Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 2-2)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله جل اسمه : ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " ذلك " اسم مبهم يُشار به الى البعيد ، فإن كان اشارة الى ما في اللوح المحفوظ أو الى القرآن باعتبار كونه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى : { وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا } [ الزخرف : 4 ] سواء كان الۤمۤ اسماً للقرآن أو السورة ، أو مقسَما به ، كما اخترناه ، فيكون إشارة الى البعيد ما هو الرسم . وأما إذا جعل إشارة الى الۤمۤ وأوّل بالمؤلَّف من هذه الحروف ، أو فُسِّر بالسورة ، أو القرآن الموجود بين أظهرنا ، ففي الإشارة الى القريب الحاضر بما يُشار الى البعيد الغائب لا بدّ من وجه . وقد ذكروا فيه وجوها : أحدها : إنّه وقعت الإشارة الى الۤمۤ بعدما سبق التكلّم به وتقضّى والمقتضّي في حكم المتباعد . وثانيها : إنّه لمّا وصَل من المرسِل الى المرسَل إليه وقع في حد البُعد عنه . وثالثها : إنّ القرآن وإن كان حاضراً الى ظاهره وصورته ، لكنّه غائب نظراً إلى أسراره ومعانيه ، لاشتماله على علومٍ عظيمة وحِكَم كثيرة يتعسّر اطّلاع القوّة البشريّة عليها ، يل يتعذّر في هذه النشأة فيجوز أن يشار إليه كما يشار الى البعيد الغائب . ورابعها : إنّ الله تعالى وعَد رسولَه ( صلّى الله عليه وآله ) عند مبعثه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ، وهو ( صلّى الله عليه وآله ) أخبَر أمّته بذلك ، ويؤيّده قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] في سورة المزمّل وهي إنّما نزلَت في ابتداء المبعث . وخامسها : إنّه تعالى خاطَب بني إسرائيل ؛ لأن سورة البقرة مدنيّة ، وأكثرها احتجاج على اليهود ، وقد كانت بنو اسرائيل أخبرهم موسى وعيسى ( عليهما السلام ) أنّ الله يرسل محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) وينزّل عليه كتاباً ، فقال تعالى : { ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، أي الذي أخبر به الأنبياء المتقدّمون أنّ الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل . وسادسها : ما قاله الأصمّ : إنّ الله تعالى أنزل الكتاب بعضَه بعد بعض ، فنَزل قبل سورة البقرة سوَر كثيرة ، وهي كلّ ما نزل بمكّة ممّا فيه الدلالة على التوحيد وعلْم المعاد ، وعلم النفس ، وإثبات النبوّة ، وأحوال الملائكة والجنّ ، وعلْم السماء والعالَم وغير ذلك . فقوله " ذَلِكَ " إشارة الى تلك السوَر والآيات التي نزلت قبل هذه السورة ، وقد يسمّى بعض القرآنِ قرآناً كما في قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [ الأعراف : 204 ] وقال تعالى : حاكياً عن الجن : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } [ الأحقاف : 30 ] وهم ما سمعوا إلاّ البعض . واعلم أنّ أصل ذلك وهذا " ذا " وهي كلمة إشارة زيدت الكاف عليها للخطاب ، واللاّم للتوكيد ، والهاء للتنبيه ، فأصلهما واحد ، فإذا قَرُب الشيء أُشير إليه فقيل : " هذا " اى تنبّهْ أيّها المخاطَب ، فيشبه أن يكون دلالة ذلك على البعيد عُرفاً طارياً على أصل الوضع للقرينة التي ذكرناها . و " الكتاب " أصله : الكَتْب . وهو الجمع ، ومنه " الكتيبة " للجند لانضمام بعضهم الى بعض ، وهو مصدرٌ بمعنى المكتوب ، كالحساب ، وقيل : سمّي به المفعول مبالغةً ثمّ عبّر عن المنظوم لفظاً قبل أن يكتب ، لأنه مما يكتب ، كما يقال للمكتوب : كلام ، باعتبار انّه ما كان قبل الكتابة . وقد مر في المفاتيح إنّهما واحد بالذات مختلفان بالإضافة وهو اسمٌ للقرآن وله أسماء كثيرة : الكتاب ، والقرآن ، والفرقان والذكر : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . والتذكرة : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } [ الحاقة : 48 ] . والذكرىٰ : { فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . والتنزيل : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 192 ] . والحديث : { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] . والموعظة : { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] . والشفاء : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ } [ يونس : 57 ] . والحكم : { وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [ الرعد : 37 ] . والحكمة : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5 ] . والحكيم : { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [ يس : 1 - 2 ] . والحبل : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } [ آل عمران : 103 ] . والروح : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . والبرهان : { قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ النساء : 174 ] . والكريم : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 77 - 78 ] والعظيم : { آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] . والفصل : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق : 13 ] . والهدى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ( 2 ) . والمهيمن : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة : 48 ] . وغير ذلك كثيرٌ كما يظهر بالمراجعة إلى القرآن . فصل في اتّصال قوله : { الۤمۤ } ، بقوله : { ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، قال صاحب الكشّاف : إن جعلت الۤمۤ اسماً للسورة ، ففي التأليف وجوهٌ : أن يكون الۤمۤ مبتدءاً وذلك متبدءاً ثانيا ؛ والكتاب خبره ، والجملة خبر المبتدإ الأول . ومعناه : إنّ ذلك هو الكتابُ الكامل ، كأنّ ما عداه من الكُتب في مقابلته ناقص ، وانّه الذي يستأهل أن يسمّى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي الكامل في الرجوليّة ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيّات الخصال . وأن يكون الكتاب صفة ، ومعناه : " هو ذلك الكتاب الموعود " ، وأن يكون " الۤمۤ " خبر مبتدإ محذوف ، أي : " هذه الۤمۤ ويكون " ذلك " خبراً ثانياً ، أو بدلاً على أن يكون " الكتاب " صفة . وأن يكون " هذه الۤمۤ " جملة ، و " ذلك الكتاب " جملة أخرى وإن جعلت الۤمۤ بمنزلة الصوت ، كان ذلك بمتدأ خبره " الكتاب " أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، او " الكتاب " صفته والخبر ما بعده . أو قدر مبتدأ محذوف ، أي هو يعني المؤلَّف من هذه الحروف ذلك الكتاب . وقرأ عبد الله الۤمۤ تنزيل الكتاب لا ريب فيه ، وتأليف هذا ظاهرٌ ، انتهى كلامه . وعلى ما اخترناه من كون " الۤمۤ جملة قَسَمية إما أن يكون " ذلك " مبتدأ و " الكتاب " خبره ، أو عطف بيان ، أو صفة له ، أو بدل منه ، و " لا ريب فيه " جملة في مضوع الخبر ، والمعنى أُقسِم بالله ذي الخلق والأمر انّ ذلك الكتاب هو الكتاب الذي لا ريب فيه ، لأنّ علومه برهانيّات لا يعتريها تبديل وتغيير ولا نسخ وتحريف ، ومقدّماتها يقينيّات لا يشوبها شكّ وشبهة ولا يشوّشها وهمٌ ورَيبٌ . وأما جعل " لا ريب " فيه في موضع الحال ، وعاملها إسم الإشارة ، وجعل " هدىً " خبراً عن ذلك الكتاب ، فلا يخلو عن بُعد . فصل الرَّيب : قريب من الشكّ ، وفيه زيادةٌ ، كأنه ظنّ بشيء ، تقول : رابَني أمر فلان ، إذا طننتَ به . ومنه قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : " دعْ ما يُريبكَ الى ما لا يُريبك " . وأما قولهم : رَيبُ الأمر ، ورَيبُ الزمان لحوادثه ، كقوله تعالى : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [ الطور : 30 ] ، وقول الشاعر : @ قَضينا من تهامةَ كلَّ ريب وخيبرَ ثمَّ أجمعنا السيُوفا @@ في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ وقلَق النفس واضطرابها ، فهما يرجعان أيضاً إلى معنى الشكّ ، لأن الشكّ ريبة ، والعلْم طمأنينة ، وما يخاف به من ريب المنون أمرٌ محتمل فهو كالمشكوك فيه . وكذلك ما اختلج فيه القلْب وتعلقت به النفس فهو غير مستيقن . أقول : إعلم أنّ الإمكان والشكّ يجريان مجرى واحداً ، كما انّ الوجوب والعَلْم اليقيني يجريان مجرى واحداً ، إلاّ أن الأولين حال الوجود العيني ، والأخيرين حال الوجود العلمي ، وإذا كان الموجود عين المعلوم ، فقد كان الوجوب عين العلم ، كما في علم الباري بذاته ، وبالأمور الصادرة عن ذاته من جهة علمه بذاته . وكذلك قد يكون الإمكان عين الشكّ ، كما في إدراكنا الأشياء المحسوسة والمتغيّرة ، فقوله لاَ رَيَب فيه ، المراد منه نفي كونه مظنّة الريب بوجه من الوجوه - لكونه من العقليّات الدائمة الموجودة في عِلْم الله وفي اللوح المحفوظ - من التغيّر والنسخ ، وسائر الكتب ليست كذلك ، لأنّها ككتاب المحْوِ والإثبات قابلة للنسخ والتبديل . وإنّما قلنا " لا ريب فيه " يراد منه نفي الريب بالكليّة ، لأن " لا " نفي لماهية الريب وجنسها ، ونفي الماهية يقتضي نفي كلّ فرد من أفرادها ، لأنه لو ثَبت فردٌ من أفرادها ، لثبَتت الماهية معه ، وذلك يناقض نفيَها بالكليّة . ولهذا السرّ كان قولنا : لا إلٰه إلاّ الله ، نفياً لجميع الآلهة سوى الله . وأمّا قراءة " لا ريبٌ فيه " بالرفع ، نقيض قولنا : ريبٌ فيه ، كما قرأها ابو الشعثاء ، فذلك النفي لا يوجب انتفاء جميع الأفراد ، لأنّه ليس لنفي الماهية ، بل لنفي فرد من الأفراد ، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر . واعلم أنّه إذا جعل " ذلك الكتاب " إشارة الى القرآن الحاضر عندنا ، فيكون معنى " لا ريب فيه " : أنّه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد إمعان النظر الصحيح والفكر السليم في كونه وَحياً من عند الله ، بالِغاً حدّ الإعجاز ، لا انّ أحداً لا يرتاب فيه ، فليس المراد نفي الريب على سبيل الاستغراق فيه ، إذ كم من مرتاب فيه . بل المراد نفي كونه مظنّة للريب ومتعلّقاً له . ألا ترى الى قوله : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] الآية ، فإنّه ما أبعدَ وجود الريب عنهم ، بل بيّن لهم الطريق الى أزاحة ذلك عن أذهانهم ، وهو أن يجتهدُوا ويجرّبوا نفوس أمثالهم في معارضة نجْم من نجومه ، وهم أمراء الكلام وزُعماء المحاورة ، ويبذلوا غاية جهدهم في مقابلة سورة من سوره ، وهم فُرسان اللسان والمُتهالِكون على الافتنان في القصائد والرجَز ، حتّى إذا عجَزوا عنها تحقّق لهم أن ليس في كونه بالغاً من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بذّت بلاغة كل ناطق ، وشقّت غبار كلّ سابق ، محالٌ للشبهة ولا مدخل للريبة . ليعلموا أنّه لم يتجاوز الحدّ الخارج من قول الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح عيون البصراء ، إلاّ لأنّه ليس بكلام البشَر ، وأنّه كلام خالِق القُوى والقدَر . وقيل : معناه : لا ريب فيه للمتقين ، و " هدى " حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي . أقول : وهذا كقولك لمن يباحثك في مقدّمة علميّة : ما قلته لك أمرٌ بديهي عند من يهتدي به من العقول الصحيحة والقلوب السليمة . وأما النكتة في تقدير " الريب " ها هنا على الظرف ، وتأخير " الغَول " عنه في قوله : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] ، فهي أنّ الأهمّ ها هنا نفي الريب بالكلية عن الكتاب ، ولو قلت : لا فيه ريب ، لأوهم أنّ هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب ، كما قصد في قوله : لاَ فيهَا غَولٌ ، تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا بأنّها لا تغتال العقول كما يغتال خمر الدنيا . تنبيه الوقف على " فيه " هو المشهور ، وعن نافع وعاصم انّهما وقَفا على " ريب " ولا بدّ لهما أن ينويا خبراً ، ونظيره قولك : لا ضَيْرَ ولا بأس . فالتقدير : لا ريب فيه ؛ فيه هدى . قيل : إنّ القراءة المشهورة أَوْلىٰ ، لأنّ كون الكتاب نفسه هدىً أَوْلىٰ من أن يكون فيه هدى ، وأوفق لما تكرّر في تسمية القرآن من أنّه نورٌ وهُدى . قوله جل اسمه : هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ إعلم أنّه من جملة الأوصاف التي امتاز بها القرآن عن سائر الكتب النازلة على الأنبياء السابقين - صلوات الله على نبيّنا وعليهم اجمعين - أنّ القرآن نفسَه هُدىً ونورٌ ، لأنّ المراد منهما ، الحاصل بالمصدر ، وسائر الكتب فيها هدىً ونور ، كما في قوله تعالى : { أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] . وقال في حقّ القرآن : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ } [ المائدة : 15 ] . وقال : { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ } [ الشورى : 52 ] . وأمّا قوله : { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [ آل عمران : 3 - 4 ] . فليس فيه نصوصيّة على كونها هدى ، لاحتمال أن يكون " هدىً " حالاً من ضمير " أنزل " . وكذا قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } [ الأنعام : 91 ] . لاحتمال كونه حالاً من فاعل أنزَلَ أو جَاءَ . والفرق الآخر ، أنّ القرآن هدىً للمتقين ، لم يكاشف بأسراره عند تجلّي أنواره إلاّ الخواصّ والمقرّبون من عباده ، وهم المحبوبون وأهل المشيّة الإلٰهيّة كما قال : { نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] . وأمّا سائر الكتب فيشارك في هداها الجمهور من الناس لقوله : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] . والقرآن أيضاً لاشتماله على الكتاب لما قد مرّ أنّه كلام وكتاب جميعاً ، يشارك في هداه الناس ، وكذا قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ } [ البقرة : 185 ] . وقد مرّ في المفاتيح نظير هذا المرام . والهُدىٰ في الأصل مصدرٌ على وزن فُعّل كالسُرىٰ والبكا ، ومعناه الدلالة . وقيل : بل الدلالة الموصِلةِ الى المطلوب . والكلام من الجانبين مذكور والانتقاض بالآيتين مشهور . قال صاحب الكشّاف : هو الدلالة الموصِلة الى البُغية ، واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة : بوقوع الضلالة في مقابله ، قال تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] . وقال : { لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] . وبأنّه يقال " مهدي " في موضع المدح كمهتدي . ولو لم يكن من شرطه الايصال ، لم يكن الوصف بالهُدىٰ مدحاً لأحد ، لاحتمال انّه هُديَ فلم يهتد ، وبأن " اهتدى " مطاوع " هدىٰ " ، ولن يكون المطاوع على خلاف معنى أصله ، كما يقال : كَسَرتُه فانكَسَر ، وغمَمته فاغتمَّ . والجواب عن الأول : إنّ الفرق بين الهُدىٰ والاهتداء معلومٌ ، فمقابل الهُدىٰ الإضلال ، لا الضلال . وعن الثاني : المنتفِعُ بالهُدىٰ يسمّىٰ مَهديّاً ، لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود ، كانت نازلة منزلة المعدوم . وعن الثالث : بالنقض ، فإنّ الإيتمار مطاوع للأمر ، يقال : امرتُه فأتَمَر ، وليس من شرط الأمر حصول الايتمار . وبالمعارضة بقولك : هَديتُه فلم يهتَدِ . تحقيق فيه اشارة [ الهداية وكون القرآن هدى ] واعلم أنّ أفاعيل المبادي الذاتيّة والعوالي الفعّالة ، وإن كانت من قبلها عامّة تامّة لازمة الآثار والنتائج ليست فيها شائبة قوّة ونقص وفتور ، إلا أنّها قد يتخلّف عنها الأثر والنتيجة لا لقصور من جانب الفاعل وعدم تماميّة وكماليّة ، بل لضعف القابل ، أو لسوء استعداده ، أو انحرافه عن جهة القبول . ومنها الهداية ، كإنزال القرآن ونحوه من الله والقرآن عين الهُدىٰ ، بمعنى الحاصل بالمصدَر كما مرّ ، والله هو الهادي للعباد كلّهم دائماً بالذات ، لأنّ شأنه الرحمة والجود ، ودأبه إفاضة الخير والوجود على الجميع من غير فتور من قِبَله ، إلا انّ القوابل متفاوتةٌ ، { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] . إذ المراد من الهداية أو الهدى ، ليس مجرد المعنى الإضافي العقلي الذي تَحَقُّقُه فرع تحقّق الطرفين ، بل المراد ما به يقعُ الاهتداءُ كالقرآن والنبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكذا الكلام في نظائره كالنور والعلم والقدرة وأشباهها . فالهداية بهذا المعنى ذاتيّةٌ للقرآن ، والإضلال عارضٌ ، وهذا كالشمس شأنها التنويرُ والإضاءةُ ، ومع هذا قد يحصل من إضاءتِها وتنويرِها في بعض الموادّ ضدّ ذلك كالظُّلمة والسواد . فمَن قال : " إنّ الهُدىٰ معناه الدلالة الموصِلة إلى البغية " أراد به فعْل ما يوجِب الوصولَ إلى المطلوب لمن هو أهله ومستحقّه ، ومن تعلّقت المشيّةُ الإلٰهية بحصول السعادة الأخرويّة له ، فقوله تعالى مخطاباً لبينه ( صلّى الله عليه وآله ) : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] بمنزلة قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ } [ الروم : 52 ] وبمنزلة قوله : انَّ الشّمسَ لا تنوِّرُ أبصارَ الخفافيش . وكذا قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصّلت : 17 ] . بمنزلة قولك : شوّقناهم فلم يشتاقوا وعلّمناهم فلم يتعلموا ، ليس بمناف لكون الهداية بمعنى الدلالة الموصِلة على ما حقّقناه - . فقوله : { هُدىً لِلْمتَّقين } ، معناه إنّهم المهتدون بأنوار الكتاب ، والمنتَفِعون بآياته دون غيرِهم ، وإن كانت دلالته عامّة لكل ناظرٍ من مسلمٍ وكافرٍ ، وصالحٍ وفاجرٍ . وبهذا الاعتبار قال : هُدىً لِلنَّاسِ ، أو لأنّه لا ينتفع بالتأمّل فيه والتدبّر في آياته إلا من صَفَتْ صفحَةُ باطِنه وتطهَّر وجْهُ سرّه عن كدورات الأوهام الفاسِدة ، والآثام المظلِمة ، واستعمله في مطالعة الآيات الإلٰهيّة والأنوار الربّانية ، والنظر في المعجزات النبويّة ، والعلوم الوهبيّة لأنّه كالغذاء الصالح لحفظ الصحّةِ البدنيّة ، فاذا تناولَه البدنُ الذي ليس بالنقيِّ ، لا يزيده إلا شرّاً ووبالاً وسقَماً ونكالاً كما قاله بعض الأطباء . وإليه أشار بقوله : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . فصل في التقوى أصله وَقْوىٰ قُلبَت الواوُ تاءً كالتراث أصله وراث ، فالأصل في المتّقين : الموتقين ، مُفْتَعلين من الوقاية . والاتّقاء في أصل اللغة : الحجز بين الشيئين ، يقال اتّقاه بالتّرس ، أي جعله حاجزاً بينه وبينه . والوقاية : فرط الصيانة ، سواء كان في أمرٍ دنيويٍّ أو أخرويّ ، لكن لمّا وقع المتّقي في عرف الشرع في معرض المدح ، فلَن يكون متّقياً إلاّ من اتّقى عمّا يضرّه في الآخرة . وله مراتب ثلاث : إحداها : التوقّي عن العذاب المخلَّد ، بالتبرّي عن الشرك والجحود للحقّ والدين ، والإنكار للعلم والحكْمة واليقين ، وعليه يحمل قوله تعالى { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [ الفتح : 26 ] . والثانية : الاجتناب عن المآثم والمعاصي في فعْل أو ترك ، حتّى الصغائر عند القوم ، فرُوي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) أنّه قال : " لا يبلُغُ العبدُ درجةَ المتَّقين حتّى يدَع ما لا بأس به حذراً ممّا به بأس " ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ } [ الأعراف : 96 ] الآية . والثالثة : أن ينزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ ، ويجرّد عما سواه ويتبتل اليه بشَراشِره ، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] . واعلم أنّ التقوى جاءت في القرآن بمعانٍ كثيرة ، كلّها ترجع الى هذه المراتب . فمنها : الإيمان ، كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] . أي كلمة التوحيد وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [ الحجرات : 3 ] . وفي الشعراء : { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } [ الشعراء : 11 ] . أي لا يؤمنون . ومنها : الخشية ، كقوله في أول النساء : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } [ النساء : 1 ] . ومثله في أول الحجّ : و [ في ] الشعراء : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 124 ] . أي ألاَ تَخشون ، وكذلك قول هودٌ وصالحٌ . ولوطٌ وشعيبٌ لقومهم . وفي العنكبوت : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } [ العنكبوت : 16 ] . يعني : اخشوه . ومنها : التوبة كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ } [ الأعراف : 96 ] أي تابوا . ومنها : الطاعة كقوله تعالى في النحل : { أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } [ النحل : 2 ] . وفيه أيضاً : { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } [ النحل : 52 ] . وفي المؤمنون : { أَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ } [ المؤمنون : 52 ] . ومنها : ترك المعصية كقوله : { وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [ البقرة : 189 ] . أي ولا تعصوه . ومنها : الإخلاص كَقوله في سورة الحج : { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] . أي من إخلاص القلوب . تنبيه [ التقوى في الكتاب والسنّة ] إعلم أنّ التقوى كنزٌ عزيزٌ ، فلئن ظفرتَ به فكم تجد فيه من جوهرٍ شريف ، وعلق نفيسٍ ، وخيرٍ كثير ، ورزقٍ كريم ، وفوزٍ كبير ، وغُنْم جسيم ، ومُلْكٍ عظيم . وكأنّ خيرات الدنيا والآخرة جُمعت فجُعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى ، وكم في القرآن من ذكرِها ، وكمْ علّق بها من خيرٍ ، وكمْ وُعد عليها من أجرٍ وثوابٍ وكمْ أضاف إليها من السعادة ، وسنذكر عدّة من جملها . أولها : المِدْحَة والثناء ، قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] . وثانيها : الحفظ والحراسة من الأعداء ، قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] . وثالثها : التأييد والنصرة ، قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] . وقوله : { وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 19 ] . ورابعها : النجاة من الشدائد ، والرزق من الحلال ، قوله : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وخامسها : اصلاح العمل ، قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [ الأحزاب : 70 - 71 ] . وسادسها : غفران الذنوب ، قوله تعالى : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] . وسابعها : المحبّة ، قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 7 ] . وثامنها : القبول ، قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] . وتاسعها : الإكرام والإعزاز ، قوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] . وعاشرها : البشارة عند الموت ، قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ يونس : 63 - 64 ] . وحادي عشرها : النجاة من النار ، قوله : { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } [ مريم : 72 ] وقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } [ الليل : 17 ] . وثاني عشرها : الخلود في الجنّة ، قوله : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] . فهذه كلّ خيرٍ وسعادةٍ يتعلّق بالتقوى ، لكونه من شرائف المقامات القلبية . وعن ابن عباس : قال النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله ) : " من أحبَّ أن يكون أكرم الناس ، فليتّق الله ، ومن أحبّ أن يكون أقوى الناس ، فليتوكّل على الله ، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده " . وروي عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) انّه قال : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة . وقال الحسن : التقوى أن لا تختار على الله سوى الله ، وتعلمَ أنّ الأمورَ كلّها بيد الله . وقال ابراهيم بن أدهم : التقوى أن لا يجدَ الخلقُ في لسانِك عيباً ، ولا الملائكةُ في أعمالك عيباً ، ولا مَلَكُ العرش في سرّك عيباً . وقال الواقدي : التقوى أن تُزّين سرَّك للحقِّ ، كما زيَّنت طاهرَك للخَلْق . ويقال : التقوى أن لا يراكَ مولاكَ حيث نهاكَ . ويقال : المتّقي من سلّك طريقَ المصطفىٰ ، ونبذ الدنيا وراءَ القفا ، وكلَّف نفسَه الإخلاصَ والوفاء ، واجتنبَ الحرامَ والجفاء . نكتة : لو لم يكن للمتّقين فضلٌ إلا ما في قوله تعالى : { هُدىً لِلمُتَّقينَ } ، لكفاهم ، لأنّه تعالى قد بيّن انّ القرآن هُدىً للناس في قوله : { أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ } [ البقرة : 185 ] . ثمّ قال ها هنا في القرآن : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، فهذا يدلّ على أنّ المتقين هم كلّ الناس ، فمَن لا يكون متقياً كأنّه ليس بإنسان . وها هنا سؤالات : أحدها : إنّ كون الشيء هدىً ودليلاً لا يختلف لشيء دون شيء ؛ فلِماذا جُعِل القرآن هدىً للمتقين ؟ وقد سبق تحقيق الجواب . وثانيها : إنّ المتّقي مهتدٍ ؛ والمهتدي لا يهتدي ثانياً . فالقرآن لا يكون هدىً للمتقين . والجواب : إنّ المتّقي مهتدٍ بنفس ذلك الهدى ، لا بهدىً ثانٍ ، كما انّ الموجود موجودٌ بنفس الوجود القائم به حين كونه موجوداً ، وتحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل غير مستحيل ، إنما المستحيلُ تحصيل الحاصل بتحصيل آخر ، وايجاد الموجود بوجود آخر . وثالثها : كيف وصفَ القرآن كلّه بأنه هدىً ، وفيه مجملٌ ومتشابهٌ كثير ، ولولا دلالة العقل لما تميّز المحكَم من المتشابه ، والمبيَّن من المُجمل ، فيكون الهدى في الحقيقة هو العقل لا القرآن ، وعن هذا نقل عن علي ( عليه السلام ) ، أنّه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تحتجْ عليهم بالقرآن فإنّه حمّالٌ ذو وجهين ، ولو كان هدىً لما قال ( عليه السلام ) ذلك ، ولأنّا نرى جميعَ فِرق الإسلام يحتجّون به ، ونرى القرآن مملوّاً ، بعض آياته صريحٌ في الجبر ، وبعضها صريحٌ في القدَر ، ولا يمكن التوفيق بينهما إلاّ بالتعسّف الشديد ، فكيف يكون هدىً ؟ والجواب : إنّ ذلك المجمل والمتشابه ، لمّا لم ينفك عما هو المراد على التعيين ، وهو إمّا دلالة العقل المنوّر بنور القرآن ، وإمّا دلالة المبيّن والمحكّم من الآيات ، صار كلّه هدى . وأما قوله : " لا يمكن التوفيق بين آيات الجبر وآيات القَدَر إلاّ بالتعسّف الشديد " ، فليس كذلك عند مَن هو من أهل القرآن ، وهم المتّقون الراسخون في العلم والعرفان . واربعها : كلّما يتوقّف صحة كون القرآن حجةً عليه ، لم يكن القرآن هدىً فيه ، فاستحال كونُ القرآنِ هدىً في معرفة الله وصفاتِه ، ومعرفةِ النبوّة والمعاد ، ولا شكّ أنّ هذه أصول المطالب ، وهي أشرف العلوم ، فإذا لم يكن القرآن فيه هدىً ، فكيف جعله الله هدىً على الإطلاق ؟ والجواب : إنّ كمال المعرفة بالله ورسله وملكوته والنشأة الآخرة ، لا يحصُل إلاّ بالقرآن ، وكذا العلم بالشرائع الإلٰهية ، وسائر الحقائق النبويّة ، لا يُستفاد إلاّ به ، والمتوقّف عليه صحّة كون القرآن حجةً هو أصل الاعتقاد بالله واليوم الآخر على وجهٍ يشترك فيه أكثر الناس ، ويذعن به أوائل العقول ، من غير حاجة الى ممارسة القرآن ومطالعة الآيات . والإيمان بالله واليوم الآخر مرتبةٌ عظيمةٌ ومنزلةٌ شريفةٌ ، لا يوجد إلاّ في عرف القرآن وعلمَ آياتِه ومعانيه على وجهٍ تتنوّر به قلوبُ أهل الحقّ ، وهو غير الاعتقاد الذي قد يحصل بمجرّد التقليد أو الرواية من غير بصيرة واهتداء ، ويشترك أوائل الفِطَر ومبادئ العقول ، وأمّا الإيمان الحقيقي ، فالمؤمن به يحتاج الى فطرة ثانية ، ونور يقذفه الله في قلب مَن يشاء مِن عباده . وخامسها : إنّ الهدى ، هو الذي بلغ في البيان والوضوح الى حيث بيَّن غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإنّ المفسّرين لا يذكرون آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة . وما يكون كذلك لا يكون مبيَّناً في نفسه ، فضلاً عن أن يكونَ مبيِّناً لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ والجواب : من تكلَّم في التفسير ، وشأنه نقل الأقاويل المتعارضة من غير بصيرة يقتدرُ بها على ترجيح واحدٍ منها على الباقي ، أو الاطلاع على فهم جديد أعطاه الله من لدنه ، فهذا السؤال متوجّهٌ عليه ، لا على أهل القرآن من أرباب التأويلات والعلوم الربوبيّات والنبوّات . تتمة في الإعراب : حكَم صاحبُ الكشّاف أولاً أنّ محل " هدى للمتقين " الرفعُ ، لأنّه خبر مبتدإ محذوف . أو خبرٌ مع " لا ريب فيه " ( لذلك ) . أو مبتدأ إذا جُعل الظرفُ المقدم خبراً عنه ، أو أنّه منصوب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أو الظرف كما مرّ . ثم أضربَ عن هذا المجال صفحاً ، وجعل " الۤمۤ " جملةً برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلّة بنفسها ، " وذلك الكتاب " جملةً ثانية ، و " لا ريب فيه " ثالثة ، " وهدىً للمتقين " رابعة ، قائلاً : إنّه أرسخُ عِرقاً في البلاغة وموجب حسن النظْم حيث جيء بأربع جمل متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، تعزّز اللاحقة منها السابقة . بيانه : أنّه نبّه أولاً على أنّه الكلام المتحدّىٰ [ به ] ، ثمّ اشير اليه بأنّه الكتابُ المنعوت بغاية الكمال ، ثمّ نصّ على كماله بنفي الريب عنه ، إذ لا كمال أعلى مما للحقّ واليقين ، ولا نقصَ أنقص ممّا للباطل والشبهة . ثمّ اكدّ كونه يقيناً لا يحوم الشكّ حوله ، وحقّاً لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلْفه ، بأنّه هدىً للمتقين ، وبعد أن رتّبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظْم السويّ ، حيث تستتبع كلّ واحدة منها ما يليها استتباع الدليل للمدلول ، لم يخلُ كلّ واحدة من الأربع من نكتة جزيلة : ففي الأولى : الحذف والرمز الى الغرَض بألطفِ وجه . وفي الثانية : ما في التعريف من الفخامة . وفي الثالثة : تقديم الريب على الظرف حذراً عن ايهام خلاف المقصود . وفي الرابعة : الحذفُ والتوصيفُ للبالغة بالمصدر ، وايراده منكّراً للتعظيم ، وتخصيصه بالمتّقين باعتبار الغاية ، وتسمية المُشارف بالتقوى متّقياً ايجازاً .