Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 24-24)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيَّن الله لهم طريق الاهتداء إلى معرفة أحوال الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأرشدهم إلى قانون يعرف منه صحة ما جاء به من فساده ، ويمتاز بذلك حقّه من باطله ، أمرهم بتقوى النار المعدّة للكفار . معناه : فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، وقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم وأعوانكم من فصحاء العرب وبلغائهم مع كثرة عددهم كحصىٰ البطحاء ، وتبيّن لكم عجْزكم وعجْز غيركم ، وعلِمتم أنّ الإتيان ببعض قليل منه ليس في مقدرة البشر ، فلا تقيموا على التكذيب به والإعراض عنه ، فاتّقوا النار واحذروا أن تَصْلَوْهَا بتكذيبكم للحقّ وإعراضكم عن الحقّ . وعامِل الجزم في " تَفْعَلُوا " " لَمْ " - دون " إنْ " - لأنّها الأصل فيه ، واجبة الإعمال ، مختصّة بالمضارع ، متّصلة بمعمولها ؛ ولأنّها لما صيّرته ماضياً صارت كالجزء منه ، وحرف الشرط كالداخل على المجموع ، وكأنّه قال : " فإن تركتم الفعل " ولذلك جاز اجتماعهما . وقوله : " وَلَن تَفْعَلُواْ " جملة اعتراضيّة لا محلّ لها من الإعراب ، معناه : " ولن تأتوا بسورة من مثله أبداً " ، لأن : " لَنْ " نفي على التأبيد في المستقبل ، أو على التأكيد فيه . وفيه مع ما مرّ في الآية السابقة ، دلالة على حقيَّة النبوة من وجوه : أحدها : ما فيهما من التحدّي والتحريض على الجدّ ، وبذل الوسع ، وجمع العَدَد والعُدَد في المعارضة بالتقريع ، والتحديد ، وتعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من القرآن ؛ ثم إنّهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة ، وتهالكهم على المضادّة ، لم يتصدّوا لمعارضته ، والتجأوا إلى جلاء الوطن والعشيرة ، وبذل الأرواح والمهج ؛ وهذا من أقوى الدلائل على اعجاز القرآن ، لأنّهم - وهم فرسان اللسان - ، لو كان في امكانهم ومقدرتهم الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه ، لأتوا به ، وحيث ما أتوا به ظهَر العجْز وعلِم المُعجِز . وثانيها : إنّه ( صلى الله عليه وآله ) وإن كان متّهماً عند الأشرار والكفّار فيما يتّصل بأمر النبوّة ، فقد كان معلوم الحال في وفور العقل وكمال الفضل والحزم في معرفة العواقب ، فلو تطرّق الشك أو التهمة إلى ما ادّعاه من النبوّة ، لما استجرء في دعواه ، ولم تتبادر نفسه إلى أن يتحدّاهم بالغاً في التحدّي نهايته ، وفي التقريع للخصوم غايته ، بل كان خائفاً من وقوعه في فضيحة يعود وبالها على جميع أموره - حاشاه من ذلك ( صلى الله عليه وآله ) - ، فلولا كان على بصيرة من أمره ، وتثبُّت في قول ربّه ، ومعرفة بعجزهم وأمثالهم عن المعارضة ، لما اجترء على أن يحملهم على المعارضة بأبلغ وجه وآكده . وثالثها : إنّه [ لو ] لم يكن قاطعاً بصحَّة نبوَّته ، لما قطَع في الخبر بأنّهم ونظرائهم من أفراد البشر ، لن يأتوا أبداً بمثل القرآن ، فإنّ الشاكّ المجوِّز لوقوع خلاف ما ادّعاه ، لا يقطع في الكلام هذا المبلغ ، مخافة أن يظهر خلاف دعواه ، فتدحض حجته ، وقد أوجد الله مصداق ما أخبره ومطابق ما وعده رسوله ، حيث إنّه من أوان رسالته ( صلى الله عليه وآله ) إلى هذا العصر ، لم يخلُ وقت من الأوقات من أعادي الدين وخصماء الإسلام ، ومن يشتدّ دواعيه في الوقيعة فيه والإطفاء لنوره . ثم إنّه مع ذلك لم توجد المعارضة قطّ ، إذ لو عارَضه معارِضٌ بشيء لامتنع خفاؤه عادة بأن لا يتواصفه حمَلة الأخبار ، ولا يتناقله الحَكَوية - سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابّين عنه في كل عصر وزمان - . واعلم أن هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يكن محتجَّاً بالأدلّة العقليّة ، وأنّ القرآن خال عنها ، لأن الله تعلى قد احتجّ على الكفار بما ذكره في هذه الآية ، وألزمهم به تصديق نبيّه - عليه وآله السلام - ، وقرّرهم بأنّ القرآن كلامه إذ قال : " إن كان هذا القرآن كلام محمّد ( صلى الله عليه وآله ) فأتوا بسورة من مثْله ، لأنّه لو كان كلام البشر لجاز وتهيّأ لكم - مع تقدمكم في البلاغة والفصاحة - الإتيان بمثْله أو ببعضه مع قوّة دواعيكم إليه ؛ فإذ لم يتأتّ لكم ، فاعلموا بعقولكم أنّه كلام الله تعالى ، لا كلام البشر " . وهذا بعينه احتجاج عقليٌّ على صورة قياس شرطي استثنائي يستنتج فيه ، يثبت أوّلاً صحّة الملازمة بين مقدّم القضية الشرطيّة وتاليها ، ثمّ باستثناء نقيض التالي نقيض المقدّم . و " الوقود " - بالفتح - ، إسم ما توقَد به النار ، وبالضمّ هو المصدر ، وجاء فيه بالفتح أيضاً - كما نقل عن سيبويه - ، لكنّ الضمّ فيه أكثر وقوعاً ، ولا يبعد أن يكون المضموم مصدراً سمّي به ، كما تقول " فلان فخر قومه وزين بلده " . وقد قرء بالضمّ عيسى بن عمر الهمداني ، والإسم أظهر ، وهو الحَطَب . وإن أريد به المصدر ، يكون من قبيل قولك " حياة المصباح السليط " أي : به . أو على حذف مضاف ، أي : وقودها احتراق الناس والحجارة . و " الحِجَارَةُ " جمع حجَر ، كجِمالَة - جمع جَمَل . قال في الكشاف : " معناه : أنّها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنّها لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارة ، وبأنّ غيرها إن أريد احراق الناس بها ، أو إحماء الحجارة ، أوقدت أولاً بوَقود ، ثم طرح فيها ما يراد إحراقه أو إحماؤه ، وتلك - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - توقَد بنفس ما يُحرَق ويُحمى بالنارن وبأنّها - لإفراط حرّها وشدّة ذكائها - إذا اتّصلت بما لا تشتعل به نار اشتغلت وارتفع لهبها " . أقول : إن نار جهنم ممتازة عن سائر النيرانات بأمور شتى : منها : انها أخروية غير محسوسة بهذه الحواس الفانية ، إلا بعد انقلابها إلى النشأة الآخرة ، فعند ذلك يشاهدها الإنسان بعين اليقين ، والعارف يشاهدها الآن بعلم اليقين ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 5 - 7 ] . ومنها : أنّها كامنة أولاً في بواطن الأشياء التي هي وَقودها ، ثم تبرز من الباطن إلى ظاهرها ، وسائر النيران تستولي أوّلاً على ظاهر الحطب وما يجري مجراه ، ثم تنصرف إلى باطنه . وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] . ولم يقل : " زِدناها " ، دلّ على أنّه كلّما خبَت - يعني النار المتسلّطة على أبدانهم - ، زدناهم - يعني نفوس المعذبين - سعيراً ؛ فمعناه أن النار تغلب أولاً على بواطنهم ، ثم يسري العذاب بها إلى ظواهرهم . ويحتمل أن يكون المراد : كلّما خبت النار في ظواهرهم ، ووجدوا الراحة من حيث أبدانهم ، سلّط الله عليهم الفكرة في حالهم وعاقبتهم فيما كانوا فيه من الأمور التي لو عملوا بها ولم يعملوا بأضدادها ، لنالوا السعادة العظمى والغبطة الكبرى ، فيزداد بذلك عذابهم المعنوي ، أشدّ من حلول العذاب المقرون بتسليط النار المحسوسة على أجسادهم . ومنها : أنّ فعل المعاصي والشهوات واللذّات ، يولدها ويقوّيها ، وفعل التوبة يطفئها وينفيها ، ويفعل بها ما يفعله صبّ الماء على هذه النيران . ومنها : أنّها كما تستولي على الأجسام ، تستولي على النفوس أيضاً ، قال تعالى : { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ * ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } [ الهمزة : 6 - 7 ] . بخلاف نيران الدنيا ، فإنّها لا يبلغ أثر حرِّها إلى النفس ولا يتعدّى عن الجسد . فالنار الأخرويّة ناران - وإن كان تحت كل منهما أنواع كثيرة - : نار الله ، ونار الجحيم ؛ فأمّا نار الله ، فهي نار حرّها القطيعة من الله تعالى ، بها يعذِّب قلوب المنافقين والمحجوبين عن الحقِّ ، مع مُكنة استعدادهم لدرْكه ، كما قال : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } [ المطففين : 15 - 16 ] . وأما نار الجحيم ، فهي نار الشهوات والمخالفات على الغفلة والجهالات ، فهي تحرق الجلود ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] . ولا تخلص هذه النار إلى لب القلوب . وان عذاب حرقة الجلود بالنسبة إلى عذاب حرقة القلوب ، كنسيم الحياة وسموم الممات - كما قيل : @ ففي فؤاد المحبّ نار هوى أحرّ نار الجحيم أبردها @@ وقيل أيضاً : @ النار ناران : نارٌ كلها لهبٌ ونار معنى على الأرواح تطَّلع وهي التي ما لها سَفْعٌ ولا لَهَبٌ لكن لها الَم في القلب ينطبع @@ ومنها : أنَّ نار الدنيا نوع واحد لا يختلف في الحقيقة ، وله طبقة واحدة ، ونار الآخرة - كما سنشير إليه - ، أنواع كثيرة متخالفة الحقائق ، ولها طبقات سَبْع ، إلى كلّ منها باب على حِدة ، على عدد مشاعر الإنسان - الوهم ، والخيال ، والحواسّ الخمس - . وأبواب الجنَّة ثمانية ، يزيد عليها بواحد هو باب القلب - المغلَق على أكثر الناس ، سيّما الكفّار والمنافقين - ، وغيره من السبعة يقع الإشتراك فيه بين الطريقتين ، على شكل الباب الذي إذا فتح إلى طريق منزل ، انسدّ به طريق منزل آخر ، فعين غَلْقه لمنزل عين فتْحه لمنزل آخر . وأما أسماء أبوابها السبعة : فبابُ جهنَّم ، وبابُ الجحيم ، وبابُ السَّعير ، وبابُ سقَر ، وبابُ لَظى ، وبابُ الحُطَمَة ، وبابُ سجِّين ، والباب المغلَق - وهو الباب الثامن الذي لا يفتح الحجاب - . ومنها : أنّ طبقة من طبقاتها - وهي التي تسمّى سجِّين - ، كتاب مرقومٌ كما قال تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 8 - 9 ] . وليس شيء من هذه النيران كتاباً . ومنها : أنها تحوي على الأجسام الحارّة والباردة جميعاً ، وهذه النار يختصُّ احتواؤها بالجسم الحار ، دلّ على ذلك قوله تعالى : { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [ الطور : 6 ] وقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] . ومنها : أنّ اشتدادها وتسلّطها على أحد يلذّ وينفع له في الدنيا ، ويؤلم ويضرّ به في الآخرة ، كما أُشير إليه بقوله : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } [ المزمل : 11 - 13 ] . ومنها : أن موقد هذه النار هو جسم آخر كالإنسان ونحوه ، بحركاته وتحريكاته من تمويجه للهواء وغيره ، وأما مهّاد النار الأُخرويّة فهم ملائكة العذاب ، وسدَنة النيران باستخدام الله إيّاهم ، وهم على عدد معيّن عند أهل الإيمان واليقين ، كما قال تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] . { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً } [ المدثر : 31 ] . - إلى قوله - { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] . ومنها : أن هذه النار تحرق كلّما يلقى فيها من الكتب - سواء كان المكتوب فيها حقّاً أو باطلاً - ، بخلاف تلك النار ، فإنَّها تحرق كتاب الفجَّار فقط دون كتاب الأبرار ، إذ يمتنع عليها احراق كتاب أهل الحقَّ ، ويمتنع عليه أن يحترق ، لأنّ المرقوم فيه علومٌ باقيةٌ أبد الدهر ، لا تحرقها النار ، ولا يمحوها الماء . وفي الحديث : " لا يأكلُ محلَّ الإيمان الترابُ " . ومنها : أن هذه النار تحرق كل من ألقي فيها - مؤمناً كان أو كافراً - ، بخلاف النار الأخرويّة ، فإنّها لا تحرق جسدَ المؤمن ، بل تنطفي بوروده عليها ، كما ورد في الحديث : " إنها تقول : جُزني يا مؤمن فإنَّ نورَك أطفأ لهبي " . ومنها : أن الصراط ، الذي لا بد لكل أحدٍ من المرور عليه ليدخل الجنَّة ، هو واقع على متن نار جهنَّم ، بحيث وقوع الإنحراف والعدول عنه يقتضي الوقوع فيها ، إلاّ أن يعفو الله عنه ، بخلاف هذه النار ، إذ ليس الصراط واقعاً عليها ، ولا العدول عن الصراط يوجب الوقوع فيها . إلى غير ذلك من الخواصّ والمميّزات ، التي يمكن استفادتها والاستبصار بها من اقتباس أنوار الآيات القرآنيّة ، وأسرار الأحاديث النبويّة . وقيل : هي حجارة الكبريت ، وذلك تخصيص بلا دليل ، - بل فيه ما يدلّ على فساده - ، لأنّ الغرض هٰهنا تعظيم تلك النار ، والايقاد بحجارة الكبريت معتاد ، فلا يدلّ الايقاد بها على قوّة النار ، أما لو حملناه على سائر الحجارة ، دلّ على عِظَم أمر النار لأنها مطفيةٌ لنيران الدنيا ، ونار الآخرة تتعلَّق بها وتوقَد منها . إشارة : قال بعض أهل الكشف : إنّ النار مخلوقةٌ من صفة غضب الله ، ومن الاسم " المُنتقِم " ومن تجلّى قوله في حديث قدسيّ عنه : " جعتُ فلمْ تُشبعني ، وظَمأتُ فلم تَسقني ، ومرِضتُ فلم تعدني " وهذا أعظم نزول الحقّ ، فلذلك تجبَّرت على الجبابرة وقصمت المتكبِّرين ، وجميع ما يخلق فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فمن صفة الغضب الآلهي ، ولا يكون ذلك إلاَّ عند دخول الخلْق فيها ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ } [ طه : 81 ] . فإن الغضب هٰهنا عين الألم . وقال بعضهم : " وجميع ما تفعله النار بالكفّار من باب شكر المنعم وإنعامه ، حيث أنعم عليها بأنواع الوَقود والحطب ، فما تعرف منه سبحانه إلاَّ النعمة المطلقة التي لا يشوبها ما يقابلها ، والناس غالطون في شأن خلقها " . وسنزيدك بياناً إن شاء الله تعالى . فصل في الإشارة إلى كون نار الآخرة ذات حقائق متخالفة قال في الكشاف : " فإن قلت : أنار الجحيم كلّها موقَدةٌ بالناس والحجارة ، أم هي نيران شتَّى منها نارٌ بهذه الصفة ؟ قلت : بل هي نيرانٌ شتَّى ، منها نار توقَد بالناس والحجارة ، يدلّ على ذلك تنكيرها في قوله ؛ { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } [ الليل : 14 ] . ولعلّ لكفار الجنِّ وشياطينهم ناراً وَقودها الجنّ والشياطين ، كما إنّ لكفَرة الإنس ناراً وَقودها هم ، جزاء لكل جنس بما يشاكله من العذاب - انتهى - . أقول : قد تكلّم بكلامٍ حسنٍ في بابه يشبه كلام أهل الكشوف . وكأنّه مما أنطق الله بالحقّ لسانه ، وأجرى على وفْقه بيانه ؛ فإن التحقيق أنّ المُلِذّ والمؤذي لكلّ جنس هو ما يجانسه ويجانس آلة إدراكه ، فللبصر من باب المبصرات ، وللسمع من باب المسموعات ، وكذا للشمّ والذوق واللمس من أبوابها ، وللخَيال من بابه ، وللوهم من بابه ، وهذه الأبواب سبعة أجناس ، تحت كلّ [ جنس ] منها أنواع شتَّى ، وتحت كلّ نوع أفراد لا تحصى . ثمّ إنّه قد تقرّر في مقامه ، أنّ فعْل كل قوّة من القوى - حتّى الوهم والخيال - ، لا يتمّ إلا بحرارة تخصّ بها ، وهذه الحرارة ليست اسطقسيّة ، لأنّها حرارة غريزيّة ، والحرارة الغريزيّة فائضة من عالم السماء ، والأسطقسيّة بخلافها . فإذا تقرّر هذا ، فيشبه أن يكون قياس أفنان نيران الآخرة هذا القياس ، وكلّ نار لها وقود خاص ، ولكل وقود نار مخصوصة ، النوع للنوع ، والشخص للشخص ، فهي متعدّدة الأفراد التي فيها ، بل إنّها متعدّدة بتعدّد مدارك الشهوات والآلام ، متفنِّنة على حسب فنون المعاصي والآثام . بقي الكلام في أنّه سبحانه لِمَ قرن الناس بالحجارة ؟ فأكثر المفسرين وجَّهوا ذلك بأنّهم لمَّا قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث نحَتوها أصناماً ، وجعلوها لله أنداداً ، وعبَدوها من دونه ، فجمع الله بينهم وبينها في الآخرة بالعذاب والإلقاء في النار والإيقاد ، قال الله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . والقرآن مما يفسِّر بعضه بعضاً ، فهذه الآية مفسَّرة بتلك فـ { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] بمعنى { ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } ، و { حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] في معنى { وَقُودُهَا } ، وقد تأكّد هذا بما في الحديث : " حتّى أنّه لو أحبَّ أحدُكم حجَراً لحُشِر معه " . وقيل : المراد الذهب والفضّة التي كانوا يكنزونهما ويغترّون بها ، ويشحّون بها ويمنعونها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنَّم ، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم - فإنّ أصل المعادن من الأحجار - وعلى هذا ، لم يكن لتخصيص اعداد هذا النوع من العذاب وجه . وقيل : هي حجارة الكبريت ؛ وهو تخصيصٌ بغير دليل . وهٰهنا وجهٌ آخر : إن أدنى المركَّبات القابلة للانفساد هو الجماد ، وأعلاها رتبة هو الإنسان ؛ ففي الآية إشارةٌ إلى احتواء النار للجميع ، واستيلائها على الكلّ بذكر طرفيها الأقصيين ، وهما الأخسُّ والأشرف . وفي قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } - أي : هيِّئت لهم وجعلت عُدَّة لعذابهم - إشارة لطيفة [ إلى ] أن المقصود بالذات من خلق النار ، تعذيب الكفار لأنهم عُمّارها الباقون فيها أبداً ، لا يمكنهم الخروج عنها كما قال تعالى : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الأعراف : 40 ] . وكقوله : { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] . { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } [ فصّلت : 28 ] . وليس فيه اختصاص الكافرين بها ، بل يجوز أن يكون لغيرهم أيضاً دخولٌ فيها على التبعيّة كالأحجار وغيرها ، كما قال في الجنّة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين } [ آل عمران : 133 ] . لأن بناءَها على التقوى والطهارة عن الأدناس ، ومع ذلك يدخلها الأطفال والحيوانات ، والحور والغلمان ، والمجانين والنسوان . والجملة استيناف ، أو حال باضمار : " قَدْ " من " النَّار " ، لا من الضمير الذي في " وَقُودُهَا " ، وإن جُعل مصدراً لوقوع الفصل بينهما بالخبر . لمعة شرقيّة : قال أهل الإشارة وأصحاب البشارة : { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } يعني بالناس أنانيَّة الإنسان ، التي وقع بتعيّنها وخصوصيّتها والإحتجاب بها نسيان العهد القديم لله ، الجامع لجميع النعوت الإلهيَّة والتجليّات الربّانيّة ، كما أُشير إليه بقوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] . وبالحجارة - كالذهب والفضّة - وما يجري مجراهما من الأجساد المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة ، التي بها تحصل مرادات النفس وشهواتها ، وتميل اليها بالهوى عن الهدى . أقول : ويحتمل أيضاً أن يُراد بـ " الناس " ، أنانيّة الإنسان التي بها تعيُّنه الخاصّ ، أعني نفسَه المشعور بها دائماً ، ما دامت غير فانية عن ذاتها ، وبـ " الحِجارة " جسده المركّب من العظام الصلبة جمعاً بين النفس والبدن في العذاب - عذاب نار القطيعة للقلوب ، وعذاب نار الجحيم للجلود - . أو يراد بها مادة قلبه القاسي ، المشارك لسائر الأحجار في الجسميّة والكدورة والصلابة ، كما في قوله [ تعالى ] : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ } [ البقرة : 74 ] … وعلى أيّ الوجوه الثلاثة ، فكلّ من الناس والحجارة وقود نار على حدة من نيران الآخرة . ولا يظنّن أحدٌ ، أن مثل هذه التحقيقات يدلّ على إبطال ما هو المفهوم من ظاهر الآية ، وإهمال ما قاله العلماء ، - كلاَّ - ، ولكن تصديقاً لقوله عليه وآله السلام " إنّ للقرآنِ ظهْراً وبطْناً " ، فظاهره دالّ على ما فسَر به العلماء الظاهريّون ؛ وباطنه على ما حقَّقه وتحقَّق به المحقّقون المحقُّون بالكشف ، بشرط أن يكون موافقاً للكتاب والسُنَّة ، ويشهدان عليه بالحق ، فإنّ كلّ دعوى لم يشهد عليه واحدٌ منهما ، فهو من تفاريع العبَث والجزاف ، وشعب الفسوق والكفر والخلاف . تتميم : وقد بقي هٰهنا سؤالات : أحدها : إن إنتفاء إتيانهم بسورة معلوم حتم ، فهلاّ جيءَ بـ " إذا " الذي للوجوب ، دون " إن " الذي للشكّ ؟ والجواب بوجهين : الأول : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم ، وأنّهم كانوا بعد غير جازمين بالعجز عن المعارضة ، لاتكالهم على فصاحتهم واقتدارهم [ على الكلام ] . الثاني : أن يتهكّم بهم ، كما يقول الموصوف بالقوّة ، الواثق من نفسه عمن يقاومه : " ان غلبتك لم أَبْقَ " وهو يعلم انه غالبه - تهكماً به - . وثانيها : لِمَ قال : " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ " ولم يقل : " فإن لم تأتوا بسورةٍ من مثْله " ؟ الجواب : لأنّ هذا أخصَر . وثالثها : ما حقيقة " لَنْ " في باب النفي ، وما أصله ؟ الجواب : قد مرّ معناه . وفي أصله ثلاثة أقوال : ألف - : أصله " لا أن " وهو قول الخليل . ب - : " لا " أبدلت ألفها نوناً ؛ وهو قول الفرّاء . ج - : حرف ينتصب ، لتأكيد نفي المستقبل ؛ وهو قول سيبويه ، وإحدى الروايتين عن الخليل . ورابعها : ما معنى اشتراطه في اتّقاء النار انتفاء اتيانهم بسورة من مثله ؟ والجواب : إذا ظهر عجزهم ، صحّ عندهم حقيَّة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في دعوى الرسالة ، وإذا صحّ ذلك ثمّ لازَموا العناد والإنكار والاستكبار ، استوجبوا العقاب بالنار ، فاتّقاء النار يوجب ترك العناد والحسد واللداد ، فوضع " فَاتَّقُوا النَّارَ " موضع " فاتركوا العناد " للتلاصق بينهما والتلازم ، لأنّ متّقي النار تارك المعاندة والإنكار ، فأنيب منابه وأبرز في صورته ، منضمّاً إليه تهويل صفة النار ، وتفظيع شأنها في الإحراق والإحماء . وخامسها : صلة " الذي " وأخته يجب أن يكون حُكْماً معلوماً ، فكيف علِم أولئك أن نار الآخرة توقَد بالناس والحجارة ؟ والجواب : ليس يبعد أن يتقدم لهم [ بذلك ] سماع من أهل الكتاب ، أو قرع سمعهم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أو سمعوه قبل هذه الآية في سورة التحريم من قوله تعالى : { نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [ التحريم : 6 ] . لأنّها مكيَّة وهذه مدنيَّة . وسادسها : فلِمَ جاءَت النار الموصوفة بهذه الجملة هناك منكَّرة ، وهٰهنا معرّفة ؟ الجواب : لسبق المعرفة هٰهنا بوقوع الجملة صلة هناك ، فيجب أن تكون قصّتها معلومة هٰهنا دون هناك ، لأن تلك الآية لمّا نزلت بمكة - زادها الله شرفاً وتعظيماً - فعرفوا منها ناراً موصوفة بهذه الصفة ، ثم نزلت هذه بالمدينة المنوّرة مشاراً بها إلى ما عرفوه أولاً .