Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 28-28)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكَر الله سبحانه دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ، أراد أن يشير إلى أن الفاعل والغاية معاً في وجود الإنسان هو ذاته تعالى ، فقوله : { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } إشارة إلى بداية أحوال الإنسان ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إشارة إلى نهاية حاله وعاقبة أمره . و " كَيْفَ " في الأصل ، سؤال عن الكيفيّة والحال ، كما يتّضح ذلك في الجواب ، فإنّك إذا سألت أحداً : " كيف رأيت زيداً ؟ " فيقول : مسروراً ، أو مهموماً ، وما أشبههما من الأحوال ، فـ " كَيفَ " سؤال عن الحال ، فيجاب عنه بكل ما يليق من الأحوال ، كما أن " كَمْ " سؤال عن المقدار والعدد ، و " مَا " سؤال عن تمام الماهيّة ، و " أيٍّ " عن المميّز الذاتي أو العرضي ، و " مَنْ " عن حقيقة الشخصيّة إن كان من العقلاء ، و " أيْنَ " و " مَتىٰ " عن نسبة زمانه ومكانه - وهذه الاستفهاميّات - . " كَيْفَ " قد يجيء للتوبيخ والإنكار ، فكيف هٰهنا مثل " الهَمزة " في قوله : " أَتكْفُرُونَ بِاللهِ " ، والفرق بينهما بأن الهمزة إنكار لأصل الفعل ، وكيف ؛ إنكار للحال التي يقع عليها الفعل ، لكن حال الشيء تابعة لأصله وذاته ، فإذا امتنعت امتنع ، واذا جاز جازت ، فيكون إنكار حال الكفر التابع لأصله الرديف لذاته على سبيل الكناية أبلغ وأقوى ، لأنّه بيان للشيء ببرهانه . فإنّك إذا نفيت كلّ صفة يوجد عليها " زيد " ، فقد نفيت وجود زيدٍ بوجه برهانيّ ، فيكون آكد وأقوى من انكار وجوده لا بيِّنة ، وذلك لأن وجود الشيء بلا صفة من الصفات ، وحال من الحالات ، ممتنع . فثَبت ممّا ذكر أن : " كيفَ تكفُرون " أبلغ في إنكار الكفر من : " أتكفُرون " ، وأوفق بما بعده ، وتقديره " أمتعلّقين بحجّة وملابسين ببرهان تكفرون بالله ؟ " فيكون { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } وما بعده منصوب الموضع على الحال ، والعامل فيه " تكفُرون " أي : تكفرون عالِمين بهذا البرهان ، فيكون من قبيل وضع الحدّ موضع المحدود ، ووضع الشيء مكان عنوانه واسمه . وبهذا يندفع ما أورد عليه ، من أن الحال يجب أن يكون وجوده مع وجود ما يقيّد به ، وهٰهنا ليس كذلك ، فإنّ الكفر حاضرٌ لهم ، وكونهم أمواتاً ماضٍ ولا يجدي نفعاً . الجواب عنه : بأنّ الواو الحاليّة لم تدخل على " كُنتُم أمواتاً " فقط ، بل على جملة الكلام إلى قوله : " تُرجَعُون " ، أي : كيف تكفرون وقصّتكم وحالكم هذه أنكم [ كنتم ] كذا وستصيرون كذا . لأن بعض القصّة والحال ماضٍ ، وبعضها مستقبل ، وكلاهما لا يصحّ وقوعهما حالاً ، إذ المركّب من الفائت المنقضي والغائب المنتظر ، لا يكون موجوداً حاضراً ، نعَم ، العلْم بهذه القصّة موجود حاضر ، فكأنّه قيل : كيفَ تكفرون وأنتم عالِمون بتمام هذه القصّة من بدوّها إلى غايتها . فقد رجع إلى التوجيه الذي سبق ذكره ، من أنّكم كيف تكفرون ملابسين بما يبرهن به على إثبات المبدء والمعاد . أي : ما أعجب كفركم في جميع أحوالكم مع علمكم بحالكم ومآلكم . لا يقال : علمهم بما سبق من كونهم أمواتاً فأحياهم ثم أماتهم ، لم يتّصل بما لحقهم من الإحياء الثاني والرجوع ؟ لأنّا نقول : ضَرْب من العلم بهما حاصلٌ بكلِّ أحدٍ وإن عاندوا وجحَدوا ، ومع قطع النظر عن ذلك ، تمكّنهم من العلْم بهما بحسب ما نصَب الله لهم من الدلائل الموصلة إليه ، وكثرة شهادات المخبرين من الأنبياء والأولياء عليهم السلام عنهما ، يجري مجرى علْمهم في إزاحة العذر ، سيّما وفي الآية تنبيهٌ على ما يدلّ على صحّتهما وهما أمران : أحدهما : إن الله لمّا قدِر أن أحياهم أولاً ، قدِر أن يحييهم ثانياً ، فإنّ إبداء الخلْق ليس بأهون من إعادته ثانياً . وثانيهما : إنه لو لم يكن للإنسان بقاءٌ أخرويٌ ، لكان وجود العقل فيه ، والقدرة على استخراج العلوم الحقيقية بالأنظار ، والتمكّن من كسب المعاني العقلية المتعقلة بمعرفة الله وذاته وصفاته بالأفكار ، عبثاً وهباءً ، والحكيم لا يفعل العبَث ، وغاية المعرفة والعلم يمتنع أن يكون في هذا العالَم ، لأنّ كلّما يوجد في هذا العالَم ، يكون من قبيل المحسوسات ، والمحسوس - بما هو محسوسٌ - لا يكون غايةً للمعقول ، لأنّ الغاية أبداً تكون أشرف من ذي الغاية . فصل [ تحقيق في الموت والحياة ] قيل : إنّ الخطاب كان إمّا مع الذين كفروا ، لمّا وصفهم الله بالكفر وسوء المقال وخبْث الفعال ، خاطبهم على طريقة الالتفات ، ووبّخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك . وإمّا مع الطائفتين جميعاً ، فإنّه لما بيَّن دلائل التوحيد والنبوّة ، ووعدهم على الايمان وأوعد على الكفر ، أكّد ذلك بأن عدّد عليهم النعم العامّة والخاصّة ، واستقبح صدور الكفر منهم ، واستبعد عنهم مع تلك النعم العظيمة ، فإنّ جلالة النعمة تقتضي زيادة الشكر ، وبازائها عظم العقوبة على عصيان المنعِم ، فمن هذا الموضع إلى قوله : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] في شرح النعم التي عمّت جميع المكلّفين ، وفي ضمنها ما يختصّ بالخواصّ . لا يقال : كيف يعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر ؟ لأنّا نقول : لمّا كانت وصلة إلى الحياة الأبديّة كانت نعمة عظيمة . وأمّا مع المؤمنين خاصّة لتقرير المنّة عليهم ، وتبعيد الكفر عنهم على معنى : كيف يتصوّر منكم الكفر وكنتم جهّالاً فأحياكم الله بما أفادكم من نور الإيمان واليقين ؟ على طباق قوله : { أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [ الأنعام : 122 ] . ثمّ يميتكم الموت المعروف ، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقيّة ، ثمّ إليه ترجعون [ فيثيبكم ] بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطرَ على قلب بشر . واعلم أنّهم ذكروا وجوهاً في الموت والحياة المذكورتين في هذه الآية مرّتين . فعَن قتادة : إنّهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم - يعني : نُطَفاً - ثم أحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بدَّ منها ، ثمّ أحياهم بعد الموت في الآخرة . وعن ابن عباس وابن مسعود : إنّ معناه لم تكونوا شيئاً فخلَقكم ، ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم يوم القيامة . وقيل : معناه { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً } يعني خاملي الذكر { فَأَحْيَاكُمْ } بالظهور { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند تقضّي آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } للبعث . والعرب تسمي كل أمر خاملٍ " ميّتاً " وكلّ مشهور " حيّاً " . قال : @ فأحييت من ذكري وما كان خاملاً ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض @@ والوجه الرابع : إنّ معناه : كنتم نطَفاً في أصلاب آبائكم وبطون أمّهاتكم - والنطفة موات - فأخرجكم إلى دار الدنيا { فَأَحْيَاكُمْ ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [ في الدنيا { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القبر للمسائلة { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يبعثكم يوم الحشر للحساب والمجازاة على الأعمال . وسمّي رجوعاً إليه ، لأنّه رجوع إلى حيث لا يتولّى الحكم فيه أحد غير الله ، كما يقال : " رجَع القوم إلى الأمير " أي أَمْرُ القوم إلى حكمه . فهذه هي الوجوه التي ذكرها علماء التفسير ، وسيأتيك كشف بعض ما فيها . والوجه في كون العطف الأول بـ " الفاء " والثواني بـ " ثمّ " ، لأنّ الأول متّصل بما عطف عليه غير متراخٍ عنه بخلاف الأعقاب . وتقديم نعمة الحياة في الذكر على سائر النعَم المذكورة ، لتقدّمها طبعاً ، ولكونها ما يتمكّن به الإنسان من الانتفاع والالتذاذ بغيرها . ثمّ إنّ الإتّفاق ، مع أنّه قد وقع على أنّ المراد من قوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } إمّا التراب - كما في خلق آدم أبي البشر - ، وإمّا النُطَف - كما في خلْق أولاده ما خَلا عيسى عليه السلام - ولكن اختلفوا في أن اطلاق اسم الميِّت على الجماد حقيقةٌ أو مجازٌ ؟ والأكثرون على أنّه مجاز ، لأنّه شبّه الموات بالميّت ، لأن الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يقبل الحياة بما فيه من اللحمية والرطوبة ، والحمل على الحقيقة أولىٰ ، كما دلّ عليه ظاهر هذه الآية وغيرها ، إذ لا داعي للعدول عن الحقيقة ، وأمّا القوة المأخوذة في أعدام المَلَكات ، فهي قد تكون بحسب الجنس ، كما في عمى العقرب ، فجنس الجماد والنبات - وهو الجسم الطبيعي - فيه قوّة قبول الحياة . واعلم إن الحياة في المشهور عند الجمهور ، حقيقة في القوّة الحساسة أو ما يقتضيها ، وبها سمّي الحيوان " حيواناً " ، وتطلق على القوّة النامية مجازاً ، لأنّها من طلائعها ومقدّماتها ، وعلى ما يختصّ بالإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والايمان من حيث إنه غايتها وكمالها . والموت بإزائها يطلق على ما يقابلها في كلّ مرتبة ؛ قال تعالى : { قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [ الجاثية : 26 ] . وقال : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] . وقال : { أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] . وإذا وُصف بها الباري سبحانه ، أريد بها صحّة اتّصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا ، أو معنى قائم بذاته يقتضي ذلك . هذا ما ذُكر - والحق أن الحياة ليست مما تخصّ حقيقتها للقوّة الحسّاسة التي في هذه الحيوانات أو مبدئها فقط - كما توهّم - ، بل لكلّ شيء حياة تخصّه بها يسبّح الله ويمجّده ، وبإزائها موت ، هو عدم تلك الحياة عنه كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . وذلك لأنّ لكلّ شيء وجوداً يخصّه ، به ينفعل عمّا فوقه ويفعل فيما دونه ، وهذا الانفعال والفعل في هذه الحيوانات ، هو الإحساس والتحريك ، وفي الإنسان هما التعقّل والرويّة ، وفي النباتات ، هما التغذّي والتوليد ؛ وهكذا القياس فيما علا وما سفل ، حتى يرجع في إحدى الحاشيتين الفِعْلُ إلى الانفعال كما في الهيولى ، وفي الأخرى بالعكس ، لأنّه محْض الوجود والفعليّة . وأصل جميع الموجودات كلها هو الله ، من اسمه " النور " ، فهو نورٌ ما علا - وهو السماء - وما سفل - وهو الأرض - ، فتأمّل في إضافة النور اليهما في قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] . وجميع الأجسام عند أهل اكلشف شفّافة نوريّة ، حتّى الأرض مع كثافتها ، فإنّها مثل الزجاج الصافي ، إذا خلصتْ وصَفَتْ من كدورة رمْلها تعود شفّافة ، ومن هذا الباب ، أكوان الجلي من الأحجار والنيران الكامنة فيها وفي الأشجار . وهٰهنا دقيقة ، وهي أن أجزاء الأرض تتحرك وتستحيل إلى النبات ، والنبات في استكمالاته يتوجّه إلى غاية هي وجود اللبوب ، وما من لُبٍّ إلاّ وله دُهنٌ فيه نور بالقوّة ولولا النورية التي في الأجسام الكثيفة ، ما صحّ للمكاشف أن يكشف ما خلْف الجدران ، ولا كان قيام الميّت في قبره ، والتراب عليه لا يمنعه من كشف أحواله ، وإن كان الله قد أخذ بأبصارنا عنه ويكشفه المكاشِفُ مِنّا . وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة ، ومن خواصّ الهدهد المذكور في قصّة سليمان - على نبيّنا وآله وعليه السلام - ، أنّ الأرض شفّافة في نظره ، فيرى مواضع العيون تحتها . أوَما سمعت أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يدرِك ما خلْف حجاب ظهره ، كما كان يدرك أمامه ، ولم يحجبه كافّة عظم الرأس وما يحويه من العروق والعصَب والمخّ وما عليها . والسرّ في سريان نور الحياة فيها وفي سائر الأجسام ، أن أول موجود أوجده الله هو القعل ، وهو نور إبداعي إلهي ، وأوجد عنه النفس - وهي دون العقل في النوريّة - ومنه الطبيعة ، ومنها الجسم ؛ وهذه بسائط أجناس العالَم ، وما زالت الأشياء تكشف حتى انتهت إلى الأركان والمواليد ، ولمّا كان لكل موجود وجهٌ خاصّ إلى موجده - وهو الله - ، كان سرَيان نور الحاية فيه ، ولمّا كان له وجهٌ إلى سببه ، كان فيه من الظلمة والكثافة والعدم والموت . فتأمل إن كنت عاقلاً ، فلهذا كان الأمر كلّما نزل أظلم وأكثف ، فأين منزلة الأرض من منزلة العقل . ثم لا يخفى على المحقق ، أنه قد ثبت في مقامه أنّ لكلّ نوع جسماني صورة مفارقة منه موجودة في عالم الملكوت الأعلى الربّاني ، وفي علم الله ، وهو اسم من أسمائه وهو مدبّر لهذا النوع ذو عناية [ به ] ، وهو بالحقيقة لسانه عند الله بالتسبيح والتقديس ، وهو سمعه وبصره ، وبه حياته ، فكلّ جسم حيّ عند التحقيق . إشارةٌ وتنبيهٌ : قال بعض المحقّقين من أهل الكشف في هذه الآية : " إنّه لمّا كان الموت سبباً لتفريق المجموع ، فمعناها كنتم متفرّقين في كلّ جزء من عالَم الطبيعة فجمَعكم وأحياكم ، ثم يُميتكم ، أي يردّكم متفرقين ، أرواحكم مفارقة لصور أجسادكم ، ثمّ يحييكم الحياة الدنيا ، ثمّ إليه ترجعون بعد مفارقة الدنيا ، وإن الله سيذكّر عباده يوم القيامة بما شهدوا به على أنفسهم في أخذ الميثاق ، فيقولون : { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] . فطَلبوا من الله أن يمنّ عليهم بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا ما يورثهم دار النعيم . وحين قالوا هذا ، لم يكن الأمد المقدّر لعذابهم قد انقضى ، ولما قدّر أن يكونوا أهلاً للنار ، وأنّه ليس لهم في علم الله دارٌ يعمرونها سوى النار ، قال [ تعالى ] : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . حتى يدخلوا النار باستحقاق المخالفة ، إلى أن يظهر سبق الرحمة الغضب ، فيمكثون في النار مخلّدين لا يخرجون منها أبداً على الحالة التي قد شاء الله أن يقيمهم عليها ، وفيها يردّ الله الذريّة إلى أصلاب الآباء ، إلى أن يخرجهم الله إلى الحياة الدنيا على تلك الفطرة ، فكانت الأصلاب قبورهم إلى يوم يُبعثون من بطون أمّهاتهم ، ومن ضلع آبائهم في الحياة الدنيا ، ثمَّ يموت منهم من شاء أن يموت ، ثمّ يبعث يوم القيامة كما وعد " - انتهى ما ذكره . أقول : إنّ في كلامه أموراً تُخالف الظاهر ينبغي التنبيه عليها : منها : أن كون أفراد البشر في صورة الذرّ عند عهْد الميثاق ، عبارة عنده عن الأجزاء الصغيرة المتفرّقة في أطراف العالم ، الحاضرة في علم الله أنّها ستصير أحياء بواسطة اقتران الأرواح الإنسانيّة بها . ومنها : أن الحياة الثانية تكون في الدنيا أيضاً كما دلّ عليه قوله : { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، وهذا ممّا يدل بظاهره على تناسخ الأرواح ، إلاّ أن تُحمَل الحياة الأولى المشار إليها بقوله : " فَجمَعكُم وأحْيَاكُم " على الحياة الحيوانيّة التي تكون للجنين قبل تعلّق النفس الناطقة بالبدن ، والموت الذي بإزائها ، انتقال البدن من الحيوانيّة إلى الإنسانيّة ، وهذا ليس بتناسخٍ مستحيل . ومنها : أنّ الصوفيّة وإن كانوا قائلين ببطلان التناسخ ، لكنّهم جوّزوا بروز بعض الأرواح في بعض الأشباح ، بواسطة اتّصال روحه بذلك الروح ، فعليه يحمل ما يشعر بالتناسخ في هذا الكلام ، لئلاّ يقع من أحد سوء ظنٍّ بهذا الشيخ العظيم . ومنها : إنّ ضلْع الآباء وبطون الأمّهات في كلامه ، إشارة إلى جهتي الفاعليّة والقابليّة ، بأنّ الضلْع الأيسر من الفاعل ، إشارة إلى الجنبة السافلة التي بها يفعل فيما تحته ، كما أنّ الضلْع الأيمن منه ، هو الجنبة العالية التي بها ينفعل عما فوقه ، وبطن الأمّ عبارة عن القوّة الاستعداديّة التي للقابل ، لأنّ القوّة أمرٌ عدميٌّ منشأه صفة وجوديّة ، فكأن القابل أمر ذو تجويف كبطن الأمّ ، فضلْع الأب وبطن الأمّ استعارتان لطيفتان لذينك المعنيين . تذكرةٌ فيها تبصرةٌ [ خلْق الأعمال ] ذكَر صاحب التفسير الكبير من المعتزلة وجوهاً دالّة على أنّ الكفر من قبَل العباد ، ولم يقدر على حلّها لصعوبتها ، بل أجاب عنها بوجهين جدليّين . أما الوجوه فأحدها : إنّه تعالى لو كان هو الخالق للكفر ، لما جاز قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } موبِّخاً لهم ، كما لا يجوز أن يقول : " كَيف تسودّون وتبيضّون وتسقمون وتصحّون ؟ " لأنّ الجميع من خلْقه . وثانيها : إذا كان خلَقهم أولاً للشقاء والنار ، وما أراد منهم إلاّ الكفر ، فكيف يوبّخهم عليه ؟ وثالثها : كيف يليق بالحكيم ايجاد الكفر فيمن يقول لهم : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } توبيخاً ، ومنع الايمان عمن يقول في حقّهم : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ } [ الإسراء : 94 ] . { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الإنشقاق : 20 ] . وأنّى يصحّ أن يقول : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدّثر : 49 ] . { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ يونس : 34 ] . و { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] . وهو يخلق فيهم الإعراض والإفْك والصرْف ، لأنّه ممّا يشبه السخريّة دون الحكمة أو الإلزام . ورابعها : إن الله إذا قال للعبيد : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } احتجاجاً عليهم ، فلهم أن يقولوا : حصلت في حقّنا أسباب كثيرة موجبة للكفر ، أوّلها قضاؤك النافذ الحتْم . وثانيها : قدَرك اللازم . وثالثها : إرادتك . ورابعها : خلْقك الكفر فينا ، وخامسها : خلَقتَ فينا قدرة عليه . وسادسها : إرادة موجبة له . وسابعها : حركة متوجّهة إليه والايمان أيضاً يتوقف على نظائر هذه الأسباب السبعة - وهي كلّها مفقودة - ، فقد حصَل لعدم الايمان أربعة عشر سبباً ، كلّ منها مستقل بالمنع عن الايمان ، فمع قيام هذه الأسباب الكثيرة ، كيف يعقل أن يقال : كَيفَ تكفُرون ؟ وخامسها : إنّه تعالى قال : كيفَ تكفُرون بالله الذي أنعَم عليكم هذه النِعم العظيمة مثل الحياة وما قبلها وما بعدها ؟ وعلى قول الجبريّة لا نعمة له عليهم ، لأن كلّ ما فعَله بهم ، كان لاستدراجهم وسَوْقهم إلى النار جبراً وقهراً . وهذا كمن قدّم إلى رجل صحفة فالوذج مسموم ، فإنّ ظاهره وإن كان لذيذاً ويعدّ نعمة ، لكن عند التحقيق ، لا يعدّ نعمة لكونه مهلكاً ، ومعلوم أن العذاب الدائم أشدّ ضرراً من ذلك السمّ ، فلا يكون لله نعمة على الكافر ، فكيف يقول لهم : كيفَ تكفرون بمن أنعم عليكم هذه النِعم العظيمة . وأما الجوابين اللذين ذكرهما : أحدهما : إن هذه الوجوه يرجع إلى التمسّك بالحسن والقبح ، والثواب والعقاب ، فنحن أيضاً نُقابلها بأن الله علم أنّه لا يكون ، فلو وُجد لانقلَب علمُه جهلاً - وهو محالٌ ، ومستلزم المحالِ محال الوقوع - مع أنّه قال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } . وثانيهما : إن القدرة على الكفْر ، إن كانت صالحة للإيمان ، امتنع كونها مصدراً له إلاّ لمرجّح ، وذلك المرجّح ، إن كان من العبد ، عاد السؤال ، وإن كان من الله ، امتنع حصول الكفر ؛ وإذا حصل ذلك المرجّح وجب ؛ وعلى هذا كيف يعقل قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُون } ؟ قال : " واعلم أن المعتزلي إذا طوّل في الكلام ، وفرّع وجوهه على المدح والذمّ ، فعليك بمقابلتها بهذين الوجهين ، فإنّهما يهدما جميع كلماته ، ويشوّشان كلّ شبهاته " . أقول : قد ظهر وتبيّن مراراً حالُ هذه المسئلة ، وهي في غاية الوضوح والتنقيح والإنارة عند من جعله الله أهلاً لها ، وجعل له نوراً يمشي به في الظلمات ، وشرح صدره بنور الإسلام : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] . وهذا الفاضل متحيّر شاكّ في هذه المسئلة ، ولم يتنقّح له بعدُ وجه صحتها ، ولذلك قال في موضع : " إنّ القول باثبات الصانع الإله يلجيء إلى القول بالجبر ، لأنّ الفاعليّة لو لم تتوقّف على الداعية ، لزم وقوع الممكن من غير مرجّح - وهو نفي الصانع - [ ولو توقّفت لزم الجبر ] ، واثبات الرسول يُلجيء إلى القول بالقدَر ، لأنّه لو لم يقدر العبد على الفعل ، فأيُّ فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتُب ؟ أو نقول : لمّا رجعنا إلى الفطرة السليمة ، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجّح أحدهما على الآخر إلاّ لمرجّح - وهذا يقتضي الجبْر - ، ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان وسكَناته ، وبين حركات الجمادات والحركات الاضطراريات ، وهذا يقتضي مذهب الإعتزال ، فلذلك بقيَت هذه المسئلة في حيِّز الأشكال " - انتهى . ومَن كان هذا حاله في مثل هذه المسئلة التي هي إحدى قواعد الايمان ، وعليها مبنى كثير من المقاصد التي يضرّ الجهل بها للإنسان ، فمعلوم من حاله أنّه متحيّر في جلّ المقامات اليقينيّة - بل كلّها - ، فما الفائدة له في تكثير التصانيف وتطويل المباحث والأقاويل ، ونحن نعلم يقيناً أن الله لم يجعل طلب العلوم والمعارف مركوزاً في جِبِلّة الخلق إلاّ لغاية يترتّب عليها ؛ هي تنوير القلوب بأنوار المعارف ، وتنجية النفوس عن ظلمات الجهالات ، وسياقها إلى دار القدس والكرامة ، ولأجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب . وفي الحديث : " مَنْ أخلَصَ للهِ أربعينَ صباحاً ظهرتْ من قلبِه على لسانِه ينابيعُ الحكمة " وقد سمّى الله نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) نوراً وهادياً ، وجعَل كتابه نوراً وهُدى في قوله : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15 - 16 ] . وقال : { ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ المائدة : 88 ] . فمن حاول العلم مدّة مديدة وصرف عمره في تحصيله ، ثمّ لم يكن على بصيرة ، ولم يأت بحاصل ، ولم يرجع إلى طائل ، فضلّ سعيُه في الحياة الدنيا وماله في العلم واليقين نصيب . فذلك لأنّه لم يكن مخلِصاً لله في كسبه وتحصيله ، طالباً لمرضاته في طلبه وسعيِه ، بل كان سعيه لهوى النفس وحبّ الدنيا ، وتحصيله لطلب الترفّع على الأقران ، وبسط الاشتهار والصيت في البلدان ، وكونه مشاراً إليه بالأنامل ، معدوداً من الأكابر والأماثل . هذه غاية قصودهم ، وفيه صرف مجهودهم ، ولذا وصَلوا إليها في الأكثر ، وحرموا من جدوى العلْم ، محجوبين يومئذ عن النعيم الأنور ، محرومين من أشعّة أنوار الله يوم العرض الأكبر . وأما اندفاع الشُبَه التي ذكرها من طريقة أهل الاعتزال ، ففي غاية السهولة عند اللبيب المتفطّن بما مضى من المقال ، أو العارف الواقف بأسرار الحقيقة بنور الأحوال ، فإنّ تلك الشبه مقتضاها نسبة الكفر والمعاصي إلى إرادة العبد واختياره ، وهي حقٌّ وصدق . كيف - ولو لم يكن للعبد إرادة وقدرة ، لم يمكن توجيه الأمر والنهي والوعد والوعيد ، ولا طلَب الخير والتحرّز عن الشر ، ولا فائدة في الدعاء والعبادة والرياضة ، وكسف العلوم والآداب ، لكن كل ذلك عند التحقيق لا ينافي الجبر ، بل الإنسان في عين اختياره مجبور ، كما ورد في حديث الصادق ( ع ) : " لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين " . وليس معناه - كما زعمه أكثر من نظر في هذا الحديث - أن للعبد حالة بين الجبر والتفويض خارجاً عن حقيقتهما ، كما أنّ الفلك لا حارّ ولا بارد ؛ ولا أن له حالة ممتزجة عنهما متوسّطة بين كمال كل من طرفي الجبر والتفويض ، كالماء الفاتر الممترج من مائين منكسِري السَوْرَتَين ، يقال له : " لا حارّ ولا بارد " ، إذ ليس شيء منهما هو المقصود من هذا الحديث - لا ذاك ولا ذا - بل إن اختيار الإنسان عين اضطراره ، وجبره عين تفويضه ؛ فهو مضطرٌّ في عين الاختيار ، ومختارٌ في عين الجبر ، لأن لكلّ شيء صفة لازمة هي كماله الثاني ، وهو صورة كماله الأ , ل الذي به قوام ذاته - كالحرارة للنار ، والبرودة للماء واليبوسة للأرض ، والرطوبة للهواء - وصفة الإنسان في هذا العالم - وما يجري مجراه من الحيوان ، هو الاختيار لمالَه أن يفعل بهذا الاختيار بالنسبة إلى الإنسان . فعلى هذا - فالجواب عمّا ذكروه أولاً بالمنع عن قولهم : " لِمَ تكفُرون ؟ " بمنزلة : " لِمَ تسودّون ؟ " وذلك لأنّ الكافر الأسود ، ليس في اسوداده مختاراً في عين الإجبار كما في كفره ، فإنّ كفره وقع باختياره ، بخلاف سواده . وعما ذكروه ثانياً : إنّ الله لم يرد من عباده أولاً وبالذات الكفر - بل ثانياً وبالعرض - كما قال : { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] . وقوله : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] . فقد ثبَت بالحكمة إن الخير برضاه وقضاه جملةً وتفصيلاً ، والشرّ بقضائه جملة وبقدره تفصيلاً ، فالإرادة الأوليَّة الرضائيّة تؤدي إلى الخير الكلّي والنظام الأعلى بالقياس إلى العوالِم كلّها بحسب الأنواع ، والإرادة الثانويّة القدريّة الجزئيّة تؤدّي إلى الخير والسعادة لطائفة بالقياس إلى عالَم ، وإلى الشرّ لطائفة أُخرى بالقياس إلى عالَم آخر ، كما في الحديث الإلهي : " هؤلاء للجنّةِ ولا أُبالي ، وهؤلاءِ للنارِ ولا أُبالي " وقوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 118 - 119 ] . وأمّا التوبيخ والتخويف والزجْر والايعاد وما يقابلها - من التحسين والنصيحة والتعظيم والبشارة والوعد وغير ذلك - فهي من جملة الأسباب القدريّة ومن المهيّجات للدواعي والأشواق ، والبواعث على الأغراض والحركات كسائر الأمور القدريّة الواقعة تحت الأسباب القريبة التي للاختيار فيها مدخل - كما مرّ مراراً . وأمّا عما ذكروه ثالثاً : فبأنّ هذه الأفعال - كالكفر والإفك والصَرْف والإعراض - لها وجهان : وجهٌ إلى الأسباب والدواعي الكلّية العالية ، ووجهٌ إلى الدواعي والأسباب القريبة ، كإرادة العبد وقدرته وشوقه وداعيته ، سيّما قدرته التي يتساوى بالنسبة إليها الطرفان . فالسؤال بكَيفَ ، ولِمَ وأيْنَ وأنَّى ، وبسائر الكلمات الإستفهامية عمَّن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماء والأرض ، ولا يخرج عن قدرته وسلطانه شيء من عالَمي المُلك والملَكوت ، إنّما يكون بالقياس إلى الأسباب القريبة المكتنفة بفعل العبْد ، وبالنظر إلى العلوم الحادثة الزمانيّة المتجدّدة حسب تجدّد ، الأحوال والآجال ، والأمكنة والأوضاع ؛ وأما بالقياس إلى ذات الله القيّوم ، وعلمه المحيط بالكلّ ، فلا كيْفَ ولا أيْنَ ولا متىٰ ولا وضْعَ ولا لِمَّية ، لأنّ هناك اضمحلّت الكثرات ، وطاحت الأيون والإشارات ، وهلكت الأوضاع والكيفيّات ، فيصير الكلّ كَلا شيء ، والأمكنة تتضاءل من قهره كنقطة واحدة ، والازمنة تنزوي بعضها إلى بعض من سطوته وهيبته ، فتصير كآن واحد . وأما عن الرابع : فبمثل ما وقع الجواب عن شُبه إبليس المذكورة عنه ، المنسوبة إليه في شرح الأناجيل الأربعة ، فإنّه قد ذكر هناك : " قد أوحى اللهُ إلى ملائكته عليهم السلام قولوا له : إنّك غير صادق فيما تقول : ولا مخلِص ، إذ لو صدقت أنّي إله العالمين ، ما تحكمت علي بلِمَ " . فهٰهنا أيضاً نقول : لو علِم - هذا المفروض كافراً - أن علْم الله وإرادته وقدرته ومشيئته وقضاءه وقدَره وخلقه ، هي جاريةُ في هذا العالَم ، حاكمة على كلّ شيء ، وأن الله تعالى لا رادّ لحكمه ، ولا مهرَب من قضائه وحكومته ، ولا مُنجي من سطوته ولا ملجأ من سلطانه ، فلم يكن هذا المفروض كافراً كافراً ، بل مؤمناً حقّاً ، فإن من علِم كيفيّة جريان إرادة الله وقضائه في عالَمنا هذا بوجْه عقليّ برهانيّ ، فلم يكن ممَّن ينسب الكفر والمعاصي والشرور - من حيث هي شرورٌ وأعدام ونقائص وقوى وملكات - إلاّ إلى الأسباب القريبة الجسمانيّة ، والاستعدادات الرديئة الظلمانيّة . لأنّ من أساء علمه ، أو أخطأ في اعتقاده ، فإنّما ظلَم نفسَه بظُلمة جوهره وسوء استعداده ، وكان أهلاً للشقاوة في معاده - كما سبق - ، لكن يعلم بقوّة ايمانه أن سلسلة الأسباب لا بدّ وأن تعود إلى الأمور الإلهيّة القضائية ، كما قال تعالى : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] . وقوله : { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] . فالكفر والمعاصي منسوبة إلى العبد ، لا بمعنى خلْق الأفعال ، وهي منسوبة إليه تعالى ، لا بمعنى الالجاء والقسر - بل كما عرفت مراراً - . وأما عن الخامس : فإنّ الوارد من الله على الخلْق كلّهم ، أمر واحد وفيض [ فارد ] ، والإختلاف إنَّما يكون بحسب القوابل والمستعدّات ، وإن النازل كلّه نورٌ ورحمةٌ ، ولكن ينقلب في حقّ بعضهم ظلْمة وآفَة ومحْنة ، مثل قوله : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . وقوله : { يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ] . وكلّ ما فعَله الله أولاً بأهل الايمان ، فعلَه بأهل الكفر ، من نعْمة الخلْق والإحياء والعقل والتكليف والهداية والدعوة بالآيات ، وإرادة طريقي الخير والشر ، والنفع والضرّ وغير ذلك ، فصار الكلّ سبباً لقُرب هؤلاء ، ومنشأ لبُعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنَعه تعالى بهما لقُرب هؤلاء ، ومنشأً لبُعد هؤلاء - ولا يزالون مختلفين - فما صنَعه تعالى بهما جميعاً في الدنيا ، هو معدودٌ من نعَم الله التي أعطاها لعباده - وإن انقلب بعضها في حقّ البعض ناراً محرقة وسموماً مهلكة - ، لحرقة في قلوبهم - ، وتغيّظاً وزفيراً في صدورهم ، ولهذا صحّ قوله تعالى فيهم : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } ، وتعذّبون بالنار وقد أنعَم الله عليكم بمثل هذه النعَم العظيمة التي أنعَمها على المتّقين ، وقد صارت وقايةً لهم من عذاب الجحيم وألم الحميم . وأما الجوابان اللذان ذكرهما من قِبَل الأشاعرة ، فإنّهما وإن حصل بهما الإلزام للمعتزلة ، لكن لا يفي بدفع الإشكال ، وحلّ عقدة الإعضال عنهم أنفسهم ، لأنّ الذي ذكره أولاً ، من أن علمه تعالى اقتضى وجود المعلوم على وجهه ، أو أنّ خلاف مقتضاه محال ، هو خلاف مذهب الأشاعرة ، إذ لا ايجاب ولا عِلّية عندهم ، بل يجوز منه تعالى على أصولهم ويصحّ أن يفعل خلاف ما كان قرّره وعَلِمه أولاً . وكذا الذي ذكره ثانياً ، فإنّ القدرة والإرادة - سواء كانتا من الله أو من العبد - غير متوقّفتين عندهم على علّة موجبة وداعية مقتضية لأحد طرفي المقدور ، بحيث يمتنع مقابلها ويستحيل خلافها . فالوجوه الخمسة المذكورة كلّها واردٌ عليهم ، والجواب بإنكار الحسْن والقبْح العقليّين - مع ما فيه ممّا يستلزم سدّ جميع أبواب البراهين ، وما يبتنى عليه من أصول العقائد الحقّة - ، وكذا الجواب بقوله تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] . غير منجحٍ لهم ، لأنّ معناه لو كان المراد منه نفي اللِميَّة عن أفعاله كما فهموه ، وإن كانت واقعة منه تعالى في هذا العالَم ، بعد مراتب كثيرة ووسائط عديدة ، وأسباب جعلها الله مبادى مرتبطة بها ، وذلك لأنّه لو كان المراد ما ذكروه ، لم يصحّ منه تعالى أن يقول : { لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 70 ] { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] . { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 91 ] . وغير ذلك ممّا فيه سؤال بـ " لِمَ " عمّا هو عندهم من أفعال الله ، والتالي باطلٌ ، فكذا المقدَّم . فقد عُلم أنّ الذي لا تجري فيه اللميَّة ، ولا يجوز عنه السؤال ، هو الفعل المطلق له تعالى ، أو الفعل الواقع منه تعالى بغير توسّط ، أو الأفعال المتأخّرة لكن من وجهها الخاصّ الذي يكون به إليه تعالى ، فإن لكلّ ممكن وجهاً خاصّاً إليه تعالى ، به يكون قابلاً لفيض أصل الوجود ولوازمه . فصل إن ذكر الإماتتين والإحيائين في هذه الآية ، وعدم ذكر غيرهما ، لا يدلّ على نفي ما سواهما ، فانفسخ ما احتجّ به قوم على نفي عذاب القبر وسؤاله . وأيضاً - لأحد أن يحمل قوله : { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } ، على الحياة التي تكون في القبر ، لأنها ليست بدائمة ، وقوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } على الحياة الدائمة الأخرويّة ، فتكون الآية دليلاً على إثبات الحياة في القبر . وقال الحسن : المراد من الآية حال العامّة ، وأمّا بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرّات وأحياهم كذلك ، كما في قوله : { فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [ البقرة : 259 ] . وكقوله : { فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [ البقرة : 243 ] . وكقوله في قصّة بني إسرائيل : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] وكقوله : { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [ البقرة : 73 ] … وكقوله في قصّة أيّوب عليه السلام : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } [ الأنبياء : 84 ] . فصل تمسّكت المجسّمة بقوله تعالى : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } على المكانيّة ؛ وَرُدَّ بأن المراد رجوعهم إلى حُكمه . والردّ كالمردود ضعيفٌ ، والحقّ أنّ أشخاص الإنسان يرجعون إلى الله رجوعاً جبليّاً بحركة ذاتية إنيّة ، لا رجوعاً مكانيّاً عرَضيّة أينيّة ، وهذا ما حقّقه المحقّقون القائلون بأنّ للانسان من مبدء نشوءه إلى غاية كماله انقلابات في ذاته ، وتطورات في جوهره ، فكان تراباً ، ثمَّ نطفة ، ثمَّ صورة لحميّة وعظميّة ، ثمَّ صورة حيوانيَّة ، ثمَّ صورة إنسانيّة ، ثمّ صورة ملكيّة ، ثم صورة مفارقة ، ثمَّ ما شاء الله . فصل إعلم أنّ في هذه الآية إشارات وتنبيهات إلى أسرار عقليّة : أحدها : إن في إسناد الإماتات والإحياءات إلى الله ، إشارة لطيفة إلى أنّ هذه التحوّلات والانتقالات ، أمورٌ طبيعية صادرة بتسخير الله تعالى جوهراً شأنُهُ هذه التقليبات والتحريكات ؛ لا أنّها أمور اتّفاقيّة صادرة بأسباب اتّفاقيّة ، أو أن المؤثّر في الحياة والموت طبائع الأفلاك والكواكب أو الأمزجة والأركان ، - كما هو قول أهل الطباع والدهريّة - على ما حَكى الله عنهم بقوله : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [ الجاثية : 24 ] . وَلا أنّ الإنسان من بدْو ولادته إلى أوان موته ، على جوهر واحد وهويَّة واحدة ، من غير تحوّل وارتحال - كما زعمَه الناس - . وثانيها : إن الآية دالة على أن الموت طبيعي لكل أحد ، وان معناه ومنشأه ليس كما فهمه الأطباء والطبيعيون ، من أنه أمر يعرض أولاً للبدن من جهة نفوذ قوته الطبيعية ، وزوال حرارته الغريزية ، ثم بواسطته ينقطع تعلق النفس عنه ، وما ذكروه ليس بمعتمد عليه ولا هو بحق . بل الحقّ أن الموت الطبيعي عبارة عن تمام توجّه النفس من هذه النشأة إلى عالَم الآخرة بالذات ، وإعراضها عن البدن ، فيطرأ عليه الهلاك لأجل ذلك الإعراض بالعرَض ، فزوال الحرارة ، وبطلان قوّة الحسّ والحركة عن البدن ، مسبّب عن توجّه النفس حركة جِبِلّية إلى ما عند الله ، لا أن الأمر بالعكس - كما هو المشهور - . قال بعض المحقّقين من أهل الكشف والعرفان : اعلم أنّ القوى التي في الإنسان وفي كلّ حيوان من قوى الحسّ والحركة وغيرها - كالخيال والحفظ والمصوّرة كلها المنسوبة إلى سائر الأجسام علواً وسفلاً - إنّما هي للروح ، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم ، وينعدم فيه ما ينعدم بتولّيه عن ذلك الجسم من ذلك الوجه الذي يكون عنه تلك القوة الخاصّة - فافهم . فإذا أعرَض الروح عن الجسم بالكلّية ، زال بزواله جميع القوى والحياة ، وهو المعبّر عنه بالموت ، كظلام الليل بمغيب الشمس . وأمّا النوم ، فليس بإعراض كلّي ، وإنّما هو حجب أبخرة تحول بين القوى وبين مدركاته الحسيّة مع وجود الحياة في النائم ، كالشمس إذا حالَت السحُب بينها وبين موضع خاصّ من الأرض ، يكون الضوء موجوداً كالحياة ، وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع ، فكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بَدلاً منه ظهَر في موضع آخر بنوره أضاء به ذلك الموضع ، كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كان حياته به تجلّى على صورة من الصور الذي هو البرزخ ، وهو بالصاد جمع " صُورَة " ، فحييت به تلك الصورة في البرزخ ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) في نسْمة المؤمن : " إنّه طير أخضرٌ " فذلك الطير كالجسم هيهنا حُييت بهذا الروح الذي كان يحيى به هذا الجسم ، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها ، كذلك الروح تطلع في اليوم الآخر على هذه الأجسام الميتة فتحيى بها ، فذلك هو البعث والنشر . وثالثها : إنّها دالّة على صحّة البعث ، مع التنبيه العقلي على صحّته ووجوبه جميعاً . أما الصحّة والإمكان ، فإنّ من قدِر على الإحياء أولاً قدِر عليه ثانياً . وأمّا الوجوب والحقيّة ، فإنّ من الناس من حمل المَوتة الأولى على مادّة البدن ، كالعناصر والأغذية والأخلاط والنطَف والمضغَة - مخلَّقة وغير مخلَّقة - . وحمَل الحياة الأولى على الأرواح الحيوانيّة التي بها السمْع والبصَر ، كما في قوله : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] . ويقع فيها الاشتراك بين الإنسان وسائر الحيوان . وحمَل الموتة الثانية على حامل القوّة الحيوانيّة الذي يعرض له الموت لا محالة عند تقضّي الآجال ، لكونه دائم الاستحالة والدُثور في الأحوال . وحمَل الحياة الثانية على الروح الإنساني القابل للبقاء الأُخروي ، المشار إليه بقوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] . فعلى هذا ، قد انكشف أنّ للإنسان استحالات من حالة إلى أُخرى ، وأنّ في ذاته جوهراً سالكاً بحسب الفطرة التي فطره الله عليها ، منتقلاً من صورة إلى صورة ، ولكلّ صورة تصوّر بها غاية حقيقية انتقل إليها من تلك الصورة . وقد ثبَت في العلوم الإلهيّة ، أن للأشياء الجوهريّة الفطريّة غايات يُتوجّه إليها ، وتلك الغايات يجب أن تكون من جنس ذويها وأشرف منها . فلا بدّ أن تكون للروح الإنساني غاية يُتوجّه إليها بحسب ما أودع الله في جِبِلّتها ، ويجب أن تكون غايتها من جنسها وأشرف منها كما مرّ . وهي لا تتحقّق إلا في نشأة أُخرى . وذلك لأنّ النفس الإنسانيّة آخر درجات هذا العالَم الشهادي الحسّي ، وأول درجات العالَم الغيبي الأُخروي ، فكأنّها برزخ جامع بين العالَمين ، حجابٌ حاجزٌ بين الدارين ، وبابٌ في سور مضروب به بين النشأتين ، فتمامها وغايتها لا بدّ وأن تحصل لها من الارتحال من هذه النشأة إلى أخرى ، فلها انسياق جِبِلّيٌّ من الدنيا إلى العقبى . وإلى هذا الانسياق أشار بقوله : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] . أي سائق يسوقها إلى محشرها ، وشاهدٌ يشهد عليها بعملها ، وفي الآخرة درجات متفاضلات ، ومنازل متفاوتات لمن هو أهلها . ورابعها : إنّها دالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنّه قال : { فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } فبيَّن أنّه لا بدّ من الموت ، ثمّ أنّه لا يترك على هذا الموت بل لا بدّ من الرجوع إليه . أما إنّه لا بد من الموت ، فقد أشار إليها في كثير من الآيات التي ذكر فيها بدايات خلْقة الإنسان . وفي كلام أمير المؤمنين وإمام الموحّدين - عليه السلام منّا ومن الملائكة أجمعين - : " أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم ، والمبلية لأجسادِكم ، وإنّما مثَلكُم ومثَلها كسَفْرٍ سلَكوا سبيلاً ، فكأنّهم قد قطعوه ، وأمّوا عَلَماً فكأنّهم قد بلغوه ، وما عسى أن يكون بقاء من له يومٌ لا يعدوه ، وطالب حثيث من الموت يحدوه ومزعج في الدنيا حتى يفارقها رغماً ، فلا تنافسوا فإنّ عزّها إلى انقطاع ، ونعيمها إلى زوال ، وبؤسها إلى نفاد ، وكلّ مدة فيها إلى انتهاء ، وكل حيٍّ فيها إلى فناء " . وأما أنّه لا بدّ من الرجوع إلى الله تعالى ، فلأنّه يأمر بأن ينفخ في الصور : { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 68 ] ، ثمّ ينفخ { فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] . ثمّ يعرضون على الله كما قال : { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] . فيقومون خاشعين كما قال : { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ } [ طه : 108 ] . فقد ظهر وتبيَّن أنّ للإنسان بعد أطوار الدنيا ومقاماتها مقامين أُخرويين ، أحدهما عند الموت ، والآخر عند الرجوع . أمّا المقام الأول ، فحال الإنسان فيه كما قال يحيى بن معاذ الرازي : " يمر أقاربي بحذاء قبري كأن أقاربي لا يعرفوني . وكأنّي بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها ، وانصرف المشيِّعون عن تشييعها ، وبكى الغريب عليها لغربتها ، وناداها من شفير القبر ذو مودّتها ، ورحِمَتها الأعادي عند جزعتها ، ولم يخفَ على الناظرين عجز حيلتها ، فما حيلتي ولا رجائي - إلهي - إلاّ أن تقول : ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون ، ووحيد قد جفاه المحبّون ، أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً ، وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً ، ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً ، فاحسِن إليَّ يا قديم الإحسان ، وحقِّق رجائي فيك يا واسع الغفران . وأما المقام الآخر ، فكما قال بعضهم : " إلهنا - إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرّةً رؤوسنا من شدّة الخوف شاحبة وجوهنا ، من هول القيامة ، مطرقة رؤوسنا ، وجائعة لطول القيامة بطوننا ، وبادية لأهل الموقف سؤآتنا ، وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا ، وبقينا متحيّرين في أمورنا ، نادمين على ذنوبنا ، فلا تُضَعِّف المصائب علينا بإعراضك عنّا ، ووسِّع رحمتك ورضوانك وغفرانك [ لنا ] - يا عظيم الرحمة ، ويا واسع المغفرة .