Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 23-23)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أن الله سبحانه ، لمَّا أقام الدلائل الباهرة والحجج القاهرة على اثبات التوحيد وتحقيقه ، وإبطال الإشراك ، وهدم قواعد الأنداد والأعداد ، وعرَّف العقول بأنّ من أشرك فقط عطَّل ميزان عقله عن الاستعمال ، وباع رأس مال فطرته باتِّباع الأرذال وتقليد الجهّال ، وغطّى ما أنعم الله عليه من نور العقل والتمييز بظلمات الوهم والخيال ، عطف على ذلك ما هو الحجّة على إثبات النبوّة لنبيّنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، المبعوث على كافَّة البريَّة ، وما يدحض به الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم ما يلجئهم إلى الاعتراف بذلك . وإلاّ فقد حرّم الله تعالى شرب ماء حياة القرآن ، وذوق مشارب الإيمان وحقائق العرفان على أهل هذه الظلمات ومقابر الأموات ، والراقدين في مراقد الجهالات ، فإنّه تعالى قد جعَل إعراض المعرِضين عن مطالعة كتابه ، واعتراض المعترضين على سيِّد أحبّائه حجاباً من حُجب غيرته ، وسرادقاً من سرادقات عزّته لحبيبه المرسَل وكتابه المنزَل ؛ فلا يشاهِد المعرِضون عن الله حبيبه ، ولا يطالِع المعترضون على الله كتابه . فلم يزدْهم بيان النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإعجاز القرآن إلاّ ريباً على ريباً وخساراً على خسار ؛ كما قال الله تعالى : { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] . فلمّا حُجِبوا عن مشاهدة أنوار الحبيب ، ومُنعوا عن مطالعة آيات الكتاب ، أقام عليهم الحجَّة البيِّنة إعلاماً لبُعدهم عن المحجَّة ، وايذاناً بانحرافهم عن الصراط المستقيم ، وتنكُّبهم عن الطريق القويم ، وأراهم كيف يتعرَّفون ما أتى به عبدُه ؛ أهو من عند الله - كما يدّعي - ، أم هو من عند نفسه - كما يدّعون - . ونفوس البشر - بما هي نفوس البشر - متماثِلةٌ ، وإنّما التفاوت والتفاضل بأمور أُخرويَّة فائضة عليها من الله ، فلو كانت النبوّة كسبيّة ، أو كان القرآن آلفاظاً تأليفيّة ، لمَاع عجَزوا عن آخرهم عن اكتسابها ومعارضته . فأرشدهم إلى أن يجرِّبوا أنفسهم ، ويمتحنوا أذواق طباعهم - وهم أبناء جنسه وأهل جِلْدته - ، هل يقدرون على الإتيان بمثل ما أتى به ؟ وإن كانوا من مصاقع الخطباء من العرَب العرْباءِ ، مع كثرتهم وإفراطهم في المضادَّة والمضارَّة ، وتهالُكهم على المعازَّة والمعارَّة ؛ فعرَّفهم ما يتعرف به اعجازه ، ويتيقَّن أنّه من عند الله كما يدّعيه عبده . وإنّما سمّاه " عبداً " مطلقاً مقيّداً بـ " هـ " ولم يسمّ غيره من الأنبياء عليهم السلام إلاّ بالعبد المقيّد المقرون باسمه - كما قال : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } [ ص : 41 ] { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] . وغيرهما - ، وذلك لأنّ كمال العبوديّة ما تهيّأ لأحد من العالمين إلا لحبيبه - صلوات الله عليه وآله - ، لأنّه يحصل في كمال الحريّة عما سوى الله بقطع منازل الخلٌْ والأمْر كلها ، وطيِّ معارج الملك والملكوت ، والخروج عن مكامن أطوار الإنيَّة ومطاوي أستار الأنانيَّة ، إلى فضاء مشاهدة الأحديّة وعرصة القيامة اللاهوتيّة . وهو المختص بهذه الكرامة كما أثنى الله عليه بذلك : { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [ النجم : 16 - 17 ] . فلمّا اختُصّ بهذه الحريّة ، أكرم بهذه العبوديّة ، وسُمّي باسم العبد المطلق ، كما قال : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] . وهو المقدّم في رتبة التشريف في التشهّد على الرسالة . وإنّما ذكره في هذه الآية بـ " عَبْدِنَا " ، لأنّه أمَر في الآية المتقدّمة بالعبوديّة خالصة لله بترك الأنداد ورفض الأحباب - من الدنيا ، والهوى ، والنفس وشهواتها من المراتع الحيوانيّة والملاذّ النفسانيّة - ، وما صحّ لأحد من العالمين من العبودية الخالصة ، كما صحّ له ( صلى الله عليه وآله ) ، فذكره في هذا المعرض ، وسمّاه به ، وأضافه إلى ذاته تنبيهاً على منزلته فقال : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا } أنعمنا على عبدِنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، بحسن الطاعة والخدمة ، وكمال العبودية والاستعداد بإنعام الوحي وإنزال القرآن { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } . وإنما قيل : " نَزّلْنَا " - على لفظ " التنزيل " دون " الإنزال " - ، لأن المراد نزوله على نهج التدريج والتنجيم ، وهو الحريّ بمكان التحدّي ، لأنّهم كانوا يقولون : لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً - سورة بعد سورة ، وآيات غبَّ آيات - ، على سنن أهل الخطابة والشعر ، حيث صدر عنهم وسنح ببالهم مضامين الأشعار والخطب ، حسب ما عَنَّ لهم من الأحوال ، وتجدّد عليهم سوانح الحاجات ، ولم يلق الناظم ديوان شعره دفعةً ، ولم يرم الخطيب مجموع خطبه ورسائله ضربةً ، كما حكى الله عنهم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] . ثم بيَّن الحكمة في ذلك بقوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] . وذلك لأن الله بيَّن حجَّة نبيِّه بأوضح وجه وآكده ، فأزاح علّتهم ، وأدحض حجَّتهم بأنّه إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهلٍ وتدريج ، فهاتوا بمثْل نجْم من نجومه ، وقسْم من أقسامه ، وسورة من سوره ، أو آيات مفتريات . وهذا غاية الإلزام ونهاية التبكيت ، التي لم يبق للمحجوج المعاند مجال الكلام إلاّ باتيان المثل أو ما يقرب منه ، لو وجد عنده ، أو أخذه من أقرانه وأعوانه ، كما قال : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . وإذا لم يأت بمثله ولا بما يقرب منه ، فقد علم عجزه . فهذا أوضح الطرُق للدلالة على أن القرآن معجزة ، وذلك لأنّه لا يخلو حاله من أحد وجوه : إمّا أن يكون مساوياً لكلام سائر الفصحاء ، أو زائداً عليه بقدر لا ينقض العادة ، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة . والأولان باطلان ، فتعيّن الثالث . أما بطلانهما : فإنه ( صلى الله عليه وآله ) تحدّى بالقرآن ، ودعى إلى الإتيان بسورة مثله مصاقع البلغاء والفصحاء مع [ كثرتهم ] كثرة رمال الدهناء وحصاء البطحاء ، وكانوا في معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية ، [ و ] كانت شهرتهم بغاية العصبيّة والعناد والحميّة الجاهلية واللداد فوق النهاية ، وكان تهالكهم على المباهاة والمبالاة ، والدفاع عن الأحساب وركوب الشطط في هذا الباب خارجاً عن الحدّ والحساب ؛ فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة ، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة . فلو قدَروا على المعارضة بالمثْل - أو بالأقلّ منه تفاوتاً غير فاحش - ، لعارضوا بمقارعة اللسان - لا بمعارضة السيف والسنان - ، ولم يرتكبوا ضروب المهالك والمحن ، ولم يبذلوا النفوس والأموال في الحروب والفتن - إذ المعارضة أقوى القوادح - ، ولو عارَضوا لاشتَهر وتواتَر نقله إلينا لتوفُّر الدواعي وعدم الصارف . والعلم بجميع ذلك يجري مجرى الضروريات كسائر علوم العاديات ، ولا يقدح فيه احتمال أنّهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، أو عارَضوا ولم يُنقل الينا لمانعٍ - كعدم المبالاة وقلّة الالتفات والاشتغال بالمهمّات - . وإذ تبين بطلان القسمين ، فثبت أن القرآن لا يماثل كلام سائر الفصحاء ، وأن التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً ، فهو إذاً تفاوت خارج عن العادة ، بالغ حدّ الإعجاز ؛ فالقرآن إذن معجزٌ . فصل في بيان جهة اعجاز القرآن اعلم أنّ الناس اختلفوا في وجه إعجاز القرآن ، فالجمهور على أن ذلك لأجل كونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم في البيان ، وإحاطتهم بأساليب الكلام . هذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية ، وعلى دقائق العلوم الإلهية وغوامض المعارف الربانية ، وأحوال المبدء والمعاد ، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق وإلى فنون الحِكمة العمليّة والمصالح الدينيّة والدنيويّة - على ما يظهر للمتدبّرين ويتجلّى للمتفكّرين ؛ وعلى ما هو فوق هذا كلّه ووراء طور العقول - ممّا لا يظهر إلا للراسخين في علوم الأذواق ، والمبتهجين بأنوار عالم الإشراق . وذهب من علمائنا الإماميّة السيد المرتضى - رضي الله عنه وعنهم - طباقاً لكثير من المعتزلة : [ إلى ] أن إعجازه بالصرفة ، وهي ان الله صرف همم المتحدين عن معارضته مع اقتدارهم عليها - وذلك إمّا بسلب قدرتهم ، أو صرف دواعيهم ، أو سلب العلوم التي لا بدّ منها في الإتيان بمثل القرآن - بمعنى أنّها لم تكن حاصلةً لهم ، أو بمعنى انها كانت كاملة حاصلة ، فأزالها الله . والأخير هو المختار عند المرتضى . واحتجّوا على ذلك أوّلاً : بأنّا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلّم بمثل مفردات السورة ومركّباتها القصيرة ، - مثل : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } [ الفاتحة : 2 ] ومثل : { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] وهكذا إلى الآخر ، فيكونوا قادرين على الإتيان بمثل السورة . وثانياً : بأن الصحابة عند جمع القرآن ، كانوا يتوقّفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقاة ، وكان ابن مسعود قد بقي متردّداً في الفاتحة والمعوذتين ؛ ولو كان نظم القرآن معجزاً بفصاحته لكان كافياً في الشهادة . والجواب عن الأول : إنّ حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء ، وهذه بعينها شبهة من نفى قطعيّة الإجماع والخبر المتواتر ، ولو صحّ ما ذكر ، لكان كلّ من آحاد العرب قادراً على الإتيان بمثل قصائد فصائحهم - كامرئ القيس وأضرابه - واللازم قطعي البطلان . وعن الثاني : بعد صحّة الرواية ، وكون الجمع بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا في زمانه ، وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز - ، إنّ ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخلّ بالإعجاز ، وأن اعجاز كلّ سورة ليس مما يظهر لكل أحد ، بحيث لا يبقى له تردّد أصلاً . وقيل : إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الرسائل والأشعار والخطب . وقيل : بسلامته عن الاختلاف والتناقض . وقيل : باشتماله على دقائق العلوم وحقائق المصالح والحِكَم . وقيل : بإخباره عن المَغيبات . ورُدّ الأوّل : بأنّ حماقات مسيلمة ومَن جرى مجراها أيضاً على ذلك النظم . والثاني : بأنّه كثيراً ما يَسْلَم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض . والثالث : [ بأنّه ] قد يشتمل كلام الحكماء على دقائق العلوم والحقائق . والرابع : بأنّ الإخبار عن المَغيبات لا يوجد إلا في قليل من الآيات . فصل في وجه شُبَه الطاعنين في القرآن واعلم أن أشراف العرب وكبراءهم - مع كمال حذاقتهم في أسرار بلاغة الكلام ، وفرط عداوتهم للإسلام - لم يجدوا فيه للطعن مجالاً ، ولم يوردوا في القدح مقالاً ونسبوه إلى السحر - على ما هو دأب المحجوج المبهوت - ، تعجُّباً من فصاحته ، وحسن نظمه وبلاغته ، واعترفوا بأنّه ليس من جنس خطب الخطباء وأشعار الشعراء ، وأنّ له حلاوة وعليه طلاوة ، وأن أسافله مغدقة وأعاليه مثمرة ، فآثروا المنازعة والمقاتلة على المقاولة ، وأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره على كُره من المشركين ، ورغم أنوف المعاندين ، وحين انتهى الأمر إلى من بَعدهم من أعداء الدين ، وفِرَق الملحدين ، اخترعوا مطاعنَ ليست إلا هزءة للساخرين ، وضحكة للناظرين . منها : إنّ فيه كلمات غير عربيّة - كالاستبرق والسجّيل ، والقسطاس ، والمقاليد - فكيف يصحّ أنه { عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] ورُدَّ بأنّ ذلك من توافق اللغتين ، والمراد أنه عربيّ النظم والتركيب ، أو الكلّ عربيّ على سبيل التغليب . ومنها : إن فيه خطأ من جهة الإعراب ، مثل { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] . و { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] . و { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] . ورُدَّ بأنّ كلّ ذلك صواب على ما بُيِّن في علم الإعراب . ومنها : إنّ فيه ما يكذبه ، حيث أخبر بأنه لا يتيسّر للبشر - بل للإنس والجنّ - مثل سورة منه ، وأقلّ السورة ثلاث آيات ، ثم حَكى عن موسى عليه السلام - مع اعترافه بأنّ هٰرون أفصح منه - مقدار إحدى عشرة آية منه ؛ وهو قوله : { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } [ طه : 25 - 26 ] إلى قوله : { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } [ طه : 35 ] . ورُدّ بأنّ المحكي لا يلزم أن يكون بهذا النظم بعينه ، على أنّ المختار عند البعض في المتحدى به سورة من الطوال ، أو عشر من الأوساط . ومنها : إن فيه متشابهات يتمسك بها أهل الغواية - كالمجسِّمة بمثل : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . ورُدَّ بأنّها لنيل المَثوبة بالنظر والاجتهاد في طلب المراد ؛ ولفوائد لا تحصى في الرجوع إلى الراسخين في العلم . ومنها : إن فيه عيب التَكرار - كإعادة قصّة فرعون في عدّة مواضع ، وكإعادة : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] في سورة الرحمن والمرسلات . ورُدّ بأنه إنّما يكون من محاسن الكلام على ما يقرره علماء البيان فيما وقع منه في الآخرة . ومنها : إن فيه قوله : { لَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، وأنت تجد فيه من الإختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما ترى على اثني عشر ألفاً . ورُدَّ بأنّ الاختلاف المنفيّ هو التفاوت في مراتب البلاغة ، بحيث يكون بعضه قاصراً عن مرتبة الإعجاز ، أو مشتملاً على تناقض في الأحكام أو الأخبار . لا يقال : تقرير الطعن فاسدٌ من أصله ، لأنّه استدلال بثبوت اللازم على ثبوت الملزوم . لأنّا نقول : لا . بل هو مبنيّ على أن كلمة : " لو " في اللغة تفيد انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط ، بمعنى أنّ عدم وجدان الاختلاف بسبب أنّه ليس من عند غير الله . أمّا لو حملت كلمة " لو " في الآية على ما هو قانون الاستدلال - كما في قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، فهو استدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم . أي : " لكن لم يوجد فيه الاختلاف ، فلم يكن من عند غير الله " . ومنها : إن فيه التناقض ، كقوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] . مع قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] . وكقوله : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] . مع قوله : { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] . إلى غير ذلك من مواضع يُتوهّم منها تنافي الكلامين . وَرُدَّ بمنع وجود شرائط التناقض - وقد بُيِّن ذلك في التفاسير - . ومنها : إن فيه الكذب المحضْ ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } [ الأعراف : 11 ] . للقطع بأن الأمر بالسجود لم يكن بعد خلقنا وتصويرنا . ورُدَّ بأنّ المراد خلق أبينا آدم وتصويره . ومنها : إن فيه الشعر من كل بَحرٍ ؛ وقد قال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ } [ يس : 69 ] . فمن الطويل : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . ومن المديد : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] . ومن البسيط : { لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 42 ] . ومن الوافر : { وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] . ومن الكامل : { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] . ومن الهزج : { تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا } [ يوسف : 91 ] . ومن الرجز : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } [ الإنسان : 14 ] . ومن الرمل : { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [ سبأ : 13 ] . ومن السريع : { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ } [ طه : 95 ] . ومن المنسرح : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } [ الإنسان : 2 ] . ومن الخفيف : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } [ الماعون : 1 - 2 ] . ومن المضارع : { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [ غافر : 32 - 33 ] . ومن المقتضب : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] . ومن المجتث : { ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 79 ] . ومن المتقارب : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ الأعراف : 183 ] . ورُدَّ بأنّ مجرد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي ، بل لا بدّ من تعمُّد الوزن - وعند البعض من التقفية - ، على أنّ في كثير مما ذُكر نوع تغيير ؛ ولو سلِّم فالتغليب باب واسع . أقول : المراد من الشعر المنهي عنه ، هو التخيُّلات والمبالغات في تحسين الأشياء وتقبيحها مع مراعاة النظم وغيره ، وإلاّ فمجرّد النظم الواقع في الكلام المطابق للحق ، مما ليس به بأس أصلاً . فصل في معنى السورة قيل : هي إما مستعارة من " سُور المدينة " لأحاطتها بما تضمّنته من أصناف المعارف والأحكام ، كاحاطة السُور بما يحتوي عيه . أو مَجاز مرسل من " السورة " أي المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة ، ومنه قول النابغة : @ ألَم ترَ أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب @@ إذ لكل واحدة من السوَر الكريمة مرتبة في الفضل عالية ، ومنزلة في الشرف رفيعة ؛ أو لأنها توجب علو درجة تاليها وسموّ منزلته عند الله سبحانه ، فكأنّ القاري يرتفع من كل منزلة إلى منزلة أخرى ، إلى أن يستكمل القرآن ويرتفع به ، كما ورَد عنه ( صلى الله عليه وآله ) : " اقرأ وارْقَ " . وقيل : " واوُها " مبدّل من " الهمزة " ، آخذاً من السُؤْر بمعنى : البقيَّة ، والقطعة من الشيء . واختلفوا في رسمها عرفاً ؛ فقيل : طائفة من القرآن مصدّرة بالبسملة الا براءة ، فأورد على طرده الآية الأولى من كل سورة . فزيد : " متّصل آخرها فيه بإحداها " . فأورد على عكسه " سورة الناس " . فزيد : " أو غير متصل بشيء منه " فوَرد عليه بعض أجزاء سورة النمل . وقيل : " طائفة من القرآن مترجمة بترجمة خاصّة " ونقض طرده بآية الكرسي . ورُدّ بأن المراد بالترجمة الإسم ، وتلك إضافة محضة . وأنت خبيرٌ بأنّ القول ببلوغ سورتي الإسراء والكهف مثلاً حدّ التسمية - دون آية الكرسي - لا يخلو من صعوبة . وقيل : الأولى أن يراد بالترجمة ما يكتب في العنوان ، ومنه " ترجمة الكتاب " ، والمراد بها هاهنا ما جرت العادة برسمه في المصحف المجيد عند أول تلك الطائفة من لقبها ، وعدد آياتها ، ونسبتها إلى أحد الحرمين الشريفين . أقول : والأمر في تحقيق أمثال ذلك هيّن . تذكرة : قد ذهب جماعة من قدماء الأمة ، إلى أنّ " الضُحَىٰ " ، و " ألَمْ نَشْرَحْ " سورة واحدة ، وكذا " الفيل " و " لإيلاف " وهو مذهب جماعة من فقهائنا - رضوان الله عليهم - . قال شيخنا بهاء الحق والدين - رحمه الله - : هذا القول وإن قال به جمع من السلَف والخلَف ، إلاّ أنّ الحقّ خلافه ، واستدلالهم بالارتباط المعنوي [ بين ] كل وصاحبتها ، وبقول الأخفش والزجّاج " إن الجار في قوله عزّ وعلا : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] متعلق بقوله جلّ شأنه : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 5 ] ، وبعدم الفصل بينهما في مصحَف أبي بن كعب ، ضعيف ؛ لوجود الإرتباط بين كثير من السور التي لا خلاف في تعددها ، فليكن هذا من ذاك . وكلام الأخَفَشين لا ينهض حجة في أمثال هذه المطالب ، وتعلّق الجار بقوله سبحانه : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ } [ قريش : 3 ] لا مانع عنه ، وعدم الفصل في مصحَف أبيّ لعلَّه سهوٌ منه ؛ على أنّه لا يصلح معارضاً لسائر مصاحف الأمَّة . وأمّا ما ذكره جماعة من مفسِّري أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - كشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي في التبيان ، وثقة الإسلام أبي علي الطبرسي في مجمع البيان ، من ورود الرواية بالوحدة عن أئمتنا عليهم السلام - فهذه الرواية لم نظفر بها ، وما اطَّلعنا عليه من الروايات التي تضمَّنتها أصولنا ، لا تدلّ على الوحدة بشيء من الدلالات ، بل لعل دلالة بعضها على التعدّد أظهر . وأقصى ما يُستنبط منها جواز الجمع بينهما في الركعة الواحدة ؛ وهو عن الدلالة على الوحدة بمراحل . وما تشرّفنا بمشاهدته في مشهد مولانا وإمامنا أبي الحسن الرضا عليه السلام من المصاحف ، التي قد شاع وذاع في تلك الأقطار أن بعضها بخطّه عليه السلام ، وبعضها بخط آبائه الطاهرين - سلام الله عليهم أجمعين - [ يدل ] على ما قلنا من التعدد ، فإنَّ الفصل في تلك المصاحف بين كل من تلك السور الأربع وصاحبتها على وتيرة الفصل بين البواقي - انتهى كلامه . فإن قيل : ما فائدة تقطيع القرآن سوَراً ؟ قلنا : ذكرت فيه وجوه : منها : ما لأجله بوَّب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً موشّحة الأوائل بالتراجم والعنوانات لسهولة الأخذ والضبط ، ولأن الجنس إذا حصل تحته أنواع ، كان أفراد كلّ نوع عن صاحبه أحسن ، ففيه إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم . ومنها : أن القاري إذا ختَم سورة أو باباً من كتاب الله ، ثم أخذ في آخر ، كان أنشط له . ومنها : أن الحافظ إذا حذق طائفة مستقلّة بنفسها ، فيجلّ في نفسه ذلك ويغتبط به ، ومن ثمَّ كانت القراءة في الصلاة بسورة تامَّة أفضل ؛ ففيه تنشيط القاري ، وتسهيل الحفظ والترغيب فيه والتنفيس - كالمسافر إذا علم أنّه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً أو انتهى إلى رأس بريد ، نفَّس ذلك عنه ونشط للسير ، ومن ثَمَّة جزّء القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاءً وعشوراً . وقيل : إن في القرآن ميادين ، وبساتين ، ومقاصير ، وعرائس ، وديابيج ، ورياضاً ، وخانات ؛ فالميمات ميادين القرآن ، والراءات بساتينه ، والحامدات مقاصيره ، والمسبِّحات عرائس القرآن ، والحامّيمات ديباج القرآن . والمفصّل رياضه ، والخانات ما سوى ذلك . فإذا دخل القاري في الميادين ، وقطف من البساتين ، ودخل المقاصير ، وشهد العرائس ، ولبس الديباج ، وتنزَّه في الرياض ، وسكن غرف الخانات ، استغرقه ذلك عمّا سواه ، فلم يكن شغله عن تفكُّره وتدبُّره فيه شاغل . نكتة قد وقع التحدّي بالقرآن بوجوه وتارات ؛ تارة بقوله : { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ } [ القصص : 49 ] . وتارة بقوله : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } [ الإسراء : 88 ] . وتارة بقوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] . وتارة بقوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] . وذلك لكون التحدّي بشيء على عدّة مراتب متنازلة يكون أقوى وأبلغ . نظيره كمن يتحدّى صاحبه بتصنيفه فيقول : " إيتني بمثْله ، إيتني بنصْفه ، ايتني بربْعه ، ايتني بمسئلة مثْله " ، هذا هو النهاية في إزالة العذر وإزاحة الشبهة . واعلم أنّ هذا دالٌّ على أنّ القرآن ، وما هو عليه ، من كونه سوَراً هو على حدّ ما أنزل الله - لا كما اشتهر من أنّه وقع الترتيب في أيّام عثمان - فصل الضمير في " مِثْلِه " عائدٌ إلى " مَا نَزَّلنَا " ؛ و " مِنْ " للتبعيض أو التبيين ، وزائد عند الأخفش ؛ أي : فأتوا بسورة مماثلة للقرآن في الفصاحة وحسْن الترتيب . وقيل : إلى " عَبْدِنَا " ، و " مِنْ " للابتداء ، أي : " فأتوا بسورة كائنة ممّن هو على حاله من كونه بشَراً أمّياً لم يقرء الكتب ولم يأخذ من العلماء " . أو صلة " فأتوا " والضمير للعبد . ورجّح الأول بوجوه : أحدها : إنّه المطابق لسائر آيات التحدّي - لا سيّما ما في سورة يونس - : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] . والثاني : إن الكلام مسوق في المتحدّى به - لا في المنزل عليه - ، فوجب صرف الضمير إليه ليتّسق الترتيب ويحسن النظم . والثالث : إن مخاطبة الجماعة الكثيرة بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أمثالهم في البشريّة ، أبلغ وأقوى في التحدّي من أن يقال لهم : " ليأت آخر مثله بنحو ما أتى به هذا " . الرابع : إنّ القرآن معجز في نفسه ، كامل في حقيقته ، كما قال سبحانه : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] . وعند عود الضمير إلى محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، يفيد أن كونه معجزاً ، إنّما يكمل ويتمّ عند تقدير ما يوهم نقصاً في حقّه - من كونه أميّاً بعيداً من العلم - ، حاشى الجناب المصطفوي الختمي - على القائم به وآله الصلاة والسلام - عمّا يوهم خطأ في حقّه أو نقصاً في نفسه ؛ بل كما تشرّفت ذاته بالقرآن بعد النزول ، تشرّفت قبل نزوله بعلوم إلهيَّة وأنوار عقليّة ، كان يتهيّأ ويستعدّ بها من بين الخلائق كلهم لمشاهدة الوحي الإلهي ، وتلقّي القرآن من لَدُنْ حكيم عليم . وليس كما زعمه أكثر الناس - ممّن لا اطلاع لهم على معنى النبوّة وحقيقة الرسالة - من أنه قبل البعثة لم يكن من أولي العلم - حاشاه عن ذلك - ، كيف ، ولا شرف ولا فضيلة بالحقيقة لنفس الإسنان إلاّ بالعلم والمعرفة ، وبذلك يتميّز عن الأقران ، ويفوق على سائر الأكوان . وكونه ( صلى الله عليه وآله ) أمّياً لا ينافي أفضليّته على الخلق ، لأن علم الخط والكتابة ليس من الفضائل الكلّية والكمالات العقليّة ، بل هو من الصنائع الجزئيّة الوضعيّة المتعلّقة بإدراك الحواسّ ، وأنها كسائر العلوم الجزئيّة داثرة باندراس الحواسّ ، وكلّ ما من شأنه الدثور والزوال ، فليس في شيء من الشرف والكمال . الخامس : إنّ ردّ الضمير إليه - لا إلى المُنزل - ، يوهم إمكان صدوره عمّن لم يكن مثله ( صلى الله عليه وآله ) في كونه أمّياً ، ولو صرف إلى المنزَل ، لدلّ على امتناع صدوره من البشر مطلقاً ؛ فهذا أولى وأوفق بقوله : { وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ } . فصل " الشهداء " جمع شهيد ، من " الشهود " وهو الحضور ، سواء كان في العين أو في العلم ، بالذات أو بالتصور . ومنه قيل للمقتول في سبيل الله : " شهيد " ، لأنّه يحضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه ، ويطلق على القائم بالشهادة ، والناصر ، والإمام ، فكأنه سمّي به لأنّه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور . والمراد من الشهداء ؛ إمّا من ادّعوا فيه الإلهيّة من الأوثان ، وإمّا أكابرهم ورؤساؤهم لأنهم يشتركون في أنهم كانوا يعتقدون فيهم كونهم أنصاراً وأعواناً . ومعنى " دون " ، أدنى مكان من الشيء ، ومنه " تدوين الكتب " ، لأنّه إدناء البعض من البعض ، و " دونك هذا " أي : خذه من أدنى مكان منك . ثم استعير للرتب فقيل : " زيد دون عمرو في الشرف " ، ومنه " الشيء الدون " . ثم استعمل اتّساعاً في تجاوز حدّ إلى حدّ ، وتخطّي أمر إلى غيره . قال الله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 28 ] . أي : لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . وقال أميّة : " يا نفس مالَك دون الله من واقٍ " . أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره . و " مِنْ دُونِ اللهِ " متعلّق إمّا بـ " شهداءَكم " أو بـ " ادعوا " . وعلى الأول ففيه معنيان : أحدهما : ادعوا للمعارضة الذين زعمتموهم آلهتكم من دون الله ، وشهداء لكم يوم القيامة على أنكم محقّين . وثانيهما : ادعوا شهداءكم من دون أولياءِ الله وغير المؤمنين ليشهدوا لكم أنّكم أتيتم بمثله . ففي الأول ، حيث وقع الأمر لهم بأن يستظهروا بالجمادات في معارضة [ القرآن ] غاية التهكّم بها والتبكيت ؛ وفي الثاني ، إشعار بأنّ شهداءَهم لمّا كانوا فرسان الفصاحة ، تأبى عليهم طباعهم السليمة الرضا بالشهادة الكاذبة لأولئك المدّعين . وأمّا الثاني : ففيه أيضاً معنيان : أحدهما : ادعوا للإتيان بسورة منه كلّ من حضركم ، أو تصوّرتم معونته من إنسكم وجنِّكم وأعوانكم وأنصاركم وآلهتكم غير الله ، فإنّه لا يقدر أحد مما سوى الله أن يأتي بمثله . وثانيهما : ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأنّ ما أتيتم على مثله ، ولا تستشهدوا بالله ، فإنّ من ديدن المبهوت العاجز وهجّيره أن يقول : " الله يشهد أني لَصادق " ، وهذا تعجيز لهم ، وبيان لانقطاعهم عن البحث إلاّ بمثل هذا القول . مسئلة : اعلم أنّ هذا التحدي يبطل مذهب الجبر - كما ذكره القاضي - لأنّه مبني على تعذّر مثله ممّن يصح وقوع الفعل منه ، فمن ينفي كون العبد فاعلاً أصلاً ، لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً ، ويلزم منه إبطال الاستدلال بالمعجزات ، لأنّ تعذّر وقوعها عن الغير يكون لفقْد القدْرة ، ويستوي في ذلك ما يكون معجزاً وما لا يكون . وأيضاً ، فإذا كانت الأفعال كلّها من الله ، فكلّ ما ينسب إلى العبد من التحدّي يرجع في التحقيق إلى أنّ الله متحدٍ لنفسه ، وهو قادر على الإتيان بمثله من غير شكّ ، فيجب أن لا يثبت الإعجاز على هذا القول . وأيضاً ، إنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) كان يحتجّ بأنّ الله قد خصَّه بالقرآن تصديقاً له في دعوى الرسالة ، فلو لم يكن من قِبَله تعالى ، لم يكن داخلاً في الإعجاز ، وعلى القول ( بالجبر ) ، لم يبق فرق بين المعتاد وغيره ، لأنّ الكلّ لا يكون إلاّ من عند الله . هذا هو المذكور في هذا المقام ، وهو حجَّة قويَّة الإلزام ، وأجاب عنه صاحب الكبير بقوله : " إنّ المطلوب من التحدّي [ إما ] أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً ، أو أن يقع ذلك منه إتّفاقاً ؛ والثاني باطل ، لأن الإتّفاقيّات لا تكون في وسعه ، وعلى الأول ، إتيانه بالمتحدّى به موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه ، فذاك القصد إن كان منه لزم التسلسل - وهو محال - ، وإن كان من الله ، فحينئذ يعود الجبر ، ويلزمه كل ما أورده علينا ، فيبطل كلّ ما ذكره . وأقول - ومن الله الهداية والعصمة - : إنّ هذا النِحرير بطول عمره في البحث والتحرير ، لم يفرّق بعد بين ما هو مذهب الأشعري وأتباعه ، وما هو مذهب القائلين بالعلّة والمعلول ، و " أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد " ، و " أن ترجيح أحد المتساويين محال إلاّ لداع " ، و " أن الممكن من حيث إمكانه يستحيل وجوده وعدمه إلاّ بسبب " . وذلك لأن بناء هذا الإلزام من إبطال التحدّي على رأي أصحابه - النافين للأسباب والعلل - ، من جهة أن نسبة المتحدّي وغير المتحدّي إلى المتحدّى به واحدة ، وليس - ولا واحد منهما - مما له مدخل في وجود ذلك الأمر بوجه من وجوه المدخليّة - ككونه فاعلاً أو غاية أو شرطاً أو مُعِدّاً أو غير ذلك من الأسباب والشروط - ، فلا معنى للتحدّي بأمر غير مختصّ بواحد دون واحد . وأمّا إذا كان ورود الفضائل والكمالات ، وفيضان العلوم والخيرات من الله على بعض النفوس والذوات دون بعض ، من جهة أعماله السابقة المقرّبة ، ونيّاته المتقدّمة والمهيّئة ، وفكره وذكره وطاعته وعبادته ، فلا يرد ذلك أصلاً ، لأن تلك السوابق ، مخصّصات للعبد باستحقاق منقبة خاصّة . وتلك السوابق ، وإن كانت كلّها أيضاً واردة عليه من قِبَل الله ورحمته - لا منبعثة من ذات العبد - ، إلا أنّها تقرّبه وتُزْلِفُهُ إلى الله ، وتخصّصه لقبول العناية الإلهيّة ، فيصحّ لأحد على هذا الوجه دعوى النبوّة ، واثباتها بالتحدّي بفضيلة زائدة على فضائل سائر الناس ، ومنقبة فائقة على مناقبهم ، خارجة عن حدّ طاقتهم ووسع قوّتهم وقدرتهم . ولا يمكن حينئذ لأحد إبطال قوله ؛ بأنّ هذا المتحدّى به ليس فعلك - بل من فعل الله - ، فأيّ اختصاص له بك ؟ وأي منقبة حصلت لك منه دون أقرانك وأمثالك ؟ لأنّ له أن يقول : إنّ جميع الأمور ، وإن كانت حاصلة بقضاء الله وتقديره ، إلاّ أنَّ قضاءه وقدره يوجبان ما يوجبان بتوسيط مقدمات وسوابق ، وأسباب وبواعث ، كلّها راجعة إليه أيضاً . ومن جملة تلك الأسباب إرادة العبد وطاعته وذكره وعبادته ، فسوابق الطاعات ، ومقدمات العبادات من عبد توجب له التقرّب إلى الله زلفى ، وهذا التقرّب قرْب معنويّ ودنوّ عقلي بحسب الشرف والفضيلة الذاتيّة - لا بحسب الوضع والرتبة المكانيّة - ، وأفراد البشر وإن كانت متساوية في الجسميّة والبشريّة ، لكنّها بعد انتقالاتها وحركاتها إلى الأعراض ، وتطويرها في الأطوار ، واكتسابها للخيرات والشرور ، واقتنائها للفضائل والرذائل ، تصير متخالفة الذوات والصفات بحسب البواطن والقلوب . فمِن القلوب ما هو أبيض منير كالشمس ، ومنها ما هو أسود مظلم كالقير ، فهل هذا التفاوت إلاّ بأمور ذاتية مجعولة من الله ، حاصلة من مواهبه وعطاياه ؟ وليست أفراد الإنسان متساوية فيها ، كما قال تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] . فالنبوَّة ، وإن لم تكن مكسوبة للعبد ، إلا انها فائضة من الله على قلب مطهّر بطهارة الأخلاق والرياضات ، منوّر بنور المعارف والخيرات ، كمن يكنس من جملة عبيد السلطان بيتَه من الأرجاس والأخباث والكثائف ، وينظفه بفنون التنظيفات ، ويطيّبه بأنواع الطيب والبخورات الحسنة انتظاراً لقدومه - بما لم يفعل سائر العبيد والخدّام - فليس من الحكمة والعدالة السلطانيّة ، أن لا ينزل في بيته وينزل في بيت غيره - مع تساوي نسبة قدْرة السلطان إلى الجميع - . فهكذا قلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، كان طاهراً كالسقف المرفوع من جميع الخبائث السفليّة النفسانيّة ، والصفات البشريّة ، منوّراً كالبيت المعمور بأنوار العلوم والطاعات ، فصار بيت الله مورد آيات بينات منه ، فيه مقام ابراهيم من التوحيد وسائر المقامات . فأقبل أوّلاً إلى أهل بيته عليهم السلام ، فأمطر عليهم من سماء علمه أمطار العلوم ، وأضاء قلوبهم بأضواء المعارف ، فارتوى بالعلم والهدى ظاهرهم وباطنهم ، ثم أقبلَ على الأمّة بقلب كالبحر موّاج بمياه العلوم ، فاستقبلته أودية العقول وأنهارها ، وجداول الفهوم وسَواقيها ، وجَرىٰ من بحره في كلّ وادٍ وجدولٍ وساقيةٍ من قلوب العلماء قسطٌ ونصيب لائق ، وذلك القسط الواصل إلى الفهوم ، هو الفقه في الدين . وبالجملة ، فليس بناء أمر العالَم - من تعظيم العالِم ، وإهانة الجاهِل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والهداية والضلالة ، وإعلام طريقي الخير والشرّ ، وسبيلي الطاعة والمعصية ، وسائر ما ينوط بذلك - على مجرّد التخمين والجُزاف ، والعبث والاتفاق ، من غير حقّ لازم وقضاء ثابت ، حتى يمكن انقلاب كل شيء إلى ضده ، وترتّب كل أثر على نقيض مؤثّرة - تعالى الله عن سفَه المعطِّلين وبطالة البَطّالين علوّاً كبيراً . وقوله : " إِنْ كُنْتُمْ صَادِقين " قضيّة شرطيّة جوابها محذوف ، لدلالة ما قبلها عليه أي : " إن كنتم صادقين في أنّ القرآن كلام البشر ، والإتيان بمثله ممكن فأتوا بمثل سورة منه " . و " الصِّدْق " : هو الإخبار عمّا يطابق الواقع ، والمراد من الواقع ما في نفس الأمر . أي : وجود الشيء في نفسه - لا بتعمّل الوهم واختراعه - فـ " الأمْر " بمعنى الشيء . واعترض عليه : بأنّ بعض الأشياء كالقضايا الذهنية ممّا لا وجود [ له ] إلاّ في الذهن ، فصدق الحكم فيها على الشيء حكماً ايجابياً ، يستدعي مطابَقاً خارجيّاً ، وليس لها مطابَق خارجيّ أصلاً - كالحكم بأنّ التناقض محال . والعدم تفيٌّ محض - . وأجيب : بأنّ المغايرة بين المطابِق والمطابَق لا يجب أن تكون حقيقة ، بل مطلق المغائرة الشاملة للحقيقية والاعتبارية بينهما كاف في صدق الخبر ، فهٰهنا مغائرة اعتبارية ، بمعنى أنّ هذه النسبة الموجودة في الذهن ، مطابقةٌ لنفسها من حيث أنّها موجودة في نفسها لا بتعمّل العقل - ، فهي من حيث وجودها في الذهن ، مغاير لها من حيث وجودها في نفسها . وتفصيله - كما ذكره بعض أهل التحقيق - أن النسبة إذا وجدت في الذهن كان لها وجودٌ ذهنيٌّ - سواء كان باختراع العقل وتعمُّله ، كالحُكم بزوجيّة الثلاثة أو بدون اختراعه كما في الصوادق - . فالأولىٰ ليست موجودة في حدّ ذاتها ، بل باختراع وتعمّل من العقل . والثانية موجودة في نفسها مع قطع النظر عن اختراعه وتعمّله ، وإن كان وجودها في نفسها لا يكون إلا في الذهن ، إلا إنّها موجودة فيه بدون تعمّله ، فهي من حيث إنّها موجودة في الذهن ، مطابقة لها من حيث أنّها موجودة فيه مطلقاً بلا تعمّل ؛ فالوجود بالاعتبار الأول مطابِق - بالكسر - وبالاعتبار الثاني مطابَق - بالفتح . فالمنظور إليه في الاعتبار الأول ، الوجود الذهنيّ ؛ وفي الاعتبار الثاني ، مطلق الوجود في حدّ ذاته - سواء كان في الذهن أو في الخارج - فالنسبة الذهنيّة للصوادق مطابِقة لما في نفس الأمر بالمعنى المذكور ، حتى أنّها لو فرضت موجودة في الخارج أيضاً ، كانت المطابِقة لها بحالها ؛ بخلافها في الكواذب ، إذ لا مطابِق لها ولا وجود لها في نفسها ، أي : بلا تعمّل واختراع أصلاً ، لا في الخارج ولا في الذهن . وذهبت الحكماء إلى أن نفس الأمر عبارة عن العقل الفعّال عندهم ، فالمراد بـ " الأمر " هو المعنى المقابل لـ " لخَلْق " ، فيكون مرادهم من الموجود في نفس الأمر ، الموجود في عالم الأمر . قالوا : إن ما في أذهاننا من الأحكام ، إن كانت مطابقة لما في العقل الفعّال ، كانت صادقة مطابِقة لما في نفس الأمر - وإلاّ فكانت كاذبة - . واعترض عليه : بأنّه لو كان معنى صدق الحكم ما ذكروه ، لم يمكن لنا العلم بصدق خبر من الأخبار ، ما لم نعلم أنه مطابق لما ارتسم في العقل الفعّال ، وربّ إنسان عَلِم يقيناً " أنّ الواحد نصف الإثنين " ، ولم يعرف العقل الفعّال - بل ينكر وجوده - . وبأنّ ما ذكروه من الاستدلال على ارتسام صور المعقولات في جوهرٍ مفارق - هو خزانة معلومات النفس الناطقة - ، هو بعينه جارٍ في الأحكام الكاذبة ، فيجب عليهم القول بارتسامها فيه أيضاً . بيان ذلك : أنّهم استدلّوا على ذلك بالفرق بين حالتي الذهول والنسيان ، بأنّه عند الذهول تزول الصورة التي أدركها الإنسان من قوّته المدركة دون الحافظة ؛ وعند النسيان ، تزول عنهما جميعاً ؛ فهما قوّتان إحداهما ذات الإنسان . والأخرى جوهر آخر مفارق ، فيه المعقولات دائمة بالفعل ، وزوال الصورة عن حافظة النفس عند النسيان ، عبارة عن بطلان استعدادها للاتصال به من هذه الجهة . ثم إنّ الذهول والنسيان كما يجريان في الصوادق ، يجريان في الكواذب ، فلو كان المطابِق لما ارتُسم في الجوهر الذي هو خزانة المعقولات صادقاً موجوداً في نفس الأمر ، لكانت تلك الكواذب أيضاً صادقة موجودة في نفس الأمر ، واللازم باطلٌ ، فكذا الملزوم . وذكر العلامة الحلي - طاب ثراه - : " اني ذكرت هذا السؤال للأستاذ نصير الحق والدين فلم يأت بكلام مشبع " . وبأن صدق الخبر وصحّة الحكم ، إن كان بمطابقته لما في نفس الأمر ، بمعنى " عالَم الأمر " من النسب الحكميّة ، فما يكون في عالَم الأمر من الأحكام ، يلزم أن لا تكون صادقة ، إذ لا تغاير بينها وبين ما في نفس الأمر ، فلا مطابقة بينهما . ويمكن الجواب : عن الأول ، بأنّ حقيقة الصدق وملاكه هو غير عنوانه ورسمه ، وكثيراً ما يكون الشيء خفيّ الماهية وظاهر الإنيّة - كحقيقة الزمان والجسم وغيرهما - . والعالِم بصدق الخبر بشيء من الخواص والعلامات ، لا يلزم أن يكون عالِماً بحقيقتهما . وعن الثاني : بأنّ المطابق لما ارتسم فيه من حيث تصديقه واذعانه ، صادقٌ ، وتلك الكواذب - وإن كانت مرتسمة فيه - ، لكن لا بوجه التصديق بها والاذعان - بل بوجه الحفظ - ، فإنّ الحافظ لا يلزم أن يكون مذعِناً بما يحفظه . لا لما قاله بعض الأفاضل : " إن الحافظ لا يجب أن يكون مدركاً لما يحفظه " ، ومثَّل ذلك بحافظة الإنسان وخياله ، حيث إن الخيال خزانة الصور وليس مدركاً لها ؛ لأن حافظة الصور ، سواء كانت عقلية أو حسيّة ، لا تنفك عن المدركة ، وإن كانت جهة الحفظ غير جهة القبول في بعض الأشياء ، الا ان الحافظ والمدرك لهما ذات واحدة . بل لأنّ اللازم من انحفاظ صور الكواذب ، وسائر ما يوجد في هذا العالم من الشرور والآلام وغيرها ، تصوّر العقل الفعّال لها بوجه من وجوه التصور اللائق به ، أوَ لا تَرى أنّهم ذهبوا إلى أنّ العلْم بجميع الأشياء السفليّة حاصل للمراتب العالية ، وفيها صورة النقائص ، والشرور ، والآفات ، والأمراض ، والأوجاع ، والقبائح الموجودة هٰهنا ، وهي في ذلك بريئة منها بالكليّة ، لبراءة عالَم الأمر عن الشرّ مطلقاً . فكما لا يلزم من تعقُّل المرض والآفة والشرّ ، أن يكون العالِم بها مريضاً ، مأوفاً ، شرّيراً ؛ فكذا لا يلزم من تعقّل الكِذْب ، أن يكون العالِم به كاذباً ؛ لأنّ الكاذب هو المذعِن بالكذْب - لا المتصوِّر له - ، فصورة الكذْب في العقل ليست كذباً ، كما أنّ صورة الحرَكة والحرارة في العقل ليست حركة وحرارة ؛ فارتسام صور الكواذب في عالَم الأمر ، يستلزم كونه عالِماً بها من حيث التصور على وجه عقليّ ، ولا يستلزم منه حصول التصديق بها والإذعان . وعن الثالث : بأنّ صدق الخبر وصحّة الحكم الذي في الجوهر العقلي المسمّى عندهم بالعقل الفعّال ، لا يكون لكونه مطابقاً لما في نفس الأمر ، بل يكون لكونه عينه ، فيكون صدق الخبر أعمّ من كونه نفس الأمر ، أو مطابِقاً له ؛ ففي التعريف الذي ذكروه من المطابقة ، نوع مسامحة من باب عموم المجاز . وقد وجد في كلام بعض الحكماء كأرسطو في أثولوجيا ، ما يفهم منه أنّ علم المبادي أجلّ من أن يوصف بالصدق ، وإنّما هو الحقُّ - بمعنى أنّه الواقع ، لا المطابق للواقع - فلا حاجة إلى ارتكاب التجوُّز أصلاً . واعلم أن الحكماء أرادوا بالعقل الفعَّال ، عالَم الأمر كلّه ، وهو بعينه عند التحقيق ما فيه صور علْم الله من اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه صورة ما في السموات وما في الأرض بيد القدرة الإلٰهية ؛ فالأولىٰ أن يقال : إنَّ الصدق بمطابقة الخبر لِما في علم الله ، والحقُّ هو عين علمه بالأشياء على وجهه . وقيل : لا يكفي في صدق الخبر المطابقة فقط ، بل لا بدّ معها من اعتقاد المخبر انه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذّب المنافقين في قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] . لمّا لم يعتقدوا مطابقته . ورُدّ : بأنّ التكذيب انصرف إلى قولهم : { نَشْهَدُ } [ المنافقون : 1 ] لأن الشهادة إخبار عن تحقُّق العلم ، وهم ما كانوا عالمين بحقيّة الرسول ، لأن ذلك بالبرهان شأن أولي العلْم والدراية ، وبالتقليد شأن أهل السلامة للقلوب ، والصفاء للصدور من الجهل والعناد والاستكبار ، وكلاهما مفقودان عنهم .