Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 29-29)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآية من أعظم الدلائل على شرَف الإنسان ، ومن أقوى الوسائل إلى معرفة الرحمن . أما دلالتها على شرفه فبوجهين : أحدهما : ما وجّهه المفسّرون ؛ وهو أنّها بيان لنعمة أُخرى بعد النعْمة الأُولى مرتّبة عليها ، فإنّ الأولى كانت خلْقهم أحياءَ قادرين مرّة بعد أُخرى ، وهذه خلْق ما يتوقّف عليه بقاؤهم النوعي بعد الشخصي ، ويتمّ به معاشهم المبتني عليه معادهم . وما أحسنَ رعاية هذا الترتيب منه تعالى ، فإن الإنتفاع بالأرض والسماء وما في كلّ منهما ، إنّما يكون بعد حصول الحياة ، فلهذا ذكَر الله أمر الحياة أولاً ، ثمّ أردَفه بذكر الأرض والسماء . وقوله : { لَكُمْ } ، يدلّ على أنّ المذكور بعد قوله : { خَلَقَ } ، لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا ، أمّا في الدنيا ، فلمصالح أبداننا ، ولنتقوّى على الطاعات ، وأمّا في الدين ، فللتفكّر فيها ، والتدبّر في آيات الأرض والسماء ، وعجائب فطرة الله فيهما ، فهذا دالّ على فضيلة الإنسان حيث خلَق الله لأجل انتفاعه وجميع ما في الأرض والسماء ، كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ الجاثية : 13 ] . واستشكل هٰهنا بأن الله لا يفعل فعْلاً لأجل غرض ، لأنّه لو كان كذلك لكان تعالى مستكمِلاً بذلك الغرَض ، والمستكمِل بغيره ناقصٌ بذاته ؛ وذلك على الله [ تعالى ] محالٌ ، لأنّه منبع كلّ خيرٍ وكمال . وهذا أصل مستحكَم الأساس عند الحكَماء الأوائل ، فإنَّهم أشدّ الناس إثباتاً لهذا الأصل ، فقالوا : " إنّ العالي لا يلتفِت إلى السافل " ، لكنْ حَجَبَ هذا الأصل طائفة من الناس عن كثير من الحقائق الدينيّة والقوانين الشرعيّة مثل مسئلتنا هذه . لا يقال : إنّ فعله تعالى معلّل بغرَض لا يعود إليه - بل إلى غيره - . لأنّا نقول : عود ذلك الغرَض إلى ذلك الغير ، هل هو أولى به [ تعالى ] من عدمه ، أوليس بأَوْلىٰ ؟ فإن كان أَوْلىٰ به تعالى ، فيعود المحذور المذكور . وإن لم يكن تحصيله غرضاً مؤثّراً أصلاً - والمفروض إنّه غرضٌ معللٌ به فعله تعالى . وأيضاً ، كلّ من فعل فعلاً لغرَض ، كان قاصراً عاجزاً عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل ، والقصور والعجز محالان على الله تعالى . فهذه وغيرها هي وجوه دالّة على خلاف ما يستفاد من هذه الآية ، وكثير من الآيات ، ويبتنى عليه القوانين الدينيّة ، وبه ترتبط المسائل المعاديّة من الحشر والجزاء والثواب والعذاب ، والجنّة والنار ، وما أشبهها ، ولم أرَ أحداً ذكَر شيئاً مفيداً لحلِّ هذا الإعضال وفكّ هذا الإشكال . والذي يخطر بالبال في هذا المقام لدفع هذه العقدة من الأوهام : إن فعل الله ليس فعلاً واحداً ، بل أفعال كثيرة حسب كثرة الموجودات الممكنة ، والذي قامت البراهين على أنّه لا يكون معلّلاً بغيره ، ولا ذا غاية سواه ، هو فعله الخاصّ الذي صدر عنه أولاً وبالذات ، أو فعله المطلق ، فإنّ ما هو أحد هذين ، فالفاعل والغاية فيه ذاته الأحديّة الصمديّة ، وأمّا فعله الذي صدَر بعد ذلك ، فهو معلّل بغرض ، وهكذا لكلّ فعل ذي غرض غرض ، حتى تنتهي الدواعي والأغراض والغايات إلى غاية لا غاية لها ، وداع لا داعي له ، وهو ذاته الذي هو غاية الغايات ، ومنتهى الدواعي والرغبات . فالتراب - مثلاً - ، فعْلٌ من أفاعيله الصادر عنه باستخدام فاعل طبيعيّ يسمّى الطبيعة الأرضيّة ، وهي مَلَك من ملائكة التسخير ، يتسخدمه فاعل فوقه يسمّى مَلَك الأرض ، وهو مَلَك من ملائكة التدبير ، وفوقه ملك آخر من ملائكة الإفاضة والتنوير اسمه قابض الأرواح ، وهو تحت اسمه تعالى " القابض " ، ولكلّ منها في فعله غاية فوقه ، حتّى ينتهي إلى الله تعالى . وهذه الغايات والأغراض ، هي التي فوق الأكوان . وأمّا التي تكون تحت الأكوان ، فغاية التراب ، والغرَض من خلقه أولاً هو المركّبات الأرضيّة كالمعدنيّة ، ثم البذور وقواها النباتيّة ، ثم النطَف والأغذية ، ثمّ الأخلاط الدمويّة ، ثمّ الأمشاج والأعضاء اللحميّة ، ثم الأرواح البخاريّة ، ثمّ النفوس الحيوانيّة ، ثم الغرض منها الأرواح الأنسيّة الصاعدة إلى الدرجات السماويّة ، والغرض منها معرفة الله ، والانقطاع عن العوالِم بالكلّية ، والإتّصال إلى الحضرة الأحديّة . فبهذا المعنى صحّ أن يقال : إن لأفعاله تعالى أغراضاً عائدة إليه ، بشرط أن يدرك تحقيقه على وجه لا يؤدّي إلى إنثلام قاعدة التوحيد والتنزيه ، بل تتحفّظ قاعدة : " إنّ العالي لا ينفعل عن منفعَلِه ، ولا يستكمل الفاعل من فعْله " . ومن لم يهتد إلى هذا التصوير ، ولم يتنوّر باطنه بهذا التنوير ، تكلّم في هذا " اللاّم " والتي في قوله : { جَعَلَ لَكُمْ } [ البقرة : 22 ] . والتي في قوله : { لِتَهْتَدُوا } [ الأنعام : 97 ] وفي قوله : { لِيَعْبُدُونَ } [ الذاريات : 56 ] . ونظائرها الكثيرة في القرآن ، فقالوا : " إنّه تعالى لمَّا فعَل ، ما لو فعله غيره لكان فعْله لذلك الشيء لأجل الغرَض ، لا جرَم أطلق الله تعالى لفظ الغرَض بسبب هذه المشابهة " . هذا غاية أفكارهم في هذا المقام - والله وليّ الهداية والإنعام - . والآية تقتضي أنّ الأصل إباحة الانتفاع بكلّ ما في الأرض للإنسان ، إلاّ ما خرج بدليل ، ولا يمنع تخصيص بعضها ببعض ، ولا تحريم بعضها على بعض ، لأنّها دلّت على أن الكلّ للكلّ ، لا أن كلّ واحد لكلّ واحد . وقوله : { مَّا فِي ٱلأَرْضِ } يعمّ كلّ ما فيها ، ولا يشملها ، إلاّ إذا أريد من الأرض الجهات السفلية - لا الغبراء - ، كما يراد بالسماء الجهات العلوية - لا الخضراء - ، فيصدق على الأرض وما فيها جميعاً أنّها واقعة في السفل . وقوله : { جَمِيعاً } نصب على الحال من الموصول الثاني . فصل قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } من الآيات التي اختصّ بمعرفتها أهل القرآن خاصّة ، وليس لغيرهم نصيب إلاّ مثل نصيب الأكْمَه لخبر النور ، أو لحرارته . أما يتعلق بظاهر اللفظ : فـ " الإسْتِوَاء " أصله طلب السواء ، واطلاقه على الاعتدال والاستقامة لما فيهما من تسوية وضع الأجزاء ، فيقال . استوى العود - إذا قام واعتدل ، ثم نقل فقيل : " استوى إليه " كالسهم المرسل إذا قصد [ ه ] قصداً مستوياً من غير أن يلوى على شيء آخر ، وأما ما وجدوه من معناه فهو قولهم : " أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلْق ما في الأرض ، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلْق شيء آخر " . والمراد بالسماء جهات العلو ، كأنه قيل : " ثمّ استوى إلى فوق " . وقيل : استَوىٰ بمعنى : استولى ومَلَكَ ، كما قال : @ قد استوىٰ بشرٌ على العراق من غير سيفٍ ودمٍ مهراق @@ ومعنى : سوّاهن " ، عدّلهن وخلقهن مصونة عن العوج والفطور ، إلاّ عند قيام الساعة { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الإنفطار : 1 ] . والضمير في { فَسَوَّاهُنَّ } ، ضمير مبهم يفسّره { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقولهم : " رُبّه رَجلاً " . وقيل : راجع إلى السماء ، لأنّها في معنى الجنس . وقيل : إن " السماء " جمع ومفردها " السماءة " . والأول هو الأوجه في العربية ، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية . ثمّ وقع هٰهنا لهم إشكال من جهتين : آحداهما : إن كلمة " ثمّ " تعطي معنى التراخي والمهلة ، فيناقض ما فسّر به معنى الاستواء كما سبق . وثانيتهما : إنّ المستفاد هٰهنا تناقض قوله : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَٰهَا } [ النازعات : 30 ] . وأجيب عن الأول بأن " ثمّ " كما يكون للتراخي بين الشيئين بحسب الزمان ، فقد يكون للتفاوت بينهما في الشرف والفضيلة ، و " ثمّ " هٰهنا لفضيلة خلق السموات على خلْق الأرض - لا للتراخي في الوقت - ، كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] . وكقول الرجل : " أليس أعطيتك النعْمة العظيمة ، ثمّ رفعت قدرك ؟ " ولعلّ ما أخّره في الذكر متقدّم في الوجود . على أن التراخي أيضاً لا يناقض ذلك ، لأنّ معناه أنّه حين قصدَ إلى السماء بعد فراغه عن خلق ما في الأرض ، لم يخلق خلْقاً آخر فيما بين ذلك . وعن الثاني : بأن جرم الأرض ، وإن تقدم خلْقُه خلْقَ السماء ، لكن دَحْوَها متأخّر عنه ، لأنّ التدحية هي البسط . ولقائل أن يقول : هذا مشكل من وجهين : الأول : إنّ الأرض جسم عظيم ، فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية ، وما مع المتأخّر متأخّر ، فإذا كانت التدحية متأخّرة ، فلزم منها كون خلْقها أيضاً متأخّراً عن خلق السماء . والثاني : أن قوله : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } يدلّ على أنّ خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدّم على خلق السماء ، لكن خلق الأشياءِ في الأرض لا يمكن ، إلاّ إذا كانت مدحوّة ، فكونها مدحوّة تكون قبل السماء ، وحينئذ يثبت التناقض . وذكر بعضهم للتفصّي عن هذا الإشكال بأن قوله : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَٰهَا } [ النازعات : 30 ] يقتضي تقدّم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسويتها متقدّمة على خلق الأرض ، فإذن لا تناقض . وأنت تعلم أن قوله : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } [ النازعات : 27 - 28 ] . يقتضي أن يكون خلْقها وتسويتها جميعاً متقدّمين على تدحية الأرض ، لكن تدحيتها - كما مرّ - لخلْق ذاتها ، فحينئذ ذات السماء وتسويتها متقدّمان على ذات الأرض ، فيعود المحذور . هذا تمام ما ذكروه في هذا المقام ، ولم يتنقّح حال هذه المسئلة بقوّة افهام أولئك الأقوام ، بل لا بدّ لدركها من الاهتداء بأنوار الكلام ، والاعتصام بقوّة من بيده إفاضة العلم والحكمة والإنعام . قاعدة مشرقيّة [ تقدم الغاية على الفاعل وتأخّره عنها ] كلّ ماله كمال منتظَر ، وقد تقدّم على شيء في الوجود بحسب الفاعليّة والمبدئيّة ، فهو متأخّر عنه في كمال الوجود والتماميّة ، وهذا مما أُقيم عليه البرهان ، وطابَقه الكشف والوجدان ، ويؤكّده الاستقصاء في الاستقراء ، والاستيفاء في التتبّع من أهل البصيرة والايقان . فالنبات مثلاً ، أوّله لبٌّ وبذر ، وآخره بذر ولبٌّ ، والحيوان - بما هو ذو نموّ واغتذاء - أوّله نطفة حاصلة عن غذاء ، وآخره نطفة حاصلة عن أواخر هضوم الغذاء . وبما هو ذو حسّ وتخيُّل ، كلما يحسّ به أو يتخيّله أولاً ، يصل إليه أخيراً ، فإنّ من أراد الأكْل ، احضرت في حسّه بسبب وجود الجوع صورة المأكول ، وفي خياله صورة الشبع ، فحاول أن يستكمل صورة المأكول التي في حسّه بالأكل ، وصورة الشبع التي في خياله بإدخاله من حدّ التخيل إلى حدّ العين ، فالشبعان تخيّلاً هو الذي يأكل ليصير شبعان وجوداً ، فالشبعان تخيّلاً هو العلّة الفاعليّة ، والشبعان وجوداً هو العلّة الغائيّة . وكذلك الباني بيتاً للسكنى ، يحضر في خياله أولاً صورة البناء على وضع يصلح لسكناه ، فيسكن فيه أولاً ، ثمّ يتحرّك في ضرب اللبنات وصنع الآلات ، ويأخذ في صنعه شيئاً فشيئاً إلى أن يتم ، فإذا تم وكمل يسكن فيه ، فكان أول البغية آخر الدرك ، وآخر البغية أول الدرك . فهكذا الحال في كلّ ماله فاعل وغاية في الأمور الزمانيّة والمكانيّة . حكمة عرشيّة [ الإنسان في دائرة النزول والصعود ] إذا قرع سمعك ما قرأناه بتوفيق الله ، واهتديت بما اهتدينا به ، فأحسن إعمال رويّتك فيه ، وقسْ على ذلك نظائرها الباقية ، وتدبَّر في هذه الآية من آيات ربّك ، وانْظُر فيها بنظر الإمعان والاعتبار ، وحدّق بصر بصيرتك في ملاحظة ما أُنزل معها من أنوار عالَم الأسرار ، فقد ذكر الله فيها إن الله { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ، وقال في موضع آخر تأكيداً وتنويراً لهذا : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ الجاثية : 13 ] . وقوله : مخاطِباً للملائكة الأرضيّة والسماويّة : { ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } [ البقرة : 34 ] . فسجَد الملائكة كلّهم أجمعون وقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصّلت : 53 ] . فظهَر وتبيَّن من هذه الآيات والحجج البيّنات ، أنّ الإنسان غاية جميع الأكوان ، وثمرة وجود الأفلاك والأركان ، وظاهر أن ابتداء هبوطه من العالم الأعلى والجنّة التي فيها آدم وزوجته ، فهبَط منها مارّاً لى جميع الطبقات ، لقوله : { ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } [ البقرة : 38 ] . فإذا نزل بساحته منسلِخاً عن الفطرة كثيراً ، وقيل لهم : { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [ الأعراف : 24 ] . ومعلومٌ عند أرباب الحكمة والعرفان ، أن آخر منازل كل متحرّك سلك بحسب الجِبِلّة ، هو أول مواطنه ، فالإنسان حيث نزَل من عالَم الجنّة الإلهيّة ، فلا بدّ في عروجه بحسب المنزلة الحقيقيّة النوعيّة أن يصعد إليها ، والصعود إلى أعلى المراتب يمتنع ، إلاّ بعد المرور على كلّ درجة يكون بينها وبين ابتداء الرجوع . فصعود الإنسان بحسب كماله النوعي أو الشخصي إلى طبقات ملكوت السموات ، ممّا لا بدّ من وقوعه في السير الرجوعي إلى ربّه ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] . ورُبّ شخص إنساني وصَل إلى بعض الطبقات ، ووقَف هنالك إلى أن يشاء الله ، قال تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [ الأنعام : 132 ] . قاعدة أخرى مشرقيّة [ خلق السماء مقدَّم على الأرض من وجه ومؤخَّر من وجه ] ثمّ اعلم أن الإنسان بحسب سيره الباطني ، كلّما وصَل إلى درجة من درجات الكون ، اتّحد بها واتّصف بصفاتها وأحكامها ، وصدَر منه أفعالها وآثارها المختصّة ، أوَ لا ترى أنّه منذ أخذ في السلوك من أول تكوّنه من التراب ، - وهو أنزل مراتب الأكوان - ، ومن النطفة ، - وهي أوهن الصور الجماديّة الحاصلة من امتزاج الأركان - ، فكلّ مرتبة وصَل إليها من النبات والحيوان ، تحقّق بحقيقتها واتّحد بماهيتها ، حتّى وصل إلى الألطف فالألطف من الأكثَف فالأكثَف . فوصَل في جسميّته إلى جرم دخاني هو أشبه الأجرام بالسماء ، وفي روحانيّته إلى عقْل يدرك به كلّيات الأشياء ، فلا يزال يتصّفى ويترّقى روحاً وبدناً ، إلى أن يتّحد بعقْله العقل الفعّال ، وبجسمه صورة السماء المبرّأة عن تفاسد الأضداد والأمثال ، وهكذا يترّقى - إذا ساعدته الهداية - من سماء إلى سماء [ عليا ] ، ومن عقْل أدون إلى عقل أعلى ، حتّى يصل إلى سدرة المنتهى ، عندها جنّة المأوى ، كما قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . وبما ذكر من هذه المقدمات ، يتذكّر اللبيب البصير ، ويتمكّن من أن يذعن ، بأن الله بَنى ملك السموات وملكوتها تارةً أخرى ، وعمّرها بأعمال بني آدم ، وزيَّن بيوتها وبروجها وسقوفها وحيطانها بمصابيح أنوار عقولهم ، واسْم السماء إنّما أُطلق عليها بعد سموّ قدْرها بارتقاء أرواحهم إليها ، واتّصالهم بها ، وتعمير الله إيّاها بزينة أعمالهم ومحاسن نيّاتهم ، وكان اسمها فلكاً ومجرى للكواكب والدراري . وبناء هذه المقاصد أيضاً ، على أن الطبائع متجدّدة سيّالة ، متوجّهة من أنقص المراتب إلى أعلاها ، وأنّ الكل بحسب ما ارتكز في جبلاّتهم وغرائزهم - إن لم يعقها عائق - متوجّهون نحو الحضرة الإلهية ، فولّى الله وجوههم شطره ، وقلوبهم نحوه ، - إن لم يعدلوا عن طريق الحقّ ، ولم ينسلخوا عن الفطرة بإغواء الشياطين الطاغية ، واضلال النفوس المرَدة المردودة إلى أسفل سافلين - . فقد انكشف وتبيّن من تضاعيف هذه الأسرار اللطيفة ، أن السموات كانت مقدّمة على الأرض وما فيها من وجْه ، وهي أيضاً متأخّرة من وجه آخر . وهذان الوجهان ، كما يجريان فيها بحسب مراتب الإنسان وبداياته ونهاياته ، كذلك يجريان فيها بحسب أنفسها ، فإنّ لكل فلك صورة نفسانيّة ، ينبعث منها جوهر مادّتها ، وتبتدئ منها حركة جِرمها بحسب استكمالاتها وتصوّراتها وتشوّقاتها ، فلكل منها صورة نفسانيّة مشتاقة إلى جوهر كامل عقلي ، لا بدّ أن يصل إلى كمالها وغايتها ، وإلاّ لكان ما أودع الله فيها من التشوّق إليه ، والتوسّل به إلى تقرب الباري للكلّ جلَّ شأنه هباءً وعبثاً - والله منزّه عن فعل العبث والجزاف - . فعلم من هذا سرّ كلامه : { أَنَّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] . فارتتاق كلّ منهما ؛ كان ابهامه وعمومه ، وقصور حاله ، وعدم امتيازه عن غيره في خاصّ أفعاله ، وانفتاقه ، تحصّل ذاته ، وتقوّمه بنفسه ، وقيامه بخاصّ أفعاله ، وبلوغه إلى كماله اللائق بحاله . تأييد استبصاري [ الإنسان في دائرة النزول والصعود ] إنّ في كلام سيّد الأولياء وخليفة الأنبياء ، أمير المؤمنين وأخي خاتم النبيين - سلام الله عليهم وعليه وأخيه وأولاده أجمعين - ما يؤكد ما قررناه ، وينوّر ما صوّرناه ، حيث قال عليه السلام في بعض خطبه ، مشيراً إلى الأكوان المتجددة في سلسلة العَوْد ، الراجعة إلى مبدءها الألى من المنزلة السفلى : " ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشقّ الأرجاء وسكائك الهواء ، فأجرى ماء متلاطماً تيّاره ، متراكماً زخّاره ، حملَه على متن الريح العاصفة ، والزعزع القاصفة ، فأمَرها بردِّه ، وسلَّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق " . " ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبّها وأدام مُرَبُّها ، وأَعْصَفَ مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفَت به عصفها بالفضاء ، تردّ أوله على آخره ، وساجِيَه على مائره ، حتى عبَّ عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتِق وجوٍّ منفهق ، فسوّى منه سبع سمٰوات ، جعل سُفلاهنَّ موجاً مكفوفاً ، وعلياهنَّ سقفاً محفوظاً ، وسمكاً مرفوعاً ، بغير عمدٍ يدعمها ولا دِسارٍ ينظمها " . " ثم زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثواقب ، وأجرى فيها سراجاً مستطيراً ، وقمراً منيراً ، في فلك دائر ، وسقف سائر ، ورقيم مائر " . " ثم فتَق ما بين السموات العُلى ، فملأهنَّ أطواراً من ملائكته ، منهم سجودٌ لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون " . وجعل عليه السلام يصِف أطوار الملائكة وقبائلهم بفنون نشأتهم وأفاعيلهم ورسالاتهم بين الله وبين عباده ، إلى آخر كلامه في هذا الباب ، ففي ما ذكره - على أخيه وعليه وآلهما الصلاة والسلام - نص صريح بأن خلق السموات بعد خلق الأرضين ، مع أن الدلائل العقلية والنقلية قائمة على خلاف ذلك أيضاً ، فالوجه كما مرت الإشارة إليه . وقال العارف المتحقّق في الباب الواحد والسبعين وثلاثمأة [ في الفتوحات ] : " ولمّا خلَق الأرض سبع طباق ، وجعل كلّ أرض أصغر من الأُخرى ليكون على كلّ أرض قبّة سماء ، ولما خلق الأرض وقدّر فيها أقواتها ، وكسى الهواء صورة النحاس الذي هو الدخان ، فمن ذلك الدخان خلَق سبع سموات طباقاً أجساماً شفّافة ، وجعلها على الأرض كالقباب ، على كلّ أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة ، والأرض لها كالبساط ، فهي مدحيّة دحاها من أجل السماء أن تكون فمادت فعادت بالجبال عليها فثقلت ، فسكنت بها ، وجعل في كل سماء منها كوكباً - وهي الجواري … " . " … فلما سبحت الكواكب كلها ، ونزلت بالخزائن التي في البروج ، ووهبتها ملائكة البروج من تلك الخزائن ما وهبتها ، أثرت في الأركان ما توارى فيها من جماد ونبات وحيوان ، وآخر مولود الإنسان خليفة الإنسان الكامل ، وهو الصورة الظاهرة التي جمع حقائق العالَم ، وهو الذي أضاف إلى جمعيّة حقائق العالَم حقائق الحقّ الإلهي ، التي بها صحّت له الخلافة الإلهية " - انتهى قوله . وقال تلميذه المحقّق صدر الدين القونوي قدّس سرّهما : إنّ أول الإنسان ومبدءه هو حال تعلّق الإرادة الإلهية باظهار تخصّصه الثابت أزلاً في علم الحق ، ثمّ اتّصال حكم القدرة لإبرازه في تطوّرات الوجود ، وامراره على المراتب الإلهية والكونية ، وله في كل حضرة وعالم يمرّ عليه صورة تناسبه وحال يخصّه ووديعة يأخذها ، يتفاوت ذلك بحسب استعداده حال التصوير . فكم بين من باشَر الحقّ تسويته وتعديله ، وجمع له بين يديه المقدّستين ، ثمّ نفخ فيه من روحه نفخاً استلزم معرفة الأسماء ، وسجود الملائكة أجمعين ، وبين من خلَقه بيده الواحدة ، أو بواسطة ما شاء ، وكون الملك هو الذي ينفخ فيه الروح بالاذن . كما ورد في الحديث عنه ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال : " يجمع الله أحدكم في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة ، ثمّ أربعين يوماً علقة ، ثمّ أربعين يوماً مضغة ، ثمّ يؤمر الملك فينفخ فيه الروح فيقول : يا رب أَذَكَرٌ أم أنثى ؟ أشقيّ أم سعيد ؟ وما رزقه ؟ وما أجله ؟ ما عمله ؟ فالحقّ يملي والمَلَك يكتب " . فأين هذا من قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] . شتّان بينهما ! " . " فلا يزال الإنسان الكامل ، الذي خُلِق للنهاية ، مباشراً في سائر مراتب الاستيداع من لدن إقرار الإرادة في مقام القلم الأعلى ، ثمّ في مقام اللوح النفسي ، ثمّ في مرتبة الطبيعة ، ثمّ في العرش المحدّد للجهات مستوى الاسم " الرَّحمٰن " ، ثمّ في الكرسي مستوى الاسم " الرّحيم " ، ثمّ في أجرام السموات السبع ، ثمّ في العناصر والمولّدات إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء أحكام مراتب الاستيداع " . قال : " فكما هو الأمر أولاً ، كذلك هو الأمر آخراً ، بل الخاتمة عين السابقة فافهم " - انتهى ما ذكره . وظهر منه أن الإنسان الكامل بكلّ مرتبة مرّ عليها عند نزوله من عالم الوحدة ، لا بدّ وأن يتلبّس بها ، ويتصوّر بصورة تلك المرتبة عند صعوده إلى ذلك العالَم ، ثمّ يخلع عنه لباسها ، فيرد الودائع ، ويؤدّي الأمانات إلى أهلها إن كان هو من أهل النهاية والكمال الأتمّ . حقيقة مثاليّة [ الإنسان الكامل فيه صورة السمٰوات والأرض ] إنّ الإنسان الكامل ، مظهر جمعيّة الكلّ ، وجوده بحسب الكون الزماني كصورة آدمي مستلقي ، رِجْلُه إلى جانب الماضي منذ أوان خلق آدم عليه السلام ، ورأسه إلى جانب المستقبل في أوان بعث الخاتم عليه وآله السلام ؛ فكان الإنسان منذ خلَق الله أول آدمي إلى خلق محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، كان متدرّجاً في الاستكمال وتصفية الأحوال ، حتّى بلَغ إلى غاية الفطرة ، ومخّ رأس الآدميّة ، وأمّ دماغ الإنسانيّة ، بوجود محمد ( صلى الله عليه وآله ) - هذا بحسب الزمان وهو سبعة آلاف سنة - . وأمّا بحسب المكان ؛ فالإنسان الكامل ، كشخص قائم عند الله ، ثابت في الأرض قدماه ، خارجٍ عن أكناف السماوات عنقه ، بالغَ إلى حد العرش العظيم عِظام رأسه ، كما وصَف أمير المؤمنين ، سيّد الموحّدين عليه السلام قبيلة من الملائكة بقوله : " ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه تعالى أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم ، لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه تعالى صفات المصنوعين ، ولا يُحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر " - انتهى كلامه عليه السلام . وهٰهنا وجه آخر ؛ وهو أن قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ، إشارة إلى تسويته تعالى باطن الإنسان وسماء عقله سبع درجات باطنيّة معروفة عند أهل الحقيقة ، وهي : النفس والقلب ، والعقل ، والروح ، والسرّ ، والخفي ، والأخفىٰ . وتوجيه ذلك ، بأنه تعالى لما ذكر في الآية السابقة : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] ، مشيراً إلى أنه تعالى أخرج خلق الإنسان من أدنى المراتب ، وصوّره صورة بعد صورة ، وأحياه حياة بعد كلّ ممات ، وكمالاً بعد كل نقص ، حتى رجع إليه تعالى ، وعاد إلى ما بدأ منه ، كما قال تعالى : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] . أراد إلى كيفية هذا الرجوع وبيان هذه الإعادة على ضرب من التفصيل بعدما أجمَل فيه ، فقال : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ، إشارة إلى طيّه في السلوك إلى الله تعالى جميع الدرجات الأرضية - من الجماديّة والنباتيّة والحيوانيّة - ، { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } أي قصد بإرادته إلى سماء عقله { فَسَوَّاهُنَّ } سبعة أطوار { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إذ قد جمع علْم الأسماء كلها في هذا النائب الربّاني ، والخليفة السبحاني تأييداً وتنويراً لقوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [ الجاثية : 13 ] . وقوله : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] . وقوله : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] . ثم يأتي بعد هذه الآية شرح ماهيّة الإنسان ، وبيان خلافته لله تعالى ، وسرّ مسجوديّته للملائكة أجمعين ، لارتباطه بهذا المقصود ، من كون الإنسان سالكاً بقَدَمَي العلْم والعمل إلى خدمة المولى المعبود . فصل [ السماوات السبع ] إنّ ما ذكر في القرآن من عدد السموات لا يزيد على السبع ، وأما أهل الهيئة وأصحاب التعاليم الرصديّة ، فزعموا أنّ الأفلاك الكليّة تسعة : سبعة للسيّارات - كلٌّ في فلك - وثامنها للكواكب الثابتة في أوضاعها ، البطيئة في حركتها الخاصّة بها . وأما الفلك التاسع فهو الفلك المحيط بالكلّ ، المحرّك للكلّ حركة سريعة يخالف في الجهة لحركات البواقي . وذلك لأنّهم وجدوا كلّ كوكب متحركاً بحركة سريعة شرقيّة مشتركة ، وبحركة بطيئة غريبة مختصّة به ، وهم قد ذكروا في كتبهم وجه انحصارها وترتيبها المشهور . أما وجه انحصار الأفلاك الكليّة في تسعة - ومعنى الفلك الكلّي عندهم ما تنتظم به إحدى الحركات المحسوسة المعلومة بالنظر الجليل بحسب الرصد - فهو أنّهم في بادئ نظرهم رأوا تسع حركات مختلفة ، فأثبتوا تسعة أجرام متحرّكات فلكيّة . وهذا الوجه ضعيف ، إذ يمكن أن تستند إحدى هذه الحركات - إمّا الشرقيّة السريعة أو البطيئة الشاملة - لحركات الأوجات والجوزهرات ، لا إلى جرم مختص ، بأن تتعلق بمجموع الأفلاك الثمانية نفس تحركها إحدى تينك الحركتين ، بل لا حاجة إلى الثامن - كما ذكره صاحب التحفة من المتأخّرين - ، وقد استفاده من بعض من تقدّم عهده ، لإمكان أن يتعلّق نفس بمجموع السبعة يحرّكه بإحدى الحركتين ، وأخرى بالسابع يحرّكه بالأخرى . هذا في جانب القلّة ؛ وأما في جانب الكثرة ، فتجويز الزيادة مما لا مانع عنه ، بل يجوز أن تكون حركات الكواكب الغير السيّارة متفاوتة المقدار كلّها ، تفاوتاً قليلاً لا يدركه الحسّ ، فيكون على أصولهم كلّ منها في فلك آخر . بل هذا الاحتمال جارٍ في هذه الحركة الشرقيّة السريعة الشاملة للكلّ ، إذ يجوز أن يكون لكلّ من الأفلاك من هذه السريعة ، حركة غير ما للأخرى بتفاوت يسير ، لا يبلغ في ألوف من السنين إلى قدر يدركه الإنسان بحسب الأرصاد السابقة واللاحقة ، على أن تساوي الحركات ، لا يوجب وحدة الجرم المتحرك بها . ثمّ إنّهم اضطروا إلى اثبات أفلاك أخرى من جهات : منها : حديث الإقبال والإدبار في الفلك ، الذي وجده بعض أرباب الطلسمات وغيرهم ، زاعمين أن غاية كلّ منهما ثمانية درجات ، يتمّ كل من الغايتين في ستمائة وأربعين سنة . ومنها وجدان الميل الأعظم بين المنطقتين متناقضاً عمّا وجده أصحاب الأرصاد القديمة ، فإنّ أهل الهند منهم وجدوه أربعة وعشرين جزءاً ، وكان هذا في القدماء رأياً شائعاً ، وقالوا : " بسبب ذلك استخرج إقليدس في كتابه شكلاً ذا خمسة عشر ضلعاً في الدائرة ، بسبب أن كل ضلع منه وتر هذه الحصّة من الدور ، ثم وجد بعد بطلميوس بالحلقتين الموصوفتين في أول المجسطي ، أقلّ من ذلك مطابقاً لما وجده أبرخس وهو " كحناك " ، ثمّ وجد بعد ذلك بإرصاد المأمون أقلّ منه ، ووافَقه رصَد بني موسى بدار السلام ، ثمّ وجده جماعة كأبي الوفاء وأبي حامد الصغاني أقلّ ممّا وجده المأمون ، ثمّ رصد الخجندي في أيام فخر الدولة بآلة لم يستعملها أحدٌ إلى هذه الغاية سماها " السُدس الفخري " فوجده ثلاثة وعشرين ونصف جزء ، بزيادة دقائق ثلاثة تقريباً . ومنها اختلافات أُخرى عديدة ، توجب عليهم إثبات أفلاك أُخر غير ما اشتهر - كعدم تشابه حركات المتحيّرة حول مراكز أفلاكها الخارجة ، وكتشابه حركة خارج المركز للقمر حول مركز العالَم ، وكميول ذرى تداوير المتحيّرة وحضيضاتها عن صفحة ما فيها مراكزها ، وكانحراف القطر المارّ بالبُعدين الأوسطين للزهرة وعطارد - . وأما الترتيب فيها على الوجه المقرّر عندهم ، فذكروا في بيانه أن المحرّك للكلّ يجب أن يكون محيطاً به على ما تشهد به الفطرة السليمة ، وإن بعض الثوابت ينكسف بزحل ، المنكسف بالمشتري ، المنكسف بالمريخ ، المنكسف بالزهرة ، المنكسفة بعطارد ، المنكسف بالقمر ، الكاسف للشمس ؛ ولا شكّ أن فلك المنكسف فوق فلك الكاسف . لكنه بقي الأمر في كون فلك الشمس تحت فلك المرّيخ ، وفوق فلك الزهرة ، فما تيقّنوا في ذلك ، إذ طريقة الكسف لا تتمشّى بين الشمس وغير القمر من الكواكب ، لاضمحلالها تحت الشعاع عند مقارنتها اياها . فعلم الأول بطريقة أخرى هي اختلاف المنظر ، فإن المرّيخ ليس [ له ] اختلاف منظر أصلاً بخلاف الشمس ، فيكون فوقها ، وبقي الثاني ، بل كونها فوق عطارد أيضاً مشكوك فيه إلى الآن ، فإنّ الآلة التي بها استعملوا اختلاف المنظر إذا استعملوها وهي ذات الشعبتين تنصب في سطح نصف النهار ، وهما عند وصولهما إليها غير مرئيّتين في معظم المعمورة ، لأن كلاً منهما لا يبعد عن الشمس بمقدار يمكن ظهورهما في نصف النهار عند اختفاء الشمس . فاضطرّوا في توسّطهما بين المريخ والزهرة إلى طريقة الاستحسان ، من كونها بين السبعة كشمسة القلادة ، وتأكّد ذلك الرأي بما حكي عن جماعة منهم الشيخ أبو علي أنهم رأوا الزهرة كشامة على وجه الشمس ، أو اياها مع عطارد كشامتين على وجهها . وهذا أيضاً ضعيف ، لأن منهم من زعم أن في وجه الشمس شامة ، كما إنّه حصل في وجه القمر المحو . ثمّ إن أباريحان البيروني قال في تلخيصه لفصول الفرغاني : " إنّ اختلاف المنظر لا يحسّ إلاّ في القمر " ، فبطل ما عوّلوا عليه ، وبقي موضع الشمس مشكوكاً فيه . وظنّ بعض المتأخّرين كمؤيّد الدين العرضي وقطب الدين الشيرازي بدليل لاحَ لهم في الأبعاد ، أن فلك الشمس بين فلكي زهرة وعطارد . هذا خلاصة ما ذكروه في الترتيب ، فعلم أنّ طريقة الرصد والحسّ على ما هو مسلك التعلميّين ناقصة في إدراك الأمور السماويّة ، بل لا يحيط به إلاّ مُبدعها ومُنشئها ، فوجب الاقتصار فيها على طريقة السمع ، فإنها تدلّ على تحقّق سبع سموات ، وتحقّق جسمين عظيمين غيرهما : أحدهما العرش ، والآخر الكرسي - إنْ لم يكن المراد بهما العقل الكلّي والنفس الكلّية ، أو اللوح والقلم ، أو القضاء والقدر - . فصل [ علْم الله تعالى ] قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، يدل [ على ] أن ذاته تعالى لما كان سبباً لجميع ما في الأرض والسماء ، وذاته عالمة بذاته - لكونه غير محتجب عن ذاته بسبب أغشية ولواحق غريبة ، بها يغيب الشيء عن نفسه ، لتجرده عنها ، وتقدمه على سائر الأشياء - ، فهو غير مكتنف بأمر غريب عن صورة ذاته الإلهية ، فيكون عالماً بذاته ، والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ، فيكون عالماً بكل شيء . لكن علمه بذاته لمّا كان عين ذاته ، فعلْمه التفصيلي بما سواه ، يجب أن يكون نفس ذوات ما سواه ، لأن ذاته سبب لِما سواه ، وعلمه بذاته سبب لعلمه بما سواه ، والعلّتان - وهما ذاته وعلمه بذاته - واحدة بالذات ، فيجب أن يكون المعلولان - وهما ما سواه وعلمه بما سواه - واحداً بالذات ، فيكون علمه بكل شيء عين وجود ذلك الشيء ، فعلمه بكل شيء على وجه جزئي ، خلافاً لما اشتهر من شرذمة من المتفلسفة - خذلهم الله - أنّه لا يعلم الجزئيّات الماديّة . واعلم [ أنّ ] علمه تعالى بالأشياء علمان : واجب وممكنٌ . فالأول : علم كماليّ فِعليّ هو عين ذاته المقدّسة ، فإن ذاته حقيقة ينشأ منها جميع الحقائق ، كما أنّ العقول البسيطة عندنا علة يصدر منها مفصل المعقولات . والثاني : علم تفصيلي ، هو صورة كل واحدة واحدة من الحقائق الامكانية ، سواء كانت مقارنة لذاته - كما ذهب إليه الحكماء المشّاؤون وأتباعهم كأبي نصر وأبي علي - ، أو مبائنة عنه تعالى - كما عليه الإشراقيون وغيرهم - ، أو غير زائدة على أسمائه وصفاته - كما رآه آخرون من العُرَفاء . قال بعض الحكماء من أتباع أرسطو مشيراً إلى هذين العلمين : " واجب الوجود مبدء كل فيض ، وهو ظاهر ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو من حيث هو ظاهر [ فهو ] ينال الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد ذاته ، وعلمه بذاته نفس ذاته ، فيكثر علمه بالكلّ كثرة بعد ذاته ، ويتّحد الكل بالنسبة إلى ذاته ، فهو الكلّ في وحدة " - انتهى . واعلم أن تحقيق القول في علمه تعالى ، يحتاج إلى خوض عظيم في بحر علوم المكاشفة ، ولا يكفي في ذلك مقروعات الأسماع من غير بصيرة قلبيّة بعين اليقين . قال صاحب التفسير الكبير " هذه الآية تدل على فساد قول الفلاسفة القائلين بعدم علمه بالجزئيات ، وصحة قول المتكلّمين في اثبات علمه بها ، واستدلوا على ذلك بأنّه تعالى فاعل لهذه الأجسام على نهج الإتقان والإحكام ، وكلّ ما هو كذلك يكون عالِماً بما فعله . وهذه الدلالة بعينها ذكرها الله تعالى في هذا الموضع ، لأنّه ذكر خلق السموات والأرض ، ثمّ فرّع على ذلك كونه عالِماً . فثبَت أن قول المتكلّمين مطابق للقرآن مذهباً واستدلالاً . ويدل أيضاً على فساد قول المعتزلة ، لدلالته على أن موجد كل فعل لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل ، فلمّا لم يكن الإنسان عالماً بكنه ما يصدر منه ، علمنا انه غير موجد له " . أقول : أما الفلاسفة فلم ينفوا علمه تعالى بالجزئيّات بحسب شخصيّاتها ، إلاّ أنهم قالوا : " ليس نحو علمه تعالى بها من الإحساس والتخيّل " ، ومناط الجزئيّة والامتناع عن الصدق على كثيرين عندهم أحد هذين الأمرين - سواء كانوا مصيبين في ذلك أو مخطئين - . ولَعَمري ، إنّ خطأ الحكماء وجهلهم في باب المعرفة ، أولى من إصابة المتكلّم من غير بصيرة . ويؤيد ما ذكره ، قول معلّمهم ومقدّمهم أرسطاطاليس حيث قال في كتابه المعروف بالمعرفة الربوبيّة بمثل هذه العبارة " إنّ العقل يجهل ما فوقه - وهي العلّة الأولى - [ ولا يعرفها ] معرفة تامّة ، وإلاّ لكان هو فوقها ، ومحال أن يكون الشيء فوق علّته وعلّة لعلّته ، وهذا قبيح جداً ، والعقل يجهل ما تحته أيضاً ، لأنّه لا يحتاج إلى معرفتها ، لأنّها فيه وهو علّتها ، وجهل العقل ليس عدم المعرفة ، بل [ هو ] المعرفة القصوى ، وذلك أنّه يعرف الأشياء لا كمعرفة الأشياء نفسها ، بل فوق ذلك وأفضل وأعلى ، لأنّه علّتها ، فمعرفة الأشياء بأنفسها عند العقل جهل ، لأنّها ليست معرفة صحيحة ولا تامّة ، فلذلك قلنا إن العقل يجهل الأشياء التي تحته ، نعني بذلك أنّه يعرف [ الأشياء التي ] تحته معرفة تامّة ، لا كمعرفتها بأنفسها ، ولا حاجة له إلى معرفتها ، وكذلك النفس تجهل معلولاتها بالنوع الذي ذكرناه آنفاً ، ولا تحتاج إلى معرفة [ شيء من الأشياء ] إلاّ إلى معرفة العقل والعلّة الأولى لأنّهما فوقها " . وأما المعتزلة ، فهم لا يقولون بأنّ العبد خالقٌ لحقائق ما صدرت عنه ، بل هو بإرادته مبدأ لحركات وسكنات كالأكل والشرب ، والقيام والقعود وغيرها ، وله من العلم بها ما يكفي لرجحان أحد جانبي الحركة أو السكون على الآخر ، وهما الوقوع واللاّوقوع . وحاشا مَن له أدنى مسكة من العقل ، أن لا يعقل أن الصبّاغ - مثلاً - منّا ليس موجداً لحقيقة الصبغ ، ولا لحقيقة الكرباس ، ولا لصيروة الكرباس قابلاً للصبغ ، ولا لكونه مصبوغاً بالفعل - أي منفعلاً عن تأثير الصبغ فيه - فإنّ مَن اشتَبه عليه ذلك ، فهو خارج عن حدود أهليّة البحث والنظر ، بل الخلاف في أن حركات الصبّاغ كالجمع بين الكرباس والصبغ ، وكتفريق الصبغ عليه مِن فِعْل العبد أوْلاً ، وكذلك في سائر الأبواب كالبِناء ، والتوليد ، والكتابة ، والزراعة وغيرها . ثمّ قال : قالت المعتزلة : " إذا وقع الجمع بين هذه الآية وبين قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] . ظهَر أنّه تعالى عالِمٌ بذاته " . والجواب إنّ قوله تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] عامٌّ ؛ وقوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] . خاصٌّ ، والخاصّ مقدّمٌ على العامّ . أقول : الأول مبيَّن ، لدلالته على أنّ في الوجود عليماً يفوق على سائر العلماء ، ويكون علمه عين ذاته ، إذ لو كان ذا علم - أي عالماً بعلم زائد - ، لكان فوقه عليمٌ آخر فيلزم التسلسل . والثاني مُجْمَلٌ ، لاحتماله أنّه أنزله بعلمه الذي هو نفس ذاته ، أو بعلمه الذي هو زائدٌ عليه ؛ والمبيَّن مقدّم على المُجْمَل . تذييل تقديسي [ شمول علمه تعالى الجزئيّات ] اعلم أنّ علمه تعالى كسائر صفاته مجرد - أي غير عارض لماهيّة - ، لأنّه تعالى منزّه عن الماهيّة ، صَمَدٌ حقٌّ ؛ وكلّ فرد مجرّد ، لأنّه يجب أن يكون قد خرج فيه إلى الفعل جميع كمالاته الحقيقيّة ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها . لأنّه لا جهة له سواها . ونحن قد حقّقنا في مقامه " أنّ كل بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الموجودات " ، وأقمنا عليه البرهان . وما كله الشيء ، فهو الشيء كله ، وإلاّ كان الشيء قاصراً عن ذاته - وهو محال - ، وما هذا شأنه ، يستحيل فيه التعدّد ، فإنّ كلّ الشيء لا يتعدّد . فالعلم هناك واحد ، ومع وحدته يجب أن يكون علماً بكل شيء ، إذ لو بقي شيء ما لا يكون ذلك العلم علماً به ، ولا شك أن العلم به من جملة مطلق العلم ، فلم يخرج جميع العلميّة في ذلك إلى الفعل ، لكنّا بينّا أنّ ذلك واجب . والكلام في سائر الصفات على هذا القياس ، ومن أشكل عليه أن يكون علم الحقّ عزّ وجلّ مع وحدته عِلْماً بكل شيء ، فذلك لأنّه ظنَّه واحداً وحدة عدديّة ، وليس كما ظنّ ، إذ كما أنّ وحدته ليست كسائر الوحدات ، ولا كالآحاد ، فكذلك وحدة صفاته ، وهذا من غوامض الإلهيّة . واعلم أنّ نحو العلم هنالك ، على عكس نحو العلم عندنا ، لأنّ المعلوم هنالك من العلم يجري مجرى الظلّ من الأصل ، فما عند الله هو الحقائق المتأصّلة التي تنزل الأشياء منها منزلة الصور والأشباح . قال بعض المحقّقين : إنّ ما من الأشياء عند الله أحقّ بها مما عند أنفسها . والعلم هناك في شيئيّة المعلوم وتحقّقه ، أقوى من المعلوم في شيئيّة نفسه وتحقّقها ، فإنّه محقِّق الحقيقة ومُشَيِّء الشيء ؛ والشيء مع نفسه بالإمكان ، ومع مُشَيِّئِه ومحقِّقه بالوجوب ، وتأكّد الشيء فوق الشيء ، وكمال الوجود فوق الوجود . وهذا ممّا يحتاج دركه إلى تلطّف شديد ، وصفاء أكيد ، والله على ما أقول شهيد ، وخاب كلّ جبّار عنيد .