Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 31-31)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقرئ : " وَعُلِّمَ آدَمُ " - على البناء للمفعول . اعلم أنّ الملائكة لمّا سألوا الله عن وجه الحكمة في جعل الإنسان خليفة في الأرض دونهم ، وأجاب بوجه اجمالي ؛ أراد أن يزيدهم بياناً وكشفاً ، أخبر عن وجه الحكمة في ذلك تفصيلاً لِمّياً ؛ فبيّن لهم جهة فضيلة الإنسان عليهم ، وذلك بأن علمهم معرفة الأسماء - إما بخلق علم ضروريّ أو إلقاء في رُوعه ، ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح - وإلا لتسلسَل . هذا إذا كان المراد من الإسم ما غلب عليه العرف العام الطارئ من اللفظ الموضوع لمعنى - سواء كان مركّباً أو مفرداً ، وسواء كان المركّب خبراً أو انشاء ؛ والمفرد مخبراً عنه أو به أو رابطة بينهما ، أو الاصطلاح النحوي من المفرد الدالّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة - ، وأما إذا كان المراد منه باعتبار اشتقاقه من " السِمة " - ما يكون علامة للشيء ودليلاً يرفعه إلى الذهن ، سواء كانت ألفاظاً ، أو صفات أو أفعالاً ، كما هو عند العرفاء - ، فليس منحصراً فيما للوضع فيه مدخل ، بل يشمله وغيره . والظاهر أنّ المراد من تعليم الأسماء ، ليس مجرّد تعليم الألفاظ الموضوعة بحسب دلالتها على المعاني كما في التعريفات اللفظية ، بل إفادة العلم بحقائق الأشياء وماهيّاتها ، وإن كان الأول أيضاً مستلزماً للعلم بمدلولاتها بوجه من الوجوه ؛ وذلك لأنّ معرفتها من جهة اللغات ليست كمالاً يعتدّ به ، إنّما الكمال الأتمّ في الحكمة والمعرفة . فالمعنى : أنّه تعالى خلَق آدم عليه السلام من أجزاء مختلفة ، وقوى متبائنة ، مستعداً لإدراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيّلات ، لاشتماله على جميع النشئات الدنيويّة والمثاليّة والأُخرويّة ، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وحقائقها الكليّة والجزئيّة ، وخواصّها وأسماءها ، وأصول العلوم وقوانين الصناعات ، وكيفيّة اتّخاذ الآلات ، حتى صار في نفسه عالَماً تامّاً منفرداً منفصلاً عن العوالم كلّها ، ذا هيئة جمعيّة ونظام وحداني مضاهياً للعوالم الثلاثة . وآدم عليه السلام - على وزن أفْعَل - اسمٌ أعجميٌ كـ " آذَر " و " شالَخ " ، واشتقاقه من " الأدمة " بمعنى السُمْرة . أو من الأدَمة - بالفتح - بمعنى الأُسوة . أو من أديم الأرض ، لما روي عنه ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّه تعالى قبضَ قبضةً من جميع الأرض - سهلها وحزنها - فخلق منها [ آدم ] ، فلذلك يأتي بنوه أخيافاً " ولو كان وزنه فاعلاً لانصرف . وليس مشتقّاً من الأدم والأدمة بمعنى الالفة ، كاشتقاق إدريس من الدرس ، ويعقوب من العقب ، وإبليس من الإبلاس . إشارةٌ عرفانيّةٌ [ معنى الإسم والمقصود من تعليم الأسماء ] قد مرّ في المفاتيح الغيبيّة إنّ ذاته تعالى باعتبار صفة من الصفات أو تجلّ من التجلّيات سمّي بـ " الاسم " عند العرفاء ، وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء ، وهي معان معقولة في غيب الوجود الحقّ ، تتعيّن بها شؤونه وتجلّياته . وليست بموجودات عينيّة . وقد تطلق الأسماء عندهم على الموجودات العينيّة ، باعتبار كونها مظاهر لتلك الأسماء التي هي معان غيبيّة ، وذلك لاتّحادهما في المفهوم - وإن اختلفا في الوجوب والإمكان - ، مثلاً : للعلم حقيقة ذاتيّة هي كونه عين هويّة الحقّ الأول ، وحقيقة أسمائيّة هي معنى عقليّ انتزاعيّ من شؤون الحقّ وتجلياته ، وحقيقة إمكانيّة هي ذوات العقلاء ؛ فكلّ واحد من العقول المجرّدة عندهم إسم عليمٌ من مراتب اسم الله " العليم " ، وهكذا في جميع الأسماء . فعلى هذا ؛ حقائق العالم كلّها من أسماء الله تعالى ، فتعليمه تعالى أسماء الأشياء لآدم ، إراءته الأجناس التي خلَقها ، وإلهامه إيّاه معرفة أحوالها وما يتعلّق بها من اللوازم والآثار . فصل قوله [ تعالى ] { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } وقرء عبدالله : " عَرضَهُنّ " وقرء أُبيّ : " ثُمَّ عَرَضَهَا " . وفي الكشّاف " أي : عرض المسمّيات . وإنّما ذَكَّر لأن في المسمّيات العقلاء فغلّبهم " - انتهى . وقيل : الضمير للمسمّيات المدلول عليها ضِمناً ، إذ التقدير أسماء المسمّيات ، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه ، وعوّض عنه اللام ، كقوله [ تعالى ] : { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] . لأنّ الغرض السؤال عن أسماءِ المعروضات ، فلا يكون المعروض نفس الأسماءِ ؛ سيّما إن أريد به الألفاظ . والمراد به ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ ، وتذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء . [ المثل النوريّة والأسماء الإلهيّة ] أقول : قد علمت بما سبق من مسلك العرفاءِ ، الاستغناء عن مثل هذه التكلّفات في معنى الاسم ، فلا حاجة إلى ما ذكروه . وأما تذكير الجمع ، فليس من باب التغليب والمجاز ، بل على الحقيقة . بيان ذلك : أن لكل حقيقة نوعيّة - كالإنسان والفرس والغنم والبقر والرطب الحنطة والشعير والياقوت واللَّعْل والفيروزج والأرض والماء والهواء - جوهراً عقليّاً نوريّاً عاقلاً لذاته ، ومعقولاً لذاته ، موجوداً في العالَم الأعلى الإلهي ، حاضراً في علم الله والحضرة الإلهية . فهذه العقول المفارقة والصور المجرّدة العلميّة ، هي بالحقيقة أسماء الله أو أسماء أسمائه ، وهي موجودة أزلاً وأبداً ، لأن ما عند الله باقٍ لا يزول ؛ وليست من جملة العالَم لتتّصف بالحدوث والتجدّد ، والزال والدثور . والبرهان على وجودها مذكور في كتبنا العقليّة . وتقريره : أنّ الباري - جلّ ذكره - كما أنّه فاعل كلّ شيء - إمّا بوسط أو بغير وسط - ، فهو غاية كلّ شيء ، بوسط أو بغير وسط ، لأنّه خيرٌ محض لا شرّية فيه أصلاً ، وكلّ ما هو خير محض ، يطلبه كل شيء طبعاً وإرادة ، وهذا مركوز في جميع الجِبِلاّت والغرائز ، فكلّ موجود سافل إذا تصوّر الوجود العالي ، فلا محالة يطلبه ويشتاقه طبعاً جِبِلّياً أو اختيارياً اضطرارياً ، وهذا الطلب والشوق ، لو لم يكن له غاية حقيقية ، لكان ارتكازه في الجِبِلّية عبثاً معطّلاً - ولا معطّل في الوجود ، والله بريء عن فعل العبث - . فلكلّ سافل إمكان الوصول إلى العالي ، وهذا الإمكان إما ذاتي أو استعدادي ، ففي الإبداعيّات ، إذا وجد الإمكان الذاتي ، حصل المقصود لعدم المانع والقاسر ، وفي المكوّنات ، إذا حصل الاستعداد وزال المانع فكذلك . ثمّ المانع الغير الزائل ، لا يكون إلاّ بحسب الأمر الأقلّي النادر ، لأنّ الخارج عن الطبيعة النوعيّة للشيء ، أو عن لوازمها الذاتية ، يكون أمراً عارضاً إتفاقياً ، والأسباب الإتفاقية لا تدوم - كما ثبَت في موضعه - ، وكلامنا فيما تقتضيه طبيعة كل نوع بحسب ذاته ، وقد ثبت أنّ ذلك إمّا لازم الوقوع ، أو أكثري الوقوع ؛ فالطبائع الكلّية كلّها من حيث ذواتها واصِلة إلى كمالاتها ، وكذا كلّ طبيعة جزئيّة في حركاتها وتشوّقاتها إلى ما هو أعلى منها . ثمّ الغاية في طبيعة جزئيّة أن كانت طبيعية جزئية أخرى ، فلا بدّ بالآخرة أن تصل إلى طبيعة عقليّة - وإلاّ لتسلسل الأمر إلى غير نهاية - ، والغاية في طبيعة عقليّة طبيعة عقليَّة فوقها ، ولا بدّ في الكلّ أن تكون موصلة إلى غاية الغايات ومنتهى الخيرات ، - وهو الباري جلّت أسمائه - دفعاً للدور والتسلسل . فإذا تقرّر هذا فنقول : إنّ لكل طبيعة حسّية - سواء كانت فلكيّة أو عنصريّة - طبيعة أُخرى عقليّة في العالم الإلهي هي كمالها وغايتها وتأكّد وجودها ، وهي الصور المفارقة الإلهيّة منها ، لأنّها صور ما في علم الله ، وحقائق ما عند الله الباقية ببقاء الله ؛ وكأنّها هي التي سمّاها أفلاطون وشيعته بالمُثُل الإلٰهيّة . وهي حقائق متأصّلة ، نسبتها إلى هذه الصور الحسّيات الداثرات نسبة الأصل إلى المثال ، والشخص إلى الظلّ ؛ وإنّما هي أصول هذه الأشباح الكائنة المتجدّدة ، لأنّها حقيقتها وفاعلها وغايتها وصورتها العقليّة المعقولة بالفعل لبارئها دائماً ؛ وأمّا هذه فهي ناقصة غير خالية عن القوّة والإمكان ، سائلة زائلة بحسب وجودها الكوني ، لكنّها في وجودها الكوني التجدّدي ، سالكة مشتاقة إليها ، عائدة محشورة إلى ذلك العالَم . وأمّا تلك الصور العقليّات ، والمُثل النوريّات ، والعلوم الإلهيات ، فهي أبداً ملحقة بفاعلها وغايتها ، ملاحِظة لجمال بارئها ومبدِعها ، لم ترجع إلى ذواتها طرفة عين ، إذ لا ذات لها منفكّة عن ذات مبدِعها ، إذ الامكان هناك لا يفارق الفعليّة ، والقصور لا يباين التمام ، فهي أبداً مستهلكة الذوات في ذات حبيبها الأول ، لا فرق بينها وبين حبيبها كما ورد في الخبر القدسي ، ولا مجال لها في الأنانيّة والغيريّة . وأما إبليس وجنوده ، فليسوا منها ولا من حزبها ، وإلاّ لما وقَع من هؤلاء الإباء والأنانيّة . فإذا انكشف هذا ، فقد وضح وتبيّن سرّ قوله تعالى : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } - بضمير جمع ذوي العقول - ، فإنّ هذه الصور المفارقة - كما ثبَت - أسماء إلهيّة وعقلاءٌ ربّانيّة ، وجودهم فوق وجود الملائكة السماويّة ، وللإنسان الكامل الذي هو مظهر الأسماءِ كلّها ، أن يتّصل بعد سلوكه إلى الله بقدم العبوديّة - لا الأنانيّة - وعبوره على المراتب والمنازل الأرضيّة والسماويّة ، وأن يطّلع على تلك الحقائق ، ويتخلّق بأخلاق خلاّق الخلائق - وذلك هو الفوز العظيم والمنّ الجسيم - . وأما غير الإنسان الكامل - سواء كان مَلَكاً أو إنساناً أو حيواناً أو شيطاناً - فليس له إلاّ مقام واحد ، ولا عبوديّة له إلاّ لاسم واحد هو مربوبه خاصّة لا يتعدّاه ، لأنّه أبداً تحت تربية ذلك الاسم الواحد . فصل قوله : { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } أي : فنبّههم على قصورهم عن معرفة أسماء الموجودات ، أي حقائقها ، لأنّ حقيقة الشيءِ هي علامته ووجهه عند أهل الحقيقة . أو أسماء الحقّ أي : مظاهرها ومربوباتها ، وإنّما قال ذلك ، تبكيتاً لهم ، واظهاراً لعجزهم عن أمر الخلافة والنيابة الإلهيّة ، وليس أمراً تكوينيّاً ، وإلاّ لكان مؤثّراً في صيرورتهم كذلك ، ولا أمراً تكليفيّاً ، وإلاّ لكان من التكليف بالمحال . " الإنباء " : إخبار فيه إعلام ، ولذلك يجري مجرى كل واحد منهما ، والمراد هٰهنا : كونوا بحيث توجد فيكم حقائق الإنباء وملكوت الأشياء ، كما في الإنسان الكامل بحسب تطوّره في الأطوار ، ومروره على كلّ العوالِم والنشئات ، ومظهريّته لجميع الأسماء ، إن كنتم صادقين في زعْمكم أنكم أحقّاءٌ بالخلافة ، وأنّ استخلاف الإنسان لا يليق بالحكمة ، وهو مصحوب لهاتين الصفتين : إفساد القوّة الشهويّة ، وسفْك القوّة الغضبيّة . وهذا الزعم ، وإن لم يصرّحوا به ، لكنّه لازم من مقالهم ، والتصديق ، كما يتطرّق إلى الكلام باعبتار منطوقه ، [ كذلك ] قد يتطرّق إليه بعرض ما يلزم مدلوله من الأخبار ، وبهذا الاعتبار يعتري الانشائيات . إشارة نوريّة قد ظهَر لك فيما مرّ ذكره مراراً ، أن أسماء الله تعالى أصل حقائق الممكنات ، وأن عالَم الأسماء الإلهيّة أصل هذا العالَم بجميع ما فيه من الصور الكونيّة السماويّة أو الأرضيّة ، وأنّ هذه الصور الكونيّة ، كعكوس وأظلال لحقائق تلك ، حتى أن العرفاء الشامخين ، والأولياء الكاملين ، يشاهدون بأنوار بواطنهم عالَم الأسماء وترتيبها ، وتقدّم بعضها على بعض وتسلّطه عليه ، وتأخّر بعضها عن بعض وانقهاره له ، ترتيباً سببيّاً ومسببيّاً ، وكثرة جمعيّة لا تقدح في وحدة الذات . فإن أردت كشفاً وايضاحاً لما قد سبق ذكره ، فاسمَع أُنموذجاً من علم الأسماء واجعل بالك له ، ولا تتوهّم الكثرة في ذات الله تعالى ، ولا تعدّد القدماءِ ، ولا الإجتماع الوجودي في عالم النسب المعقولة ، فإنّ الذات الواجبيّة واحدة بالحقيقة ، كثيرة بالأسماء . قال لسان التحقيق في كشف هذا المقصد العميق : " إنّ الممكنات في حال عدمها الإمكاني سألت الأسماء الإلهيّة سؤال ذلّة وافتقار ، وقالت لها : إنّ العدم قد أعمانا عن إدراك بعضنا بعضاً ، وعن معرفة ما يجب لكم من الحقّ علينا ، فلو أنّكم أظهرتم أعياننا وكسوتمونا حلّة الوجود ، أنعمتم علينا بذلك ، وقمنا بما ينبغي لكم من الإجلال والتعظيم ، وأنتم أيضاً كانت السلطنة تصحّ لكم بظهورنا بالفعل ، وأنتم [ اليوم ] علينا سلاطين بالقوّة والصلاحيّة ؛ فهذا اليوم نطلبه هو في حقّكم أكثر ممّا في حقّنا . فقالت الأسماء : إنّ هذا الذي ذكرته الممكنات صحيح ، فاتّفقت بحضرة المسمّى ونظرت في حقائقها ومعانيها ، فطلبتْ ظهور أحكامها حتّى تتميّز أعيانها بآثارها ، فإنّ الخلاّق والمقدِّر والعالِم ، والمصوِّر والمدبِّر ، والمفصِّل والبارئ ، والرّزاق والمحيي والمميت ، وجميع الأسماء الإلهيّة نظَروا في ذواتهم ، ولم يروا مخلوقاً ولا مقدوراً ولا معلوماً ولا مصوَّراً ولا مدبَّراً ولا مفصَّلاً ولا مرزوقاً . فقالوا : كيف العمل حتى تظهر هذه الأعيان التي تظهر أحكامنا فيها فيظهر سلطاننا ؟ فجاءت الأسماء الإلهيّة التي تطلبها بعض حقائق العالَم بعد ظهور عينه إلى الإسم البارئ ، فقالوا : عسى [ أن ] توجد أعيان هذه الأحكام لتظهر أحكامنا ، إذ الحضرة التي نحن فيها لا تقبل تأثيرنا . فقال الباري : ذلك راجعٌ إلى الإسم القادر ، فإنّي تحت حيطته . فلمّا لجأوا إلى القادر قال : أنا تحت حيطة المُريد ، فلا أوجد عيناً منكم إلاّ باختصاص ، ولا يمكّنني الممكن من نفسه إلاّ أن يأتيه أمرُ الآمر من ربِّه ، فإذا أمره بالتكوين وقال له : " كُنْ " ، يمكّنني من نفسه ، وتعلّقت بايجاده ، فكوّنته من حينه ، فالجأوا إلى الإسم المريد ، عسى أنّه يرجّح ويخصّص جانب الوجود على جانب العدم ، فحينئذ نجتمع أنا والآمر والمتكلّم ونوجدكم . فالتجأوا إلى الإسم المُريد فقالوا له : إنّ الإسم القادر سألناه في ايجاد أعياننا ، فأوقف أمر ذلك عليك ، فما ترسم ؟ فقال المريد . صدق القادر ، ولكن ما عندي خبر ما حكم الإسم العالم فيكم - هل سبق علمه بايجادكم فاخصّص ، أولم يسبق ؟ - فأنا تحت حيطة الإسم العالِم ، فسيروا إليه واذكروا [ له ] قضيّتكم . فساروا إلى الإسم العالِم ، وذكروا له ذلك ، فقال العالم ، قد سبَق علمي بايجادكم ، ولكن الأدب أولى ، فإن لنا حضرة مهيمنة علينا وهي الإسم الله ، فلا بدّ من حضورنا عنده ، فإنّها حضرة الجمع . فاجتمعت الأسماء كلّها في حضرة الإسم الله ، فقال : ما بالكم ؟ فذكروا له الخبر ، فقال : أنا إسم جامع لحقائقكم ، وإنّي دليلٌ على مسمّى ، وهو ذات مقدّسة له نعوت الكمال والتنزيه ، فقِفُوا حتى ادخل على مدلولي . [ فدخل على مدلوله ] فقال له ما قالته الممكنات وما تحاوَرت فيه الأسماء . فقال : اخرج وقلْ لكلّ واحد من الأسماء يتعلّق بما تقتضيه حقيقته في الممكنات ، فإنّي الواحد الأحد لنفسي ، والممكنات إنّما تطلب مرتبتي وتطلبها مرتبتي ، والأسماء الإلهيّة كلّها للمرتبة - لا لي - ، إلاّ الواحد خاصّة . وهو اسم خصيص [ بي ] لا يشاركني في حقيقته من كلّ وجه أحدٌ ، لا من الأسماء ، ولا من المراتب ، ولا من الممكنات . فخرج الإسم " الله " ومعه الإسم " المتكلّم " ، يترجم عنه للممكنات والأسماء فذكر لهم ما ذكره المسمّى ، فتعلّق العالِم والمُريد والقادرُ ، فظهر الممكن الأول من الممكنات بتخصيص المريد وحكم العالِم ، فلمّا ظهرت الأعيان والآثار في الأكوان ، وتسلّط بعضها على بعض ، وقهر بعضها بعضاً ، بحسب ما يستند إليه من الأسماء ، فأدّى إلى منازعة وخصام ، فقالوا : إنّا نخاف علينا أن يفسد علينا نظامنا ، ونلحق بالعدم الذي كنّا أولاً فيه ، فنبّهت الممكنات الأسماء بما ألقى إليها الإسم العليم والمدبِّر ، وقالوا أنتم - أيُّها الأسماء - ، لو كان حكمكم على ميزان معلوم وحدّ مرسوم بإمام ترجعون إليه يحفظ علينا وجودنا ، ونحفظ عليكم تأثيراتكم فينا ، لكان أصلح لنا ولكم ، فالجأوا إلى الله عسى أن يقدّم من يحدّد لكم حدّاً تقفون عنده ، وإلاّ هلكنا وتعطّلتم . فقالوا : إن الإسم " المدبِّر " ينهي أمركم ، فانتهوا إلى المدبِّر ما قالته الممكنات ، فقال : أنا لها ، فدخل وخرج بأمر الحقّ إلى الإسم " الربّ " وقال له : افعَل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان هذه الممكنات . فاتّخذ وزيرين يعينانه على ما أمره به الوزير الواحد الإسم المدبِّر ، والآخر الإسم المفصِّل - قال [ تعالى ] : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [ الرعد : 2 ] . الذي هو الإمام ، فانظر ما أحكم كلام الله تعالى حيث جاء بلفظ مطابق للحال الذي ينبغي أن يكن الأمر عليه . فجاء إسم الرب فرتّب لهم الحدود ، ووضع لهم المراسم لإصلاح المملكة ، وليبلوَهم أيُّهم أحسَن عملاً ، وجعل الله ذلك قسمين : قسْم يسمّى سياسة حكميّة ألقاها في فطَر نفوس الأكابر من الناس ، بحسب ما تدركه عقولهم وآراؤهم ، فحدّوا حدوداً ، ووضعوا نواميس رسميّة بحسب ما يقتضيه صلاح كلّ إقليم وكلّ زمان ، وانحفظت بذلك أموال الناس ودماؤهم وأهلوهم وأرحامهم وأنسابهم ، وسمّوها نواميس . وقسْمٌ يسمّى شريعة إلهيّة ، يجيء بها الوحي الإلهي إلى مَن اصطفاه الله وارْتضاه من خلقه ، ولم يكن قبل هذا الوحي يعلم أحدٌ بأنّ الله فرَض على عباده أُموراً مقرّبة إلى الله ، تورِث جنَّة وحريراً ، وأُخرى مبعّدة منه ، تورِث ناراً وزمهريراً ، ولا علموا قبلهم أن ثمَّة آخرةً وبعثاً محسوساً بعد الموت في أجساد طبيعيّة ، وداراً فيها أكْلٌ وشُربٌ ولباسٌ ونكاحٌ ، وداراً فيها عذابٌ وآلامٌ . ثمّ بعث الله رسولاً بعد رسول ، ولم يخل الأرض عن خليفة هو مظهر الإسم الله ، إذ به تنتظم أُمور الخلق بماله من الجمعية الإلهيّة والعدالة الحقيقيّة ، التي يرجع بها إليه كلّ الخلائق في حوائجهم وانتظام أُمورهم ومعايشهم ، كما في الإسم " الله " من المقام الجمعي الإلهي ، الذي ترجع إليه الأسماء كلّها ، فهذا سرّ الخلافة وتعليم الأسماء في الإنسان الكامل ، وعدم استحقاق غيره لهما . مثال ذلك في العالم الصغير الإنساني : أَوَلاَ ترى أنّ كل قوّة من القوى ، إذا تفرّدت بخاصّ فعلها ، فهي محجوبة بنفسها عن غيرها ، لا ترى أفضل من ذاتها - كالملائكة التي نازَعت في آدم - ، كالعقل والوهم والخيال والحسّ ، فإنّ كلاً منها يدّعي السلطنة على هذا العالَم الصغير الإنساني ، ولا يذعن ولا ينقاد لغيره . إذ العقل يدّعي أنّه محيط بالكلّيات ، مدرك لجميع الحقائق والماهيّات على ما هي عليه بحسب القوّة النظريّة . وليس كذلك ؛ ولهذا احتجب أرباب العقول عن الحقّ وصفاته ، وسرّ المعاد ، وحشر الأجساد ، لتقليدهم عقولهم ، وغاية عرفانهم ، العلم الإجمالي بأنّ لهم موجِداً ربّاً منزّهاً عن الصفات الكونيّة ، ولا يعلمون من الحقائق إلاّ لوازمها وخواصّها . وأرباب التحقيق وأهل الطريق ، علموا ذلك مجملاً ، وشاهَدوا تجلّياته وظهوراته مفصّلاً ، فاهتدوا بنوره ، وسروا في الحقائق سريان تجلّيه فيها : وكشفوا عنها وخواصّها ولوازمها كشفاً لا تمازجه شبهة ، وعلموا الحقائق علماً لا تطرء عليه ريبة ، فهم عباد الرحمن الذين يمشون في أرض الحقائق هوناً ، وأرباب النظر عبّاد عقولهم لا يقبلون إلاّ ما أعطته عقولهم . وكذا الوهْم ، يدّعي السلطنة ويكذب العقل في كلّ ما هو خارج عن طور إدراكه للمعاني الجزئيّة دون الكلّية ، وكذا غيرهما من المدارك الجزئيّة ، وكذا القوى التحريكيّة - كالشهوة والغضب عند هيجانهما وتغاليبهما - . وأمّا القلب المنوّر بنور المحبّة والعشق ، فهو الذي يدرك بحقيقته كلّ شيء بأمر ربّها لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً ، وذلك لكون حقيقته متّصفة بجميع الكمالات ، جامعة لحقائقها الموجودة قبل وجوده ، حتّى كان يمرّ عند تنزّلاته عليها ، فيتّصف بمعانيها طوراً بعد طور من أطوار الروحانيّات والسماويّات والعنصريّات . إلى أن يظهر في صورته النوعيّة الحسّية النازلة عليه من الحضرات الأسمائيّة ، ما لا بدّ أن يمرّ على هذه الوسائط أيضاً ، إلى أن يصل إليه ويكمله . وذلك المرور لتهيئته استعداده بأطوار الملكات للكمالات اللائقة ، ولاجتماع ما فصل من المقام الجمعيّ الإلهي من الحقائق والخصائص التفصيليّة الواقعة في مقام التفرقة الكونيّة ، وللاشهاد والاطّلاع على ما أريد أن يكون خليفة عليه ، ولهذا لا يجعل خليفة إلاّ عند انتهاء السفر الثالث ، ولولا هذا المرور لما أمكن العروج للكمّل ، إذ الخاتمة مضاهية للسابقة وبه تتمّ الحركة المعنويّة . وما يقال : " إن علم الأولياء والأنبياء عليه السلام تَذَكُّري لا تَفَكُّري " . وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " الحكمة ضالّة المؤمن " ، إشارة إلى هذا المعنى ، لا إلى أنّه وجد في النشأة العنصريّة مرّة أخرى ، ثمّ عرَض له النسيان بواسطة التعلّق بنطفة أخرى ، ومرور الزمان عليه إلى أوان تذكّره - كما على رأي التناسخيّة - فهو مفسوخ الصحّة بالبرهان العرشي . فصل [ لا شيء أفضل من العلم ] وهذه الآية من أدلّ الدلائل على فضيلة العلم ، وعِظم شأن حامله ، فإنّه تعالى ما أظهر كمال حكمته في خلقة آدم ، وجعله خليفة في الأرض أولاً ، ومسجوداً للملائكة في السماءِ ، إلاّ بأن أظهر علمه بالأسماء ، فلو كان شيء أشرف من العلم ، لكان من الواجب اظهار فضله بذلك الشيء - لا بالعلم - . فاعلم أنّه يدلّ على فضيلة العلم دلائل من العقل والكتاب والسنّة . أمّا العقل : فاعلم أنّ العلم عبارة عن صورة الشيء المجرّدة عن مادّته ، وكلّ صورة مجرّدة عن الموادّ فهي موجودة بوجود عقلي ، وكلّ موجود عقلي ، فهو إمّا معقول لذاته - فيكون عاقلاً وعقلاً لذاته - ، فلا يصحبه شرٌّ وآفة وعدمٌ وزوال ؛ لأنّ الشرور والآفات والأعدام ، من لوازم الموادّ والأجسام والجسمانيات ، فيكون كمالاً لذاته ، وسعادة لنفسه ، لا توجد مثل تلك السعادة فيما لم تكن صورته مجرّدة عن المادّة وعلائقها . وإمّا أن يكون معقولاً لغيره ، بأن يكون وجوده العقلي حاصلاً لذلك الغير ، فيكون ذلك الغير من الموجودات المجرّدة عن الموادّ ، لاستحالة أن تكون الصورة المجرّدة حاصلة لما ليس بمجرّد ، إذ كلّ صورة ماديّة يصحبها مقدار خاصٌّ ووضع خاصّ وشكل خاصّ ، وهيئات جسمانيّة مانعة عن احتمال كونها معقولاً كليّاً صادقاً على كثيرين ، وقد علمت أنّ كلّ مجرّد عن الموادّ وعالَم الأضداد ، فهو سعيد ، غاية السعادة الممكنة في حقّه . طريق آخر : إنّ السعادة على ضربين : بدنيّة وعقليّة . والبدنيّة ما تدرك بالمشاعر الجسمانيّة كالسمع للمسموعات ، والبصَر للمبصرات ، والذوق للمذوقات ، والخيال للمتخيّلات والعقليّة ما تدرك بالقوّة العاقلة ، كادراك العقل للمفارقات كذات الباري وصفاته وأسمائه وملائكته العلويّة . والحكماء الإلٰهيّون والأولياء الربّانيّون ، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في اصابة اللذّات والخيرات البدنية الدنيويّة أو الأخرويّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك ، وإن أعطوها على وجه الدوام والاستمرار - كما في الآخرة - ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي إدراك الصور العقليّة المفارقة الذوات عن المحسوسات وما يليها . وبيان ذلك بالتفصيل ، أنّه يجب أن يعلم أنّ لكل قوة من قوى النفس الإنسانية لذّة وخيراً يخصّها ، وأدى وشرّاً يخصّها . مثاله : أن لذّة الشهوة وخيرها أن تتأدّى إليها كيفية محسوسة ملائمة من المدركات الخمسة المشهورة ، ولذّة الغضب الظفر بالإنتقام ، ولذّة الوهم الرجاء ، ولذّة الحافظة تذكّر الأمور الموافقة الماضية . وأذى كلّ واحدة منها ما يضادّه . وتشترك كلها - نوعا من الشركة - ، في أنّ الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها ، وموافق كل منها هو وجود الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ؛ والإنسان جامع لجميع هذه القوى والغرائز ، فلكلّ قوة وغريزة منه لذّة وألَم بإزائها ، ولذّتها في نيلها بمقتضى طبعها الذي خلقت له ، وهي سعادتها ، فإنّ هذه الغرائز ما ركزت في الإنسان عبثاً ولا هزلاً . ثمّ إن هذه القوى ، وإن اشتركت في هذه المعاني ، إلاّ إنّ مراتبها في الحقيقة مختلفةٌ ، ودرجاتها متفاوتةٌ . فالذي كماله أفضل وأتمّ ، والذي كماله أكثر وأدوم ، والذي كماله أوصل وأحصل له ، والذي هو في نفسه أكمل فعلاً وأفضل ، والذي هو في نفسه أشدّ إدراكاً : فاللذّة والسعادة اللتان له أبلَغ وأشدّ ، وأوفر وآكد . فإذا تقرّر هذا فنقول : وكذلك للإنسان غريزة تسمّى بالنور الإلهي في قوله : { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] . وتسمّى بالقوّة العاقلة ، والبصيرة الباطنة . وهي تدرك المعاني التي ليست متخيّلة ولا محسوسة ، كادراكها حدوث العالَم وافتقاره إلى مدبّر حكيم موصوف بصفات الإلهيّة ، فاعل للحقائق الأسمائيّة ، وخلقت لأن تدرك حقائق الأشياء . وكمالُها الخاصّ بها ، الذي به سعادتها الأصليّة ، التي هي فوق سعادة قواها وغرائزها الحسيّة والخياليّة والوهميّة ، هو أن تصير في ذاتها عالَماً عقلياً موجوداً فيه صور الكلّ ، والنظام المعقول في الكلّ ، والخير الفائض في الكلّ ، مبتدءة من مبدء الكلّ ، وسالكةٌ إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ، ثمّ النفسانيّة المتعلّقة ، ثمّ الأجسام العلويّة بقواها وهيئاتها ، ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه ، فتنقلب عبداً مطيعاً لله ، متقرّباً إليه ، مشاهِداً لما هو الحسن المطلق ، والخير المطلق ، والجمال الحقّ المطلق ، ومتّحدة به ، ومنتقشة بمثاله وهيئته ، ومنخرطة في سلكه وصائرة [ إليه ] وبذلك فليعمَل العاملون ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، ويفتخر المفتخرون ، ويباهي المباهون ، لأنّه إذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأُخرى ، ولمَن في طبقتها من الأشخاص ، وجد هذا بالمرتبة التي يقبح معها أن يقال : " إنّه أفضل وأتمّ منها " ؛ بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه تماماً ، وفضيلة ، وكثرة ، وسائر ما يتمّ به الذاذ سائر المدركات واسعادها . أمّا الدوام ، فكيف يقاس دوام الأبدي بدوام المتغيّر الفاسد ؟ وأمّا شدّة الوصول ، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح ، بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنّه هو بلا انفصال ؟ إذ العقل والعاقل والمعقول شيء واحد - كما هو عند التحقيق - أو قريب من الواحد كما عليه الجمهور . وأما أن المدرك في نفسه أكمل ، فأمرٌ لا يخفى . وأما أنّه أشدّ إدراكاً ، فأمر أيضاً تعرفه بأدنى تذكّر منك لما مضى بيانه ، فإنّ البصيرة الإنسانيّة أكثر عدد مدركات وأشد استقصاء للمدرك ، وأشدّ تجريداً له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلاّ بالعرض ؛ ولها أيضاً الخوض في باطن المدرك وظاهره ولبّه وقشره . بل كيف يقاس هذا الإدراك العلمي بذلك الإدراك الحسّي ، أو تقاس هذه السعادة العقليّة بتلك اللذّة الحسّية والبهيمية والغضبيّة ؟ بل لا يخفى أنّ في العلم والمعرفة لذّة لا تكافيها لذّة ، ونحن في عالَمنا وبدننا هذين ، ولانغمارنا في بعض الرذائل ، لا نحسّ بتلك اللذّة ولا نحنُّ إليها ؛ لكنّا لو خلَعنا ربقة الشهوة والغضب واخواتهما عن أعناقنا ، نفضنا آثارها عن أذيالنا ، وطالَعنا شيئاً من تلك اللذّة فحينئذ ربما تخيّلنا خيالاً طفيفاً ضعيفاً - وخصوصاً عند انحلال المشكلات ، وإزالة الشبهات ، واستيضاح المطلوبات النفسية - من تلك السعاة التي كلامنا فيها ، ومع ذلك نجد منها لذة نستحقر بها سائر اللذات . وممّا يوضح أن اللذّات العقليّة ، والكمالات العلميّة ، أعظم وأقوى ، أنّ كلّ قوّة باطنة فبقدْر بطونها ألذّ كمالاً وأقوى بهجة من كلّ قوّة ظاهريّة ، حتى أنّ العالَم بالشطرنج - على خسّته - لا يطيق السكوت عن التعليم ، وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه . وأنت تعلم أنّك إذا تأمّلت عويصاً يهمّك ، وعرضَت عليك شهوة وخُيّرت بين الظفرين ، استخففت بالشهوة إن كنت عالي النفس كريم الهمّة ، والأنفس العاميّة أيضاً فإنّها تترك الشهوات المعترضة ، وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعبير أو سوء مقالة ، ولو خيّر الرجل بين لذّة الهريسة والدجاج المسمّنة واللوذينج ، وبين لذّة الرياسة والحكومة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء ، فإن كان المخيَّر خسيس الهمّة ، ميّت القلب ، شديد البهيميّة ، اختار الهريسة والحلاوة ؛ وإن كان عالي الهمّة ، كامل العقل ، اختار الرياسة ، وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أيّاماً كثيرة . نعم ؛ الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنيّة كالصبي ، أو الذي ماتت قواه الباطنيّة كالمجنون والمعتوه ، لا يبعد أن يؤثر لذّة المطعومات على لذّة الرياسة والكرامة . وبهذا يتبيّن أنّ العلم بالله وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله وتدبيره من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين ، أقوى اللذّات والسعادات ، وأعلى الابتهاجات على مَن جاوز نقصان الفطرة والصبا ، وقصور الخليقة . وأنّ لذّة مطالعة جمال الحضرة الإلهية ، والنظر إلى أسرار الأمور الربّانيّة ، ألذّ من كلّ حكومة ورياسة ، ومن كلّ شهوة وانتقام . ولا يمكن فهم هذه اللذّة لغير الحكماء الراسخين ؛ وغاية العبارة عنها أن يقال كما قال الله [ تعالى ] : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . " وانه أعد لهم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر " . وهذا ممّا لا يعرفه الآن إلاّ من ذاقَ اللذّتين جميعاً - أي لذّة الرياسة - وهي فوق اللذّات الحيوانيّة ، ولذّة المعرفة الإلهيّة . فإنّه لا محالة يؤثر التبتّل والتفرّد ، والفكر والذكر ، وينغمس في بحار المعرفة ؛ ويترك الرياسة ، ويستحقر الخلْق الذين يرأسهم ، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته ؛ وكونه مشوباً بالكدورات التي لا يتصوّر الخلوّ عنها ، وكونه مقطوعاً بالموت الذي لا بدّ من إثباته مهما أخذت زخرفها وازّيَّنت وظن أهلها أنَّهم قادرون عليها . فتشغله لذّة معرفة الله تعالى ، ومطالعة صفاته وأفعاله ، ونظام مملكته من أعلى عليّين إلى أسفل سافلين ، فإنّها خالية عن المتزاحمات والمكدّرات ، متّسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكثرتها ، وإنّما عَرْضُها من حيث التقدير السماوات والأرضون . وإذا خرج النظر عن المحدودات والمقدورات ، فلا نهاية لعرْضها ، فلا يزال العارف الربّاني بمطالعة معلوماته في جنّةٍ عرْضُها السموات والأرض ؛ يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ، وهو آمن من انقطاعها ، إذ ثمار هذه الجنَّة غير مقطوعة ولا ممنوعة ، ثمّ هي أبديّة سرمديّة لا يقطعها الموت ، إذ الموت لا يهدم محلّ معرفة الله ، لأنّ محلّها الروح الذي هو أمرٌ ربّاني وسرٌّ أسمائي ونورٌ إلهي ، إنّما الموت يغيِّر أحوالها ، ويقطع شواغلها وعوائقها ، ويخلّيها ودارها ومنزلها ومعادها ، وأمّا أن يعدمها فلا . { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } [ آل عمران : 169 - 170 ] الآية . ولا تظننّ أنّ هذا مخصوصٌ بالمقتول في المعركة ، فإنّ للعارف بكلّ نَفَس درجةَ ألف شهيد ، وفي الخبر : " إنّ الشهيد يتمنّى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا ليقتل مرّة أُخرى لعظم ما يراه من ثواب الشهادة ، وإنّ الشهداء يتمنّون أن يكونوا علماء لما يرون من علوّ درجة العلماء " . فإذاً جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف ، يتبوّء منها حيث يشاء ، من غير حاجة إلى أن يتحرك اليها بجسمه وشخصه ، فهو من ملاحظة جمال الملكوت في جنّةٍ عرضها السموات والأرض ، وكلّ عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعضٍ أصلاً ، إلا أنهم يتفاوتون في سعة متنزّهاتهم بقدر تفاوتهم في اتّساع نظرهم وسعة معارفهم : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] … ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم ومقاماتهم . وقد ظهر أن لذة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواسّ كلّها ، وأن هذه اللذّة لا تكون لبهيمة ولا صبيّ ولا معتوه ، وأنّ لذّة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذّة الرياسة ، ولكن يؤثرون الرياسة . فأمّا كون معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وملكوت سمٰواته ، وأسرار ملكه ، أعظم لذّة من الرياسة ، فهذا يختصّ بمعرفته من نال رتب المعرفة وذاقَها ، ولا يمكن اثبات ذلك عند من لا قلب له ، لأنّ القلب معدن هذه القوّة ؛ كما أنّه لا يمكن إثبات رجحان لذة الوقاع على لذّة اللعب بالصولجان عند الصبيان ، ولا رجحانه على لذّة شمّ البنفسج عند المزكوم ، لأنّه فاقد الصفة التي تدرَك بها هذه اللذّات ، ولكن من سلم من آفة العُنَّةِ ، وسلمت حاسّة شمّه ، أدرك التفاوت بين اللذّتين ، وعند هذا لا ينبغي إلاّ أن يقال : " مَنْ ذاقَ عرفَ " . ولعمري إن طلاّب العلوم - وإن لم يشتغلوا بطلب معرفة العلوم الإلهيّة - فقد استنشقوا رائحة هذه اللذّة عند انكشاف المشكلات ، وانحلال الشبهات التي قوي حرصهم على طلبها ، فإنّها أيضاً معارفٌ وعلومٌ ، وإن كانت معلوماتها غير شريفة شرف المعلومات الإلهيّة ، فأمّا من طال فكره في معرفة الله سبحانه ، وقد انكشف له من أسرار ملك الله - ولو الشيء اليسير - ، فإنّه يصادف في قلبه - عند حصول الكشف - من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجّب من نفسه في ثباته واحتماله لقوّة فرحه وسروه - وهذا ممّا لا يدرك إلاّ بالذوق - . فهذا القدر ينبّهك على أن معرفة الله ألذّ الأشياء وأعظم السعادات ، لا سعادة فوقها ، وأن لا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه - سيّما إذا كان مشفوعاً بالاستكبار والافتخار - . تنبيهاتٌ عقليّةٌ واعلم أنّ كون العلم صفة شرف وكمال ، وكون [ الجهل ] صفة نقصان ، أمر معلومٌ للعقلاء بالضرورة ، ومما يدل على فضيلة العلم ، أنّه إذا سُئل الواحد منّا عن مسألة علميّة قد علمها ، وقدر على الجواب الصواب فرح بذلك وابتهج به ، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك ، وهذا أمرٌ فطري . وذلك يدل على أنّ اللذّة الحاصلة بالعلْم ، أكمل اللذّات ، والشقاوة الحاصلة بالجهل ، أشنع أنواع الشقاء . وأيضاً ، لو قيل للرجل العالِم : " يا جاهِل " ، فإنّه يتأذّى بذلك ، وإن كان يعلم كذب ذلك . ولو قيل للرجل الجاهل : " يا عالِم " ، فرح بذلك ، مع علْمه بكذب ذلك . وأيضاً ، فالعلْم أينما وُجد ، كان صاحبه معظّماً محترماً ، حتّى أن الحيوان إذا رأى الإنسان ، احتشمه بعض الإحتشام ، وانزجر به بعض الانزجار ، وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان . والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم بالعلْم ، وإنّ كثيراً ممّا كانوا يعاندون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويريدون قتله ، كانوا إذا وقع بصرهم عليه ، ألقى الله في قلوبهم الرعب ، فهابوه وانقادوا له - شعر - : @ لو لم يكن فيه آياتٌ مبيّنة كانت بداهته تغنيك عن خبر @@ وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلاّ لاختصاصه بالمزيّة النورانيّة واللطيفة الربّانيّة ، التي لأجلها صار مستعدّاً لإدراك حقائق الأشياء ، والاشتغال بعبادة الله تعالى . والجاهل ، كأنّه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها ، والعالم كأنّه يطير في أقطار الملكوت ، ويسبح في بحار المعقولات ، فيطالع الموجود والمعدوم ، والواجب والممكن والمحال . ثمّ يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرَض ، والجوهر إلى البسيط والمركّب ؛ ويبالغ في تقسيم كلّ منها إلى أنواعها ، وأنواع أنواعها ، وأجزائها ، وأجزاء أجزائها ، والجزء الذي به يشارك غيره ، والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثّره ، ومعلوله وعلّته ؛ ولازمه وملزومه ، وكليّه وجزئيّه ، فيصير كالنسخة الشريفة التي فيها صور المعلومات بتفاصيلها ، وكالصحيفة المنشورة ، وكالكتاب المبين الذي فيه آيات مبيّنات من أسرار الملكوت ، وإنّ الجوهر العاقل منه في عالم الأرواح ، كالشمس في عالم الأجسام ، لكونه كاملاً ومكملاً ، وواسطة بين الله وبين عباده . توضيحٌ برهانيٌّ [ شرف العلم وتأثّر النفوس من العقل الفعّال ] لو أردت أن تسمع كلاماً في بيان أن نسبة الجوهر العاقل من الإنسان إذا خرج من القوّة إلى الفعل ، كانت نسبته إلى المعاني العقليّة والمفهومات الكليّة في عالَم الأرواح ، كنسبة هذه الشمس المحسوسة إلى الأنوار العرَضيَّة والأضواء الشمسيَّة في عالَم الأجسام - فاسمع : إنّ الإنسان في أول نشأته يكون عقلاً بالقوّة ، ومعقولاً بالقوة ، وإن كان حيواناً محسوساً بالفعل ، لكونه آخر المعاني الجسمانيّة وأول المعاني الروحانيّة ، كبرزخ متوسّط بين العالَمين ، وسور واقع بين الدارين { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] . فأول ما يحدث في قوّة نفسه الحسّاسة ، رسوم المحسوسات من القوى الحاسّة التي هي روازن ، ثم تجتمع المحسوسات المختلفة الأجناس ، المدركة بأنواع الحواسّ الخمسة ، ويحدث عن المحسوسات الحاصلة في القوّة الحاسّة الرئيسية ، رسول المتخيّلات في قوّة نفسه المتخيّلة . فتبقى هنالك محفوظة بعد غيبتها عن مباشرة الحواسّ لتجردها عن المادّة ضرباً من التجرّد ، فيحكم فيها بالجمع والتفريق ، والتركيب والتفصيل ، فيفرد بعضها عن بعض ، ويركّب بعضها إلى بعض ، فيحلّل الأشخاص إلى الأنواع ، والأنواع إلى الأجناس ، والأجناس إلى أجناس الأجناس ، وكذا يستخرج بالتحليل فصولها القريبة والبعيدة . ثمّ تركّب الأجناس بالفصول ، وتحصل الأنواع ، وأنواع الأنواع ، كلّ ذلك بحسب صورتها الجزئيّة المثاليّة . ثمّ ينتبه بواسطة قوّة النفس الناطقة للعقليّات والكليّات ، فترتسم في هذه القوة صوَر المعقولات التي هي في جواهرها عقولٌ بالفعل ، ومعقولات بالفعل ، وهي الأشياء البريئة من المادّة ، ومنها صور المعقولات التي هي ليست بجواهرها معقولة بالفعل - مثل الحجارة والشجر والفرس - ، وبالجملة ما هو جسم ، أو صورة في جسم ذي مادّة ، والمادّة نفسها ، وكلّ شيء قوامه بها ؛ فإنّ هذه ليست عقولاً بالفعل ، ولا معقولات بالفعل ، ولا القوّة النفسانية التي في الإنسان في أول حاله عقلٌ ولا معقول ولا عاقل بالفعل ؛ وإنّما تصير عقلاً بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات . فهي محتاجة كالمعقولات بالقوّة إلى شيء آخر ينقلها من حدّ القوّة إلى أن يصيِّرها إلى الفعل ، والفاعل [ الذي ] يجعلُها بالفعل ، هو جوهرٌ عقليٌّ بالفعل دائماً ، غير محتاج إلى شيء آخر يصيّرها بالفعل ، وإلاّ لعاد الكلام ويتسلسل . وذلك العقل يعطي العقلَ الهيولاني - الذي هو بالقوّة عقلٌ - ، شيئاً مّا ، بمنزلة الضوء الذي يعطيه الشمس البصر ، لأنّ منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصَر ، وإن البصر هو قوّة وهيئة ما في مادة ، وهو من قبل أن يبصر مبصِرة ومريئة بالقوّة ، وليس في جوهرها كفاية في أن تصير مبصِرة بالفعل ، وإذا أعطت الشمس ايّاها ضوءاً تقبله ، وأعطت الألوان ضوءاً تقبله بها ، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصِراً بالفعل ، وتصير الألوان بذلك الضوء مبصَرةً مرئيَّة بالفعل - بعد أن كانت مبصَرة مرئيَّة بالقوّة - . كذلك هذا العقل الذي يفيد العقل الهيولاني شيئاً ما يرسمه فيه ، منزلة ذلك الشيء منه منزلة الضوء من البصَر ، وكما أن البصَر يبصر الضوءَ نفسه متّصلاً به ، ويدرك الشمس التي هي سبب الضوء فيه متّصلاً بها كأنّه هي ، ويبصر بالفعل الأشياء التي كانت مبصرة بالقوّة متّصلاً بها ؛ فكذلك العقل الهيولاني ، إذا استفادت العقل بالفعل وصارت مصوّرة بها ، منوّرة بنور ربها ، يعقل نفس ذلك النور العقلي ، وبه يعقل العقل بالفعل ، الذي به تصير الأشياء المعقولة بالقوّة بالفعل متّصلة به صائرة إيّاه . فنسبته إلى المعقولات ، نسبة الشمس إلى المبصَرات ؛ وفعْله في عقلنا المنفعِل ، فعل الشمس في القوّة الباصرة ، فلذلك سمّي عند الأوائل من الحكماء بالعقل الفعّال ، وحصوله للإنسان ، هو السعادة التي بها يصير الإنسان من الكمال الوجودي إلى حيث تكون منزلته منزلة الملائكة المقرَّبين ، الذين هم الصفّ الأعلى من الملكوت . وذلك أن يصير في جملة الأشياء البريئة عن الموادّ والأجسام ، وعن إضافاتها وتعلّقاتها الإنفعاليّة ، في سعادة لا انقطاع ، لها ولا تجدّد يعتريها ، ومثل هذه النفس الصائرة عقلاً بالفعل ، كانت مَلَكاً بالقوّة ، فصارت مَلَكاً بالفعل ، وإليه أُشير في قوله تعالى : { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] . وكما أنّ البدن بلا روح ، ميّت فاسدٌ ، فكذلك الروح بلا علم ، هالكٌ معذَّب ، ونظيره قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . فالعلم روح الروح ، ونور النور ، ولبّ اللبّ . ثمّ إنّ الذي يدركه العالِم ويشاهده من التصوّرات الكلّية ، من خواصّها أن تكون بالله آمنة من التغير والفناء ، لا يتطرّق إليها الزوال والفساد ، لكونها غير متغيّرة في أنفسها ، ولا واقعة في عالَم التجدّد - إلاّ بالعرض - ، فإذا كانت صفات العالم غير متغيّرة ، فذاته أَوْلىٰ باستحالة الدثور والفساد ، وإنّما يجوز له الفناء إلى البقاء الذي يستهلك فيه كلّ شيء ، ويعود إليه حياة كلّ حيٍّ ، ويبطل في نوره كلّ ظلٍّ وفيء . وأيضاً فالأنبياء - صلوات الله عليهم - ما بُعثوا إلاّ للدعوة إلى الحقّ ومعرفته ، قال الله تعالى : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ } [ النحل : 125 ] الآية . وقال : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] . ثمّ انظر وخذ من أول الأنبياء عليهم السلام ، فإنّه تعالى لما قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] فلمّا قالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] ، قال تعالى : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، فأجابهم بكونه عالماً ؛ فلم يجعل سائر الصفات جواباً لهم وموجِباً لسكوتهم ؛ وذلك يدلّ على أن سائر الصفات - كالقدرة وأمثالها - ، وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف ، إلاّ أن صفة العلم أشرف من غيره . ثمّ إنّه تعالى لما أظهَر علمه ، جعل مسجوداً للملائكة ، وخليفة للعالم السفلي ، وذلك يدلّ على أن تلك المنقبة إنّما استحقّها آدم عليه السلام بالعلم . ثمّ إنّ الملائكة افتخرتْ بالتسبيح والتقديس ، فأظهر الله تعالى علْم آدم بالأسماء ، في مقابلة تسبيحهم وتقديسهم ، مع أن التسبيح والتقديس أيضاً من بركات العلم ، وإلاّ لكان إمّا نفاقاً - والنفاق من أخسّ المراتب لقوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ } [ النساء : 145 ] . - أو تقليداً - وهو مذمومٌ لا يوجب الافتخار - . فثبَت أن فضيلة آدم عليهم ، إنّما كانت بعلمه بسائر الأشياء الكليّة والجزئيّة التي لم يكن من شأنهم الإحاطة بها جميعاً ، لانحصارهم في مقام واحد معلوم . ثمّ انظر إلى إبراهيم - على نبيّنا وآله عليه والسلام - ، كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم ، منتقلاً بفكره من ملاحظة أحوال السماويّات ، والانتقال من بعضها إلى بعض ، حتى انتقل من الأنوار الكوكبيّة الحسيّة إلى النفسيّة القمريّة ، ومنها إلى الأضواء العقليّة الشمسيّة ، إلى أن وصل بالدليل الباهر والبرهان النيّر الزاهر إلى المقصود الأصلي ، والدين الحنيفي ، وأعرض عن الشرك لقوله : { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 79 ] . ثمّ إنه ( ع ) بعد الفراغ من معرفة المبدء ، اشتغل بمعرفة المعاد ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [ البقرة : 260 ] . ثم لمّا فرَغ من العلم ، اشتغل بالمحاجّة والتعليم : تارةً مع أبيه : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] . وتارةً مع قومه : { مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 52 ] . وأُخرى مع ملك زمانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } [ البقرة : 258 ] الآية . وقوله : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 67 ] . وتارة كان مع الله فانياً عمّا سواه : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 77 ] . ثمّ انظر إلى أحوال موسى علسه السلام مع فرعون ، ووجوه دلائله وحججه عليه ، وقد مرّ أنّ طريقته طريقة الخليل في المقامات العلميّة . ثمّ انظر إلى عيسى عليه السلام في قوله : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [ البقرة : 260 ] ، وكان مقصوده العلْم بأحوال المعاد ، بعد أن حصَل له العلم بأحوال المبدء . ثمّ انظر إلى نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) ، كيف منّ الله عليه بالعلم مرّة بعد أخرى في قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] . وقوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] . وقوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ } [ هود : 49 ] . وقوله : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] . وهو - صلوات الله عليه - كان أبداً يقول : " رَبِّ أرِني الأشياء كما هي " . فلو لم يظهر للإنسان بهذه الأمور التي ذكرناها شرف العلْم وفضله ، لاستحال أن يظهر له شيء بشيء أصلاً - وستأتيك زيادةٌ في الاستبصار - . فصل في الشواهد القرآنيّة على أن رتبة العلم ومنزلة العلماء كانت عظيمة عند الأنبياء - سلام الله عليهم أجمعين - أما محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد قال الله تأديباً وتعظيماً له : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [ طه : 114 ] . وفيه أدلّ دليلٍ على عظيم رتبة العلْم ونفاسته ، وعلوّ منزلته وكرامته ، وفرط محبّة الله إيّاه ، حيث أمر حبيبه ( صلى الله عليه وآله ) بالازدياد منه خاصّة دون غيره . وقال تعالى امتناناً عليه وتكريماً له : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] . وأمّا كليم الله : فقد قال بعض المفسّرين : " لو اكتفى أحدٌ من العلم وساغَ له القنوع منه ، لاكتفى موسى عليه السلام ولم يقل للخضر عليه السلام : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] . وأمّا داود : فلمّا ذكر من حاله مع أحوال الأنبياء عليهم السلام ، قدّم العلم أول الأقوال ، حيث قال : { دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ } [ الأنبياء : 78 ] إلى قوله : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] . ثمّ إنّه ذكر بعد ذلك ما يتعلّق بأحوال [ الدنيا ] ، فدل على أن شرف العلم أشرف . وأمّا سليمان عليه السلام : فكان له من ملك الدنيا ما كان ، حتى أنّه قال : { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] . ثمّ إنّه لم يفتخر بالمملكة ، وافتخر بالعلم حين قال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] . فافتخر بكونه عالِماً بمنطِق الطيْر ، فإذا حسُن من سليمان الافتخار بذلك ، فبأن يحسن بالمؤمن أن يفتخر بمعرفة ربّ العالمين وصفاته وأسمائه ، وكيفيّة أفعاله وملكوت سماواته ، وكتبه ورسله ، والايمان بيوم القيامة وحشْر الخلائق إليه ، ومعاد الكلّ ورجوع الجميع إليه ، كان أحسن . ولأنّه قدّم ذلك على قوله : { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] . وقال بعضهم : الهدهد - مع انّه في نهاية الضعف ، ومع انّه كان في موقف المعاتبة - قال { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [ النمل : 22 ] . فلولا أنّ العلم أشرف الأشياء ، وإلاّ فمن أيْن لمِثله أن يتكلّم في مجلس سليمان بمثل هذا الكلام ؟ ! وما ذاك إلاّ ببركة العلْم . وأيضاً ، فإن سائر كتب الله المنزَلة على الأنبياء عليهم السلام ناطقة بفضل العلم . أمّا التوراة فقال تعالى لموسى عليه السلام : ( عظِّم الحكمة ، فإنّي لا أجعل الحكمة في قلب عبدٍ إلا وأردت أن أغفر له ، فتعلّمها ، ثم اعمِل بها ، ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة ) . وأمّا الزبور ، فقال تعالى : ( قُلْ لأحبار بني اسرائيل ورهبانهم : حادِثوا من الناس الأتقياء ، فإن لم تجدوا فيهم تقيّاً فحادِثوا العلماء ، وإن لم تجدوا عالِماً فحادِثوا العقلاء ، فإنّ التُقي والعلم والعقل ثلاث مراتب ، ما جعلت واحدة منهنّ في أحد من خلْقي وأنا أريد هلاكه ) . قال بعض العلماء : إنّما قدّم الله التُقى على العلم ، لأنّ التُقىٰ لا يوجد بدون العلم ، كما بيِّن في المفاتيح الغيبيّة من أنّ الخشية لا تحصل إلاّ مع العلم ، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأحدهما ، ولهذا السرّ أيضاً قدّم العالِم على العاقِل ، لأنّ العالِم لا بدّ وأن يكون عاقلاً - دون العكس - ، والعقل كالبذر ، والعلم كالشجرة ، والتقى كالثمرة . وأمّا الإنجيل : فقد قال تعالى في السورة السابعة عشرة : " ويلٌ لمن سمع بالعلم فلم يطلبه ! كيف يُحشر مع الجهّال إلى النار ! اطلبوا العلْم وتعلّموه ، فإنّ العلم إنْ لم يسعدكم لم يشقكم ، وإن لم يرفعكم لم يضَعكم ، وإن لم يُغنكم لم يفقركم ، وإن لم ينفعكم لم يضركم ، ولا تقولوا : نخاف أن نعلم ولا نعمل . ولكن قولوا : نرجوا أن نعلم فنعمَل . فالعلم يشفع لصاحبه ، وحقّ على الله أن لا يخزيه ، إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة : يا معشر العلماء ، ما ظنَّكم بربِّكم ؟ فيقولون : ظنّنا بربّنا أن يغفر ويرحَمَنا . فيقول : إنّي قد فعلت ، إنّي أستودعتكم حكمتي لا لشرٍّ أردته بكم بل لخير أردته بكم ، فادخلوا في صالح عبادي إلى جنّتي برحمتي . وقال مقاتل بن سليمان : وجدت في الإنجيل أن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام : عظِّم العلماء واعرف فضلهم ، فإنّي فضَّلتهم على جميع خَلْقي إلاّ النبيّين والمرسلين ، كفضل الشمس على الكواكب ، وفضْل الآخرة على الدنيا ، وكفضلي على كلِّ شيء . قيل : " إنّ الله علَّم سبعة نفر سبعة أشياء : أ - علَّم آدم عليه السلام أسماء الأشياء لقوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } . ب - علَّم الخضر عليه السلام علم الفراسة : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] . ج - علَّم يوسف عليه السلام علم التعبير : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [ يوسف : 101 ] . د - علَّم داود عليه السلام صنعة الدرْع : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 80 ] . هـ - علَّم سليمان عليه السلام منطق الطير : { وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ } [ النمل : 16 ] . و - علَّم عيسى عليه السلام علم التوراة : { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [ آل عمران : 48 ] . ز - علَّم سيّدنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) علم الشرع والتوحيد : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [ النساء : 113 ] . { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] . { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرحمن : 1 - 2 ] . فعلم آدم ، كان سبباً في حصول السجدة والتحيّة ، وعلْم الخضر ، كان سبباً لأن وجد تلميذاً مثل موسى ويوشع عليهما السلام ، وعلم يوسف عليه السلام ، كان سبباً لوجدان الأهل والمملكة ، وعلم داود عليه السلام ، كان سبباً لوجدان الرياسة والدرجة ، وعلم سليمان عليه السلام ، [ كان سبباً ] لوجدان بلقيس وتسخير الجنّ ، وعلم عيسى عليه السلام ، لزوال التهمة عن أمّه ، وعلم محمد - صلوات الله عليه وآله - كان سبباً لحصول الشفاعة " . قال بعض العلماء : مَن عَلِم أسماء المخلوقات وجد التحيّة من الملائكة ، فمَن عرف ذات الخالِق وصفاته وحقائق أفعاله أما يجد تحيّة الملائكة ؟ بل تحيّة الربّ ؟ { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] . والخضر عليه السلام وجد بعلم الفراسة صحبة موسى عليه السلام ، فأمُّة الحبيب - صلوات الله وسلامه عليه - ، كيف لا يجدون بعلم الحقيقة صحبة محمد ( صلى الله عليه وآله ) : { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } [ النساء : 69 ] . ويوسف عليه السلام بتأويل الرؤيا نجى من حبس الدنيا ، فمن كان عالِماً بتأويل كتاب الله ، كيف لا ينجو من حبس الشبهات : { يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 142 ] . وأيضاً : فإنّ يوسف عليه السلام ذكر منّة الله على نفسه حيث قال : { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } [ يوسف : 101 ] . فأنتَ يا عالِم ، أما تذكر منّته على نفسك حيث علّمك تفسير كتابه ، فأيّ نعمة أجلّ مما أعطاك الله حيث جعلك مفسّراً لكلامه المجيد ، وسميّاً لنفسه ، ووارثاً لنبيّه ، وداعياً لخلقه وعباده ، وسراجاً لأهل بلاده ، وقائداً للخلق إلى جنّته وثوابه ، ورادعاً لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث : " العلماءُ ورثةُ الأنبياء " " العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة " - الحديث - . وأيضاً ؛ فإنّ الله تعالى سمّى العلم في كتابه الكريم بالأسماء الشريفة : فمنها الحياة : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] ، وثانيها الروح : { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . وثالثها النور : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 15 ] . فصل في الشواهد النبويّة من الأحاديث والأخبار على شرف العلم فمن طريقة أصحابنا - رضوان الله عليهم - وجوهٌ : عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إنّ الله تعالى يقول : " تذاكرُ العلْمِ بينَ عبادي مما تُحيى عليه القلوبُ الميتةُ إذا هم انتهَوا [ فيه ] إلى أمْري " . وعن أبي الجارود قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : رحم الله عبداً أحٰيى العلم . - قال - : قلت : وما إحياؤه ؟ قال أن يذاكر به أهل الدين وأهلَ الورعِ . وعن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " لا خيْر في العيشِ إلاّ لرجلين ، عالمٌ مطاعٌ ومستمعٌ واعٍ " . وعن أبي جعفر عليه السلام إنّه قال … : " عالِمٌ ينتفع بعلمِه أفضَل من سبعينَ ألف عابِد " وعن أبي عبدالله عليه السلام : " طلَبُ العلم فريضةٌ . ألا وإنّ الله يحبُّ بغاةَ العلم " . وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، قال : " إنّ الناس آلوا بعدَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى ثلاثة : آلوا إلى عالم لى هُدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره . وجاهلٍ مدّعٍ للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيرَه . ومتعلّمٍ من عالِمٍ على سبيل هدى من الله ونجاة . ثمّ هلكَ مَن ادّعى وخاب مَن افترى " . وعن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : " إنّ من حقّ العالِم أن لا تُكثِرَ عليه السؤال ، ولا تأخذَ بثوبِه ، وإذا دخلتَ عليه وعنده قومٌ فسلِّم عليهم جميعاً ، وخصّه بالتحيّة دونهم ، واجلس بين يدَيه ، ولا تجلس خلفَه ، ولا تغمز بعينك ، ولا تشِر بيدِك ، ولا تكثِر من القول " قالَ فلانٌ ، وقالَ فلانٌ " خلافاً لقوله ، ولا تضجر بطول صحبته ؛ فإنّما مثل العالِم مثَل النخلةِ ، تنتظرها [ حتى ] يسقط عليكَ منها شيء . والعالِم أعظمُ أجراً من الصائمِ القائمِ الغازي في سبيل الله " . وعن الفضل بن أبي قرّة ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " قال الحواريّون لعيسى عليه السلام : " يا روح الله - مَن نُجالِس ؟ " قال : " مَن يُذكّركم الله رؤيتُه ، ويزيدُ في علمِكم منطقُه ، ويرغّبكم في الآخِرة عملُه " " . منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة " . إلى غير ذلك من أحاديثهم عليهم السلام في فضيلة العلم ، وقد ذكرنا شطراً منها في المفاتيح ، واختصرنا هٰهنا على هذا القدر ، فمن أراد المزيد فليراجع إلى كتب الكافي وغيره في هذا الباب . وأما من طريقة غيرهم فوجوه : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " يقول الله تعالى للعلماء : إنّي لم أضع علمي فيكُم وأنا أريد أن أعذّبكم ، ادخلوا الجنّة على ما كان فيكم " . قال ابن عباس : " خطَبَنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خطبةً بليغةً قبل وفاته - وهي آخر خطبة بالمدينة خطبها - ، فقال : " مَنْ تعلَّم العلْم ، وتواضَع في العلم ، وعلّمه عباد الله - يريدُ ما عندَ الله - لم يكن في الجنّةِ أفضلُ ثواباً ولا أعظمُ منزلةً منه ، ولم يكن في الجنّة منزلة ولا درجة رفيعة نفيسة ، إلاّ كان فيها له أوفرُ النصيب وأشرف المنازل " " . وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : " إذا كان يوم القيامة ، حفّت منابر من ذهب عليها قباب من فضّة مفضّضة بالدرّ والياقوت والزمرّد ، خلالها السندس والاستبرق ، ثمّ ينادي منادي الرحمٰن : أيْن من حمَل إلى أمّة محمد ( صلى الله عليه وآله ) علْماً يريد به وجه الله ؟ اجلسوا على هذه المنابر لا خوف عليكم حتى تدخلوا الجنّة " . وعن عيسى بن مريم عليهما السلام : " إنّ في أمّة محمد ( صلى الله عليه وآله ) علماء حكماء ، كأنّهم في الفقه أنبياء ، يَرضون من الله باليسير من الزرقِ ، ويَرضى الله منهم باليسير من العمل ، ويدخلون الجنّة بلا إله إلا الله " . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " من اغبرّت له قدمان في طلب العلم ، حرّم الله جسده على النار ، واستغفر له ملكاه ، وإن مات في طلبه مات شهيداً ، وكان قبره روضة من رياض الجنة ، ويوسَّع له في قبره مدَّ بصره ، وينوّر على جيرانه ؛ أربعين قبراً عن يمينه وأربعين عن يساره وأربعين من خلفه ، وأربعين من أمامه . ونوم العالم عبادةٌ ، ومذاكرته تسبيحٌ ، ونفسُهُ صدقةٌ ، وكلُّ قطرةٍ نزلت من عينَيه تُطفئُ بحراً من جهنم " . فمن أهان العالَم فقد أهان العلْمَ ، ومن أهان العلم فقد أهان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومن أهانَ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد أهانَ جبرئيل عليه السلام ، ومن أهان جبرئيل عليه السلام فقد أهانَ الله تعالى ، ومن أهان الله تعالى أهانَه يوم القيامة . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ألا أخبركم بأجود الأجواد ؟ قالوا : نِعمْ - يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : الله تعالى أجودُ الأجواد ، وأنا أجود ولد آدم ، وأجودهم من بعدي رجلٌ عالمٌ ينشر علمه ، فيُبْعَث يوم القيامة أمّة واحدة ، ورجلٌ جاهَد في سبيل الله حتّى يُقتل " . فصل في ألفاظ دالّة على العلوم الحقيقية واشتبهت على الناس بغيرها اعلم أنّه قد التبست العلوم الحقيقية المحمودة الشرعية بغيرها من جهة تحريف الأسامي المحمودة عن وضعها الأول ، وتبديلها ونقلها بسبب الأغراض الفاسدة إلى معاني غير ما أراد بها الصدر الأول والسلف الصالح ، وهي خمسة ألفاظ - كما ذكره صاحب إحياء العلوم وفصّل القول في كيفيّة تحريفاتها - الفقه والعلم ، والتوحيد والتذكر ، والحكمة - ونحن أيضاً نقتفي كلامه في هذا الفصل مع اختصار وتلخيص : فـاللفظ الأول : الفِقْهُ : فقد تصرّفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل ، إذ قد خصّصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي ، والوقوف على دقائق عللها ، واستكثار الكلام فيها ، وحفظ المقالات المتعلّقة بها ؛ فمن كان أشدّ تعمّقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها فهو الأفقَه . وهذا ضربٌ من التحريف . فلقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ، ومعرفة دقائق آفات النفس ، ومفسدات الأعمال ، وقوّة الإحاطة بحقارة الدنيا ، وشدّة التطلّع إلى نعيم الأبرار ، واستيلاء الخوف على القلب ، كما يدلّك عليه : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ } [ التوبة : 122 ] . وما به الإنذار والتخويف هو هذا العلم ، دون تفريعات الطلاق واللعان والعتاق والسَلَم والإجارة ، فذلك لا يحصل به إنذار وتخويف ، بل التجرّد له على الدوام يقسي القلب ، وينزع الخشية منه كما يشاهد من المتجرّدين له . وقال تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ] . وأراد به معاني الآيات - دون الفتاوى - . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " لا يفقَهُ الرجُل كلّ الفِقْه ، حتى يمقت الناس في ذات الله ، وحتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرةً " . وسئل الحسن البصري عن مسئلة فأجاب ، فقال له السائل : " إن الفقهاء يخالفونك " ، فقال الحسن : " ثكلتك أمك - وهل رأيتَ فقيهاً بعينك ؟ ! إنّما الفقيه ؛ الزاهد في الدنيا ، الراغب في الآخرة ، البصير بذنبه ، المداوم [ على ] عبادة ربّه ، الورع الكافّ عن أعراض الناس ، العفيفُ عن أموالهم ، الناصحُ لجماعتهم " ، ولم يقل في جميع ذلك " الحافظُ لفروعِ الفتاوى " . اللفظ الثاني : العلْم : وقد كان مطلقاً على العلم بالله وبآياته وأفعاله في عباده وخلقه ، وقد تصرّفوا فيه بالتخصيص حتى حوّلوه وشهروه في الأكثر لمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الخلافيّة وغيرها ، فيعدّ من فحول العلماء ، فيقال : " هو العالِم بالحقيقة ، وهو الفحل فيه " ، مع عَريه عن العلوم الحقيقية كلّها ، وجهله بحقائق علْم القرآن وأسرار الآيات وتأويل الأحاديث ، وصار ذلك شيئاً مهلِكاً لخلقٍ كثيرٍ من الطلبة . اللفظ الثالث : التوحيد : وقد جُعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ، ومعرفة طرق المجادلة وفنون البحث ، وكيفيّة مناقضات الخصوم ، والقدرة على تكثير الأسئلة وإثارة الشبهات والإلزامات ، حتّى لقّبت طوائف منهم بأهل العدل والتوحيد ، وعلماء ذلك ، مع أنّ جميع ما هو خاصّية هذه الصناعة ، لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول ، بل كان يشتدّ النكير منهم على من يفتح أبواب الجدل والمماراة ، وكان التوحيد عندهم عبارة عن معنى آخر لا يفهمه أكثر المتكلّمين ، وهو أن يرى الأمور كلها من الله رؤيةً يقطع التفاته عن الوسائط والأسباب . وهذا مقام شريف ، إحدى ثمراته التوكّل والرضا والتسليم بحكم الله ، وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبده غيره ، ويخرج من هذا التوحيد أتباع الهوى ، فكلّ متّبع هواه فقد اتّخذ معبوده هواه ، قال الله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " أبغضُ إلهٍ عُبِد في الأرضِ عندَ اللهِ هو الهَوىٰ " . وعلى التحقيق ، من تأمّل عرف أن عابدَ الصنمِ ليس يعبد الصنمَ ، إنّما يعبد هواه ، إذ نفسه مائلةٌ إلى دين آبائه فيعبد ذلك الميل . وبالجملة ، فقد كان التوحيد عندهم عبارة عن ذلك المقام ، وهو من مقامات الصدّيقين ، فانظر إلى ماذا حُوَّل ؟ وبأيّ قشر قنع الإنسان ؟ وكيف اتّخذ هواه معتصماً في التمدّح والتفاخر بما اسمه محمودٌ ، مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحقّ به الحمد الحقيقي ؟ اللفظ الرابع : الذكر والتذكير : وقد قال الله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . وقد ورد في مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ للهِ ملائكة سيّاحين في الهواء سوى ملائكة الخلْق ، إذا رأوا مجالس الذكْر ينادي بعضهم بعضاً : هلمّوا إلى بغيتِكم . فيأتوهم ويحفّون بهم ، ويستمعون . ألا - فاذكروا الله وذكّروا بأنفسكم " . فنُقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعّاظ يواظبون عليه في هذا الزمان ، وهو القصص والأشعار ، والشطح ، والطامات . واللفظ الخامس : الحكمة : فإنّ اسم " الحكيم " صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجّم ، حتى على الذي يدحرج القرعة على أكفّ السوادية في شوارع الطرق ؛ والحكمة هي التي أثنى الله عليها فقال : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " كلمةٌ من الحكمةِ يتعلَّمها الرجُل خيرٌ له من الدنيا [ وما فيها ] " " . فانظر ما الذي كانت " الحكمة " عبارةً عنه ، وإلى ماذا نُقل ؟ ! وقسْ به بقيَّة الألفاظ ، واحترِز به عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء ، فإنّ شرّهم على الدين أعظم من شرّ الشياطين ، إذ الشياطين بوساطتهم تتذرّع إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق ، ولهذا " لمّا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن شرّ الخلق أبى وقال : " اللهم غفراً " . حتى كرّر وقال : " شرّهم علماء السوء " " . فقد عرفت العلم المحمود والمذموم ، ومثار الإلتباس ، وإليك الخيرَة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلَف ، أو تتدلّى بحبل الغرور ، وتتشبَّه بالخلَف ، فكلّ ما ارتضاه السلَف من العلم فقد اندرَس ، وما أكبّ عليه الجمهور فأكثره مبتدع ، وقد صحّ قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " " بدأ الإسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء " . فقيل : " من الغرباء ؟ " فقال : " الذين يصلحون ما أفسدَ الناسُ مِن سنّتي ، والذين يحيون ما أماتوه من سنّتي " وفي خبر آخر : " هم المتمسّكون بما أنتم عليه اليوم " وفي حديث آخر : " الغُرباء ناسٌ قليلٌ صالحون ، بين ناسٍ كثير " . وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذكر اسمها ، ولذلك قال : " إذا رأيتَ العالِمَ كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلّط ، لأنّه إن نطق بالحق أبغضوه " . فصل في العلم المحمود والعلم المذموم قال صاحب الإحياء : " إنّ العلم بهذا الإعتبار ثلاثة أقسام : قسمٌ مذمومٌ قليله وكثيره ، وقسمٌ محمودٌ كلّه ، وكلّما كان أكثر فهو أفضل ، وقسمٌ يحمد بقدر الحاجة ولا يحمد الفاضل عليه والاستقصاء فيه ؛ وهو مثل أحوال البدن : فمنه ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال ، ومنه ما يقابله كالقبح وسوء الخلق ، ومنه ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال ، فإنّ التبذير فيه لا يحمد ؛ وكالشجاعة ، فإنّ التهور لا يحمد فيها وإن كان من جنس الشجاعة . فكذلك العلم ، فالقسم المذموم كلّه ما لا فائدة فيه في دين أو دنيا ، كعلم السحر والطلسمات والنجوم ، فبعضه لا فائدة فيه ، وصرف العمر فيه اضاعة أنفس ما يملكه الإنسان ، واضاعة النفائس مذمومٌ . وأما القسم الممدوح إلى أقصى غاية الاستقصاء ، هو العلم بالله وبصفاته وأفعاله ، وجريان سنّته في خلقه ، وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا . فإنّ هذا العلم علمٌ مطلوب لذاته ، والتوسّل به إلى سعادة الآخرة ، وبذل المقدور فيه إلى غاية الجهد ، قصور عن حدّ الواجب ، فإنّه البحر الذي لا يُدْرَكُ غوره ، وإنّما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسّر لهم ، وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء الراسخون في العلم - على اختلاف درجاتهم - بحسب اختلاف قوّتهم ، وتفاوت تقدير الله في حقّهم . وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب ، ويعين على التنبّه له التعلّم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة في أول الأمر ، وتعين عليه في الآخرة المجاهد [ ة ] والرياضة ، وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا ، والتشبّه بأنبياء الله عليهم السلام وأوليائه ، - رضي الله عنهم - ليتّضح لكلّ ساع بقدر رزقه - لا بقدر جهده - ، لكن لا غناء فيه عن الاجتهاد ، فالمجاهدة مفتاح الهداية . وأما العلوم التي لا يحمد منها إلاّ مقدار مخصوص ، فهي التي أوردت في فروض الكفايات ، فكن أحد رَجُلَين : إما مشغولاً بنفسك ، وإمّا متفرغاً إلى غيرك بعد الفراغ من نفسك ، وإيّاك أن تشتغل بما تُصلح به غيرك قبل إصلاح نفسك ، فإن كنت المشغول بنفسك ، فلا تشتغل إلاّ بالعلم الذي هو فرض عينك . وإنّما الأهمّ الذي أهمَله الكلّ ؛ علم صفات القلب ، وما يحمد منها وما يذمّ ، والاشتغال بمداواته ، وإهمال ذلك مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة ، يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذّي بالجرَب والدماميل ، والتهاون باخراج المادة بالفصد والإسهال ، وحشويّة العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة ، كما يشير الطرقيّة من الأطبّاء بطلاء ظاهر البدن ، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلاّ بتطهير الباطن ، وقطع موادّ الشر بإفساد منابتها وقطع مغارسها ، وهي في القلب . وإنّما فرغ الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب ، لسهولة أعمال الجوارح ، واستصعاب أعمال القلوب ؛ فإن كنت مريداً للآخرة وطالباً للنجاة ، فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها ، ثمّ ينجزّ بك ذلك إلى المقامات المحمودة ، فلا تشتغل بالفروض الكفايات - لا سيَّما وفي الخلق من قام به - ، فإنّ مهلك نفسه في طلَب صلاح غيره سفيه ، فما أشدّ حماقةً من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه ، وهمّت بقتله ، وهو يطلب مذبّة يدفع بها الذباب عن غيره ممّن لا يغنيه ولا ينجيه بما يلاقيه من تلك الأفاعي والحيّات والعقارب اذ هممن بقلته ؟ ! " -