثاني : قول من زعَم أنّ المراد من هذه الفواتح معلومٌ ، وهم اختلفوا وفسَّروها على وجوه متخالفة . أحدها : إنّها أسماء السوَر عن الحسَن وزيد بن أسلم ، وهو قول أكثر المتكلّمين . الثاني : إنّها أسماء الله ، روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق . الثالث : إنّها أسماء القرآن . الرابع : إنّها أبعاض أسماء الله . قال سعيد بن جبير قوله : " الۤر ، حـمۤ ، نۤ " مجموعها هو اسم الرحمن . ولكنّنا لا نقدرُ على كيفية التركيب في البواقي . الخامس : أن تكون إشارة الى التي كانت هي منها ، اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله : قلتُ لها : قِفي . فقالتْ : قاف . فيكون فيها دلالة على أسماء الله وأسماءِ صفاته ، كما قال ابن عباس في الۤمۤ : " أنا الله أعلم " ، وفي الۤمۤر : " أنا الله أعلم وأرى " ، والۤمۤصۤ معناه : " أنا الله أعلم وأفصل " . وكما قال : " ألف " : آلاء الله . و " اللام " : لطفه . و " الميم " : ملكه . وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه . السادس : إنّ بعضها يدلّ على أسماء الله ، وبعضها يدلّ على أسماء غيره ، فقال الضحّاك : الألف من الله ، واللام من جبرائيل ، والميم من محمد ، أي انزل الله الكتاب على لسان جبرائيل ( عليه السلام ) إلى محمّد صلوات الله عليه وآله . وهو المروي عن ابن عباس . السابع : قول أبي زيد وقُطرب : إنّ الكفار لمّا قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه ، وتواصوا بالإعراض عنه ، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الأحرف . فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين : استمعوا الى ما يجيء به محمّدٌ ، فإذا أصغَوا هجَم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً الى انتفاعهم . والثامن : قول أبي العالية : إنّ كلّ حرف منها مدّة أقوام وآجال آخرين بحساب الجمل ، متمسّكا بما " روي انَه ( صلّى الله عليه وآله ) أتاه أبو ياسر بن أخطب وهو يتلو سورةَ البقرة ، ثمّ جاء أخوه حيي وكعب بن الأشرف فسألوه عن الۤمۤ ، وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أحقٌّ أنّها أتتكَ من السماء ؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : نعم ، كذلك نزل ، فقال حيي : إن كنت صادقاً ، إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السِّنين . ثمّ قال : كيف ندخل في دينِ رجُلٍ دلّت هذه الحروفُ بحساب الجمل أن تنتهي مدّتُه إحدى وسبعون سَنة ؟ فضحك رسولُ الله ( صلّى الله عليه وآله ) . فقال حيي : هل غير ذلك ؟ فقال : نعم " الۤمۤصۤ " فقال : هذا أكثر من الأول ، فهل غير هذا ؟ فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : نعم . الۤر . فقال حيي : هذا أكثر من الأول والثاني . فنحن نشهد إن كنتَ صادقاً ما ملكت أمّتك إلاّ مأتين وإحدىٰ وثلاثين سنة ، فهل غير هذا ؟ فقال : نعم " الۤمۤر " قال نحن نشهد انّا من الذين لا يؤمنون ، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ " . التاسع : ما قاله الأخفش : إنّ الله أقسَم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسِنة المختلفة ، ومباني أسمائه الحسُنىٰ ، وأصول كلام الأمم ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه . واقتصر على هذا البعض كما تقول : قرأت الحمدَ . وتريد السورةَ كلّها ، فكأنّه تعالى أقسم بهذه الحروف انّ هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبَت في اللوح المحفوظ . العاشر : قال أبو بكر الزهري : إنّ الله تعالى علم أنّ طائفة من هذه الأمة تقول بقِدمَ القرآن ، فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أنّ كلامَه مؤلَّف من هذه الحروف ؛ فيجب أن لا يكون قديماً . فهذه عشرة من الأقوال المذكورة في معنى هذه الفواتح وهي كثيرة اكتفينا بذكر هذه من غيرها ، لأنّها الأقرب إلى التصديق به ، ومختار الأكثر هو كونها أسماء السور وعليه إطباقُ كثير من المفسّرين منهم الإمام الرازي ، واستدلّ عليه بأنّها إن لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمَل والتكلّم بالزنجي مع العربي ، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدىً ، ولما أمكن التحدّي به . وإن كانت مفهمة ، فإمّا أن يراد بها الأعلام أو المعاني . والثاني باطلٌ ، لأنّه إمّا أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب ، وظاهرٌ أنّه ليس كذلك . أو غيره ، وهو باطلٌ ، لأنّ القرآن نزَل على لغتهم لقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 95 ] ، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم . فثبت الأول ، وهو كونها أَعْلاما للسور التي هي مستهلّتها ، سمّيت بها إشعاراً بأنّها كلمات معروفة التركيب ، فلو لم يكن وحياً من الله ، لم تتساقط معذرتهم دون معارضتها . والاعتراض عليه من وجوه : أحدها : لِمَ لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر كما قاله قُطرب ؟ أو يكون اختصار الكلام كما في القول الرابع والخامس ؟ أو يكون إشارة الى عدد آجال كما قاله ابو العالية ؟ وهذه الدلالة وإن لم تكن عربيّة ، لكن لاشتهارها فيما بين الناس حتّى العرب ، كانت كالمعرّبات كالمِشْكـٰوة والسجّيل والقِسطَاس والإستَبْرَق . أو تكون قسَماً كما قاله الأخفش . أو تكون غير ذلك من الأقوال المذكورة ؟ وثانيها : إنّ القول بأنها أسماء السور يُخرجها الى ما ليس في لغة العرب . لأنّ التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرةٌ عندهم . وثالثها : إنّها داخلةٌ في السور وجزءٌ منها ، وجزءُ الشيء مقدّمٌ على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخِّر عنه كذلك ، فيلزم من تسمية الشيء بجزئه تقدّم الشيء على نفسه ، والمعارضة بتسمية الحروف بأساميها - كتسمية الجزء الأول من الجيم بالجيم - ساقطةٌ ، لأن المركّب متأخِّرٌ عن جزئه ، والاسم متأخِّر أيضاً عن مسمّاه ، فلا يلزم إلا تأخّر المركب عن جزئه بوجهين ، ولا فساد فيه . ورابعها : إنّها لو كانت أعلاماً للسوَر ، لوجَب أن يُعلم ذلك بالتواتر ، لأنّ التسمية على هذا النحو ليس من دأب العرب ، فتتوفّر الدواعي على نقلها فوجَب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء ، والواقع خلاف ذلك . وخامسها : إنّ السوَر الكثيرة اتّفقت في الۤمۤ ، حـمۤ ، فالاشتباه حاصلٌ ، والمقصود من العلَم إزالة الاشتباه ، والمعارضة بتسمية كثيرين باسم محمّد ، مدفوعةٌ بالفرق بين القبيلين ، فإنّ ( الۤمۤ ) لا يفيد معنى آخر على ما فرضتُم ، فلو جُعل علَماً لم يكن فيه فائدة ، بخلاف الأعلام المشتركة ، فإنّ التسميةَ بها قد تتضمّن فوائدَ اخرىٰ غير الامتياز ، كالتبرّك ونحوه . وسادسها : إنّه لو كان كذلك ، لوجَب أن لا تخلو سورة من القرآن من اسم على هذا الوجه ، وليس كذلك . وقد يقال في الجواب : أما عن الأول : فبأنّ هذه الألفاظ لم تُعهد مزيدة للتنبيه ، والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر أمر لازم لها ولغيرها ، من حيث إنّها فواتح السوَر ، ولا يقتضي ذلك أن " يكون لها معنى في حيِّزها ولم يستعمل للاختصار من كلمات معيّنة . أما الشعر فشاذّ . وأما قول ابن عباس فتنبيهٌ على أنّ الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسَنة ، ألا ترى أنّه عدَّ كلَّ حرف من كلمات متباينة لا تفسير ولا تخصيص بهذه المعاني دون غيرها ، إذ لا مخصّص لفظاً ومعنى ، ولا بحساب الجُمل فيلحق بالمعرّبات . والحديث الذي نقله أبو العالية لا دلالة فيه . لجواز أنّ تبسّم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) تعجّباً من جهلهم . وجعلها مُقْسَماً به ، وإن كان غير ممتنع ، لكنّه يُحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها . وأمّا الحمل على شيء مما ذكره المفسّرون ، فغير لازمٍ ، لأنّهم ذكروا وجوهاً مختلفة وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على غيره ، فإمّا أن يحمل على الكلّ وهو متعذّر للاجماع المركب ، أو لا يحمل على شيء منها وهو الباقي . وأمّا عن الثاني : فبأنّ التسميةَ بثلاثة أسماء إنّما يمتنع إذا ركّبت وجُعلت إسماً واحداً على طريق " بعلبك " ، فأما إذا نثرت نَثْر أسماء العدد ، فذلك جايزٌ ، فإنّ سيبويه قد نصَّ على جواز التسمية بالجملة ، والبيتِ من الشعر ، وطائفةٍ من أسماء حروف المعجم . وأمّا عن الثالث : فبأنّ الاسم لفظٌّ دالٌّ على أمرٍ مستقلّ بنفسه ، غير مقترن الدلالة بهيئته على زمان ، ولفظ الإسم - كلفظ زيد مثلاً - كذلك ، فيكون الاسم إسماً لنفسه ، وإذا جاز ذلك فلِم لا يجوز أن يكون جزء الشيء إسماً له . أقول : وهذا الجواب مما ذكره صاحب التفسير الكبير وهو كما ترى ، فإنّ الكلام في الاسم الدالّ على معنى بالوضع ، ودلالة الإسم على نفسه ليس بالوضع ، وإن كان هو في نفسه موضوعاً . وقد يُجاب - كما ذكر البيضاوي - بأنّ الجزءَ مقدمٌ من حيث ذاته ، ومؤخَّرٌ باعتبار كونه إسماً فلا دَوْرَ . أقول : هذا أيضاً فاسدٌ ، فإنّ الكلام في أنّ هذه الألفاظ التي هي أجزاء السوَر ، وهي من الموضوعات اللغوية ، لا معنى لها إلاّ كونها أسماء للسوَر ، فإذا كان تقدّمها على السوَر من حيث ذاتها لا من حيث كونها أسماء ، لكانت قبل تمام السورة غير موضوعة لمعنى أصلاً فتكون مهملة ، سيّما وهذا التقدّم زمانيٌّ ، لأنّ السوَر والآيات وسائر أقسام الكلام إنّما هي تدريجيّة الوجود زمانيّة الحدوث . وأمّا عن الرابع : بأنّه لا بُعد في أن يصير القلب أكثر شهرةً من أصل الاسم فكذا ها هنا . وأمّا عن الخامس : فبأنّه لا يبعد أن يكون في تسمية السوَر الكثيرة باسم واحد ، ثمّ تمييز كل واحد منها بعلامة اخرى ، حكمةً خفيّةً . وأمّا عن السادس : فبأنّ وضع الإسم إنّما بحسب الحكمة ، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضعَ الإسم لبعضِ السوَر دون بعض . أقول : إذا كان الغرض من هذه الألفاظ مجرد التسمية للتمييز والتعيين ، ولم يكن لها معنى آخر ، يلزم الترجيح من غير مرجّح في تسمية بعض السوَر ببعض هذه الحروف دون بعض . ثمّ أقول : ويرد على أصل الدليل بحثٌ آخر لم يكن مذكوراً في التفاسير ، وهو : إنّ قول المستدل : لو لم تكن هذه الألفاظ أعلاماً ، لكانت موضوعة للمعاني ، وظاهر أنّها ليست كذلك ، ممنوعٌ ، والسند ما سنذكره عن قريب إنشاء الله . حكمة قرآنية [ تفسير الحروف المقطّعة حسبما قاله ابن سينا ] اعلم - هداك الله تعالى إلى فهْم آياته - أنّ شيخ فلاسفة الإسلام ذهب في رسالة سمّاها بالنيروزية ، إلى أن هذه الحروف أسماءٌ للحقائق الذاتية ، بعضها لذات الله تعالى مطلقاً ، وبعضها لذاته مضافةً الى ما أبدعه ، وبعضها لمبدعاته مطلقة ، وبعضها لها مضافة على الوجه الذي سنذكره ، وأَقْسَم الله بهذه الأشياء العظيمة تكريماً وتعظيماً ، ونحن اخترنا مذهبَه وتتبَّعنا أثر كلامه في هذا المرام . فنقول : لا شبهة أنّ الله قد أوجد الموجودات المتأصّلة على ترتيب ونظام ، الأول والثاني والثالث على ترتيب مراتب العدَد . لأنّه ليس في قوة الكثرة أن تظهرَ عنه تعالى أولاً ، كما ليس في قوة الزمان أن يوجد عنه في آنٍ دفعةً ، ولا في استطاعة الجسم أن يتكوّن عنه مبدَعاً ، فالترتيبُ يرتقي بالكثير إلى الواحد الحقيقي بحيث لا تنثلم به وحدتُه . وكما انّ الواحد مبدأ الأعداد والكثَرات كلها على الترتيب الأبسط فالأبسط ، فكذلك البار جلّ كبرياؤه ، مُبدِع الأشياء كلها على ترتيب الأبسط فالأبسط ، وهو فاعل الإنيّات المتأصّلة والأنواع الكاملة قبل شخصيّاتها الزمانيّة على الترتيب الإلـٰهي الإبداعي ، والنظم الربّاني الأحدي أولاً وثانياً وثالثاً . وكلّما كان الوجود فيه أشرف ، كانت الوحدة فيه أتمّ ، وكان في درجة الاستفادة للوجود أقدم ، وهكذا إلى أن ينتهي الترتيب النزولي إلى الموجودات الزمانيّة والمكانيّة من الجزئيّات المتكثرة في التشخّص ، المتّحدة في المعنى والحقيقة ، وهي بمنزلة ظِلال وأشباح لما في العالَم الأعلى الإلـٰهي من الحقائق المتأصّلة التامّة ، التي لا ينفك تمامها عن بدوها . وإذا سألت عن شيء منها بما هو ولِمَ هو ، كان الجواب عنهما واحداً ، لأنّه تامّ الوجود لا يعوزه شيء من وجوده ، ومن كمال وجوده عنه . فلكلّ منها مرتبةٌ خاصّة من الوجود لا يمكن أن يتعدّاه سابقاً أو لاحقاً ، إذ كون كلّ منهما في مرتبته كالمقوّم لذاته ، وكما أنّ الأوليّة عين ذات المبدإ تعالى ، فكذا الثانويّة للموجود الذي بعده بعديّة ذاتيّة والثالثيّة للموجود الذي بعده بوسطٍ واحد ، بعديّة بالذات ، وهكذا الرابع والخامس الى أقصى الوجود . ثمّ إنّ أشرف الموجودات الواقعة بعد مرتبة الواحد الحقّ الأول ، هو عالَم العقل والملائكة المقرّبين . وهذا العالَم جملة مشتملة على موجودات قائمةٍ بلا موادٍ خاليةٍ عن القوّة والاستعداد ، عقولٍ قادسيةٍ طاهرةٍ ، وصورٍ مجردةٍ باهرةٍ ، ليس في طباعها أن تتغيّر أو تتكثّر أو تتحيّز ، كلّها كشخص واحدٍ متّصلة اتّصالا روحانيّاً . وكلّها عشّاق إلـٰهيّون ، مشتاقون الى الأول والاقتداء به ، والإظهار لأمره ، والابتهاج به ، والقُرب العقلي منه . وهم مبتهجون بذات الأول لا بذواتهم ، شاعرون به ذاهلون عن ذواتهم ، لاضمحلال ظلالِ إمكاناتهم تحت سطوح النور الأحدي وكبرياء جلاله . ثمّ الواقعُ في ثالثِ المراتب العدديّة الذاتيّة ، وجودُ العالَم النفسي من لدن نفْس الفلَك الأعظم الى النفوس المتعلقة بالأبدان البشريّة ، والقوالب الإنسيّة . فعالَمها مشتملٌ على جملة كثيرة من ذوات معقولة ، ليست مفارقة للموادّ كلّ المفارقة ، ولا مواصلة لها كلّ المواصلة ، بل هي ملابستها ضرباً من الملابسة ، وموادّ الصنف المتعلّق منها بالسماوّيات ، موادٌ دائمة الحرمة الدوريّة بإذن الله ، وتسخيره للملائكة المدبّرة إيّاها ، الحافظة لصوَرها المحرّكة لها تشوّقاً الى الله ، وتقرّباً منه وطاعة إيّاه . ولها في طباعها نوعٌ من التغيّر ، ونوع من التكثّر ، لا مطلقاً كالأجرام الاسطقسيّة . ثمّ الواقع في رابع المراتب عالَم الطبيعة ، ويشتمل على قُوىٰ ساريةٍ في الأجرام ملابسة للمادّة على التمام ، وهي دائمةَ التجدّد والزوال ، سيّالة الذوات متجددة الهويّات ، تفعل الحركات الذاتيّة والسكنات في إحدىٰ المقولات من الأين والوضع والكمّ والكيف . أما الحركة ، فإذا لحقها ضَرْبٌ من التغيّر من جهة عارض غريب ، وأما السكون ، فعندما لم يلحقها عارضٌ غريبٌ . وبعد مرتبتها وجودُ العالَم الجسماني المنقسم إلى أثيري وعنصري ، وخاصيّةُ الأثيري ؛ استدارة الشكل والحركة ، واستغراق الصوَر للموادّ ، وخلوّ الجوهر عن التضاد . وخاصيّة العنصري ؛ التهيّؤ للأشكال المختلفة والأحوال المتغايرة ، وانقسام بين صورتين متضادّتين ، أيّهما كانت بالفعل كانت الأخرى بالقوّة . وليس وجود احداهما لها دائماً ، بل وجوداً زمانيّاً ومباديه الفعّالة فيه من القوى المساويّة بتوسّط الحركات ، وبسبق كماله الأخير أبداً بالقوّة . ويكون ما هو أولُ فيه بالطبع ، آخراً في الشرف والفضْل ، ولكل واحدة من القوى المذكورة اعتبارٌ بذاته واعتبارٌ بالإضافة الى تاليه الكائن عنه ، ونسبة الثواني كلّها إلى الأول بحسب الشركة نسبة الإبداع . وأمّا على التفصيل ، فيخصّ العقل نسبة الإبداع ، ثمّ إذا قام متوسّطاً بينه وبين الثوالث صار له نسبة الأمر ، واندرج فيه معه النفْس ، ثمّ كان بعده نسبةَ الخلْق . وللأمور العنصريّة بما هي كائنةٌ فاسدةٌ نسبة التكوين والابداع ، يختصّ بالعقل ، والأمر يفيض منه الى النفْس ، والخلْق يختص بالموجودات الطبيعيّة ، ويعمّ جميعها ، والتكوين يختصّ بالكائنة الفاسدة منها . وإذا كانت الموجودات بالقسمة الكليّة إمّا روحانيّة وإمّا جمسانيّة ، فالنسبة الكليّة للمبدإ الحقّ إليها ، أنّه الذي له الخَلْق والأمر ، فالأمر متعلّق بكل ذي إدراك ، والخلْق بكلّ ذي تسخير ، وهذا هو الغرض في هذا الفصل . فصل آخر في الدلالة على كيفية دلالة الحروف على هذه المراتب الوجودية إنّ من الضرورة أنّه إذا أريدَ الدلالةُ على هذه المراتب بالحروف ، أن يكون الأول منها في الترتيب القديم - وهو ترتيب " أبجَد هّوز " إلى آخره - دالاً على الأوّل وما يتلوه ، وأن يكون الدالُّ على ذوات هذه المعاني من الحروف متقدّماً على الدالّ عليها من جهة ما هي مضافة ، وأن يكون المعنى المرتسم من إضافةٍ بين اثنين منها مدلولاً عليه بالحرف الذي يرتسم من ضرب الحرفين الأولين أحدهما في الآخر ، اعني ما يكون من ضرب عددي الحرفين أحدهما في الآخر ، وأن يكون ما يحصل من العدد الضربيّ مدلولاً عليه بحرفٍ واحد مستعملاً في هذه الدلالة مثل ( ك ) الذي هو من ضرب ( ي ) في ( ب ) . وما يصير مدلولاً بحرفين - مثل ( يه ) من ضرب ( ج ) في ( ه ) ومثل ( كه ) الذي هو من ضرب ( ه ) في ( ه ) - مطرَحاً لأنه مشكّك توهم دلالة كلّ واحد من ( ي ) و ( ه ) ، ويقع هذا الاشتباه في كلّ حرفين مجتمعين لكل واحد منهما خاصّ دلالته في حد نفسه ، وان يكون الحرفُ الدالّ على مرتبةٍ من جهة أنّها بواسطة مرتبة قبلها من جميع حروف المرتبتين . فإذا تقرّر هذا ، فإنّه ينبغي ضرورةً أن يُدلّ بالألف على الباري ، وبالباء على العقل ، وبالجيم على النفس ، وبالدال على الطبيعة ؛ هذا إذا أُخذت بما هي ذوات ، وبالهاء على الباري ، وبالواو على العقل ، وبالزاي على النفس ، وبالحاء على الطبيعة ، هذا إذا اخذت بما هي مضافة الى ما دونها . وبقي الطاءُ لهيولى وعالَمه ، وليس له وجودٌ بالإضافة الى شيء تحته ، وينفد رتبة الآحاد ويكون الابداع ، وهو من إضافة الأول الى العقل ذات لا مضاف الى ما بعده مدلولاً عليه بالياء ، لأنه من ضرب ( ه ) في ( ب ) ، ولا يحصل من إضافة الباري أو العقل الى النفْس عددٌ يدلّ عليه بحرف واحد ، لأنه ( ه ) في ( ج ) يه ، و ( و ) في ( ج ) يح ، ويكون الأمر وهو من إضافة الأول الى العقل ، مضافاً مدلولاً عليه باللام ، وهو من ضرب ( ه ) في ( و ) . ويكون الخلْق ، وهو من إضافة الأول الى الطبيعة بما هي مضافة ، مدلولاً عليه بالميم ، وهو من ضرب ( ه ) في ( ح ) ، لأنّ الحاء دلالة الطبيعة مضافة . ويكون التكوين ، وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة وهو ذات ، مدلولاً عليه بالكاف ، ويكون جميع نسبتي الأمر والخلْق - أعني ترتيب الخلْق بواسطة الأمر ، أعني اللام والميم - مدلولاً عليه بحرف ( ع ) ، وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك - أعني الميم والكاف - مدلولاً عليه بالسين ، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود - أعني اللام والكاف - مدلولاً عليه بالنون ، ويكون جميع نسبته الأمر والخلْق والتكوين - أعني كاف ولام وميم - مدلولاً عليه بصاد . ويكون اشتمال الجملة في الابداع - أعني ( ي ) في نفسه ( ق ) - وهو أيضاً من جمع ( صاد ) و ( ي ) . ويكون ردّها إلى الأول ، الذي هو مبدأ الكل ومنتهاه ، على أنه أول وآخر - أعني فاعلاً وغاية كما بيّن في الإلٰهيات - مدلولاً عليه بالراء ضِعْف ( ق ) ، وذلك هو الغرض في هذا الفصل . فصل آخر في الغرض فإذا تقرّر ذلك فنقول : إنّ المدلول عليه ( بالۤمۤ ) هو القسَم بالأول ذي الأمر والخلْق . و ( بالۤمۤرۤ ) القسَم بالأول ذي الأمر والخلْق ، وهو الأول والآخر والأمر والخلْق والمبدأ الفاعلي والمبدأ الغائي جميعاً ، و ( بالۤمۤصۤ ) القسَم بالأول ذي الأمر والخَلق والمنشىء للكلّ . و ( بص ) القسَم بالعناية الكلية . و ( بق ) القسَم بالابداع المشتمل على الكلّ بواسطة الابداع المساوي للعقل . و ( بكۤهيعۤصۤ ) القسَم بالنسبة التي للكاف - أعني عالَم التكوين - إلى المبدء الأول ، وبنسبة الإبداع الذي هو ( ي ) ، ثم الخَلْق بواسطة الأمر وهو ( ع ) ، ثمّ التكوين بواسطة الخلْق والأمر وهو ( ص ) ، فبين ( ك ) و ( ه ) ضرورة نسبة الإبداع ، ثمّ نسبة الخلْق والأمر ، ثمّ نسبة التكوين والخلْق والأمر . و ( يسۤ ) قسَم بأول الفيض والابداع وآخره ، وهو الخلْق والتكوين . و ( حـمۤ ) ، قسَم بالعالَم الطبيعي الواقع في الخَلْق . و ( حـمۤ عۤسۤقۤ ) قسَم بمدلول وساطة الخَلْق في وجود العالَم الطبيعي ، وما يخلق بينه وبين الأمر بنسبة الخلْق إلى الأمر ، ونسبة الخَلْق الى التكوين ، وبأن يأخذ من هذا ويردّه الى ذلك ، فيتمّ به الإبداع الكلي المشتمل على العوالِم كلّها ، فإنها إذا اخذت على الإجمال ، لم يكن لها نسبةٌ إلى الأول غير الابداع الكلي الذي يدل عليه ( بق ) . و ( طسۤ ) يمين بعالَم الهيولى الواقع في الخلْق والتكوين . و ( نۤ ) قسَم بعالَم وعالَم الأمر ، أعني لمجموع الكل . ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا ألبتة ، ثمّ بعد هذا أسرار تحتاج الى المشافهة . فهذا غاية الكلام الواقع في هذا المرام والله أعلم بأسرار كتابه وهو علاّم الغيوب . فصل في أحوال أواخرها من حيث الإِعراب قد مرّ ان أسماء الحروف - ما لم تلها العوامل - موقوفةٌ خاليةٌ عن الإعراب ، لفقْد موجبه ، لا لأنها ليست قابلة له ، بل هي معرَبة معرضة للإعراب غير مبنيّة . وأما هل لهذه الفواتح محلٌ للإعراب أم لا فنقول : إن جعلت أسماء لذات الله وآياته - كما اخترناه - أو للسوَر ، كان لها حظٌّ من الإعراب المحلّي ، ويجري فيه الوجوه الثلاثة : أما الرفع فعلى الإبتداء والخبَر ، وأما النصب فبتقدير فعل القسَم على طريقة : " الله لأفعلنّ كذا " بالنصب ، أو بتقدير فعل آخر : كاذكر ونحوه . وأما الجرّ ، فعلى إضمار حرف القسَم ، وهي في ذلك على ضربين : أحدهما : ما يتأتّى فيه الإعراب لفظاً ، وهو إما أن يكون إسماً فرداً كصاد وقاف ونون ، أو موازناً لمفرد وإن كان أسماء متعدّدة كحاميم وطاسين وياسين ، فانها على زنة قابيل ، وكذلك طسم تتأتّى فيها أن يفتح نونها ويصير ميم مضمومة إلى طاسين ، فيجعلا إسماً واحداً كدار أجرد والثاني ما لا يتأتّى فيه الإعراب نحو : ( كۤهيعۤصۤ ) و ( الۤمۤر ) . أما النوع الأول فيسوغ فيه الأمران : الإعراب والحكاية ، قال الشاعر : @ يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلاّ تلا حاميم قبل التقدّم @@ فاعرب حاميم ، ومنعَها من الصرف لاجتماع السببين فيها : العلَميةُ والتأنيثُ ، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها . وأما النوع الثاني ، فهو محكيٌّ لا غير ، وإن أبقيتها على معانيها الحرفيّة ، فإن قدرت بالمؤلَّف من هذه الحروف كان في حيّز الرفع بالابتداء والخبر . وإن جعلتها مقسَما بها ، تكون كلّ كلمة منها منصوبة أو مجرورة على اللغتين المذكورتين في ( الله أفعلنّ كذا ) ، ويكون جملة قَسَميّة بالفعل المقدّر له . وإن جعلتها أبعاض كلمات ، أو أصواتاً نازلة منزلة حروف التنبيه ، لم يكن لها محلٌّ من الإعراب ، كالجمل المبتدأة ، والمفردات المعدودة ، ويوقَف عليها وقف التمام إذا قدّرت بحيث لا يحتاج الى ما بعدها . ولقائل أن يقول : فما وجه قراءة من قرأ : صاد وقاف ونون ، مفتوحات . قلنا : الأوْلىٰ كون ذلك نصباً لا فتحاً ، وإنما لم يصحبها التنوين لامتناعها من الصرف على ما مرّ ، وانتصابها بتقدير فِعْل القسَم ، كما هو المختار ، أو بنحو : اذكر . وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في حـمۤ وطسۤ ويسۤلو قرأ به . وحكى السيرافي إنّ بعضهم قرأ ياسينَ ( بالفتح ) ويجوز أن يقال : حُرّكت لالتقاء الساكنين كما قرىء : ولا الضالين . تنبيهات : الأول : ما وجه انّ هذه الأسامي مكتوبةٌ في المصاحف على صوَر الحروف المسمّيات ، مع انّ الملفوظ والمكتوب من حقائق الأشياء ، أسماؤها لا مسمّياتها . قلنا : لأنّ العادة جاريةٌ في أنها متى تهجّيت أن تُلفظ بالأسماء ، ومتى كُتبت أن تُكتب بالحروف أنفسها ، وقد اتّقفت في خطّ المصحَف أشياء خارجة عن مقائيس علم الخطّ والهجاء ، ولا ضير في ذلك ولا نقص ، لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ . وكان اتّباع خطّ المصحَف سنّة معمولاً بها ، على أن شهرة أمرها ، وإقامة الألسُن لها ، وأن التلفّظ بها لا على نهج التهجّي ، غير مفيد لمعنى ، وانّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عيله من مورده ، أمنت وقوع اللبس فيها . الثاني : ليس شيء من هذه الفواتح آية عند من عدا الكوفيين ، وأما عندهم فبعضها آية واحدة كالۤمۤ في مواقعها وهي ستّة ، والۤمۤصۤ ، وكۤهيعۤصۤ ، وطه ، وطسۤمۤ ، وحـمۤ ، ويسۤ . وبعضها وهو حمۤ عۤسۤقۤ آيتان . والبواقي ليست بآيات ، وهذا علْم توقيفي لا مجال للقياس فيه . الثالث : هل يجوز إرادة القسَم في المحكيّة كما جاز في المعربة ؟ نعم ، ولك أن تقدّر حرف القسَم مضمَراً في نحو قوله تعالى : { حمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [ الدخان : 1 - 2 ] . كأنه قيل : أُقسِمُ بهذه السورة وبالكتاب المبين ، { إنَّا جَعَلْنَاهُ … } وأما قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : حـمۤ لا ينصرون فيصلح أن يكون منصوباً ومجروراً ، جميعها على حذف الجار وإضماره .