Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-30)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنّ هذه الآية ، إشارة إلى معرفة النفس الإنسانية ، وشرح ماهيّتها وإنيّتها ، وكيفيّة نشؤها من الأرض وسرّ خلافتها ، وذلك لأن معرفة النفس أمّ الفضائل ، وأصل المعارف - كما جاء في الوحي الإلهي : " اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربّك " وفي كلام النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " أعَرَّفَكُم بنفسه أَعْرفُكُم بربّه " وفي كلام بعض الأوائل : " مَن عرف ذاته تألّه " . وذلك لأنّها إذا عرفتْ ، كانت مفتاح خزائن المعرفة ، وباب حكمة ربّ العالَمين ، وصراط الحقّ واليقين ، وميزان يوم الحساب ، ونور المارّين إلى الجنة ؛ وإذا جهلت ، كانت ظلمة القبور وضيقها ، ووحشة الصدور وضنكها ؛ وعرضة الهلاك والعمى والدثور ، وعذاب الآخرة يوم النشور . فقوله : { وَإِذْ } وضع - كما قيل - لزمان نسبة ماضية وقعت فيه أخرى ، كما أن " إذا " وُضع لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه أُخرى ، ومحلّهما النصب أبداً بالظرفية لفعل مضمر كـ " اذكر " ونحوه ، أو مذكور كـ " قالوا " في هذه الآية ، وإنّما أضمر " اذكر " فيما أضمر ، لأنّه جاء عاملاً له صريحاً في كثير من مواضع القرآن . وعن معمّر : إنّه مزيد . اعلم أنّ قول الله [ تعالى ] فعليٌّ عند المحقّقين كما مرّ ، وهو عبارة عن إنشاء أمر يستفاد منه مشيئة الله تعالى في خلقه ، فقوله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } إعلامه إيّاهم ذلك بأحد وجهين ؛ إمّا بافاضة صور الحقائق التي هي من مبادئ النشأة الإنسانيّة عليهم ؛ أو باطّلاعهم على شيء من عالم أمره تعالى ، المشتمل على جميع الأقوال المتعلّقة بالأكوان الخلقيّة . و " الجعل " على ضربين : ابداع نفس حقيقة الشيء ، وتأييسه أو تصييره شيئاً آخر . والأول أعلى في باب الجاعليّة من الثاني ، فـ { جَاعِلٌ } إن كان بالمعنى الأول ، كان بمعنى مبدع أو خالق ، فلا يستدعي مجعولاً إليه ، وإن كان بالمعنى الثاني ، كان له مجعولٌ ومجعولٌ إليه - وهما المفعول الأول والمفعول الثاني باصطلاح النحاة - ، وهما " فِي الأرْضِ " و " خَليفَةً " ؛ وإنّما عمل فيهما ، لأنّه بمعنى الاستقبال ، ومعتمد على مسند إليه . و " الخَلِيفَةُ " من يخلف غيره وينوب عنه لأجل مناسبة تامّة يستحقّ بها للخلافة لا توجد في غيره ، وإلاّ لكان وضعاً للشيء في غير موضعه ، و " الهاء " فيه للمبالغة . وقد تحيّرت العقول في أنّ استحقاقية آدم للخلافة الإلهية بماذا ؟ فقيل : لتحمّله التكليف . وقيل : لطاعته مع وجود الصوارف البدنيّة كالشهوة والغضب عنها . وقيل : لجامعيته بين صفات الملائكة وصفات البهائم . وأسدّ الأقوال كونه جامعاً لجميع المظاهر الأسمائية . واعلم أنّ لله خلفاء في كلّ عالم ونشأة ، ولخلفائه أيضاً خلفاء ، وبهذا جرت سنّته ، لا لحاجة له إلى من ينوبه في فعله ، لتعاليه عن القصور في فعله ، لكونه تمام كلّ حقيقة ، وكمال كلّ وجود ؛ بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقّي أمره من لدنه بغير واسطة ، ولذلك لم يستنبئ مَلَكاً من الملائكة العالين في الأرض كما قال : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] . ألا ترى أن الأنبياء - سلام الله عليهم - ، لمّا قويت قواهم ، وفاقَت عقولهم وخمدت نار هواهم تحت نور هداهم ، واشتعلت قريحتهم الوقّادة بنور الهداية بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، أرسل إليهم الملائكة ، ثمّ من كان منهم أعلى رتبة ، كلّمه ربّه بلا واسطة ، كما كلّم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمّداً ( صلى الله عليه وآله ) ليلة المعراج . وممّا يؤيّد ما ذكرنا ، ما أخبر ( صلى الله عليه وآله ) في تفاوت درجات أخذه عن الله العلوم بحسب أحواله المتفاوتة ، وترقّياته في مراتب العقول المفارقة ، بعد تجاوز المقامات الفلكيّة ونفوسها العليّة ، فكان يخبر أحياناً أنّه يأخذ عن جبرئيل عليه السلام ، وأنّ جبرئيل يأخذ عن ميكائيل ، وهو عن إسرافيل ، وإسرافيل يأخذ عن الله . ويخبر أحياناً أنّه يأخذ عن ميكائيل دون واسطة جبرئيل . وأخبر أنه كان يلقي إليه أحياناً إسرافيل ، فيأخذ دون واسطة المَلَكين عليهما السلام ، وأخذ أحياناً عن الله من غير واسطة أحد من الملائكة ، وليس وراء الله مرمى . ونظير ذلك في الطبيعة : أن النفس متوسّطة بين العقل والطبيعة ، وهي متوسّطة بينها وبين الروح البخاري ، المتوسّط بين القوى الطبيعيّة وبين الأعصاب والغضاريف ، وهي بينها وبين الأعضاء والأمشاج . والمراد هٰهنا آدم عليه السلام ، لأنّه خليفة الله في أرضه ، أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريّته ، لأنّهم يخلفون من قبلهم ؛ وإفراد اللفظ ؛ إمّا للإستغناء بذكره عن ذكر بنيه - كما استغني عن ذكر أبي القبيلة عن ذكرهم في قولهم : " مضرٌ وهاشمٌ " - أو على تأويل مَنْ يخلف ، أو خلفاً يخلف . وأما خليفته في العالم كلّه ، فهو محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، عند بلوغه إلى المقام المحمود . إشراق كمالي [ لزوم وجود الخليفة ] اعلم أنّه لمّا اقتضى حكم السلطنة الواجبة للذّات الأزلية والصفات العليّة بسط مملكة الألوهيّة ، ونشر لواء الربوبيّة ، بإظهار الخلائق وتحقيق الحقائق ، وتسخير الأشياء وإمضاء الأمور ، وتدبير الممالك وإمداد الدهور ، وحفظ مراتب الوجود ورفع مناصب الشهود ؛ وكانت مباشرة هذا الأمر من الذات القديمة بغير واسطة بعيداً جداً ، - لبُعد المناسبة بين عزّة القِدم وذلَّة الحدوث - ، حكم الحكيم سبحانه بتخليف نائب ينوب عنه في التصرّف والولاية ، والحفظ والرعاية . وله وجه إلى القِدم يستمدّ به من الحقّ سبحانه ، ووجْه إلى الحدوث يمدّ به الخلْق ، فجعل على صورة خليفة يخلف عنه في التصرّف ، وخلع عليه جميع أسمائه وصفاته . ومكّنه في مسند الخلافة بإلقاء مقادير الأمور إليه ، وإحالة حكم الجمهور عليه ، وتنفيذ تصرفاته في خزائن ملكه وملكوته ، وتسخير الخلائق لحكمه وجبروته ، وسماه انساناً ، لإمكان وقوع الانس بينه وبين الخلق برابطة الجنسيّة ، وواسطة الأنسيّة ، وجعل له بحكم اسمه : " الظاهر والباطن " حقيقة باطنة ، وصورة ظاهرة ، ليتمكن بهما من التصرف في الملك والملكوت . فحقيقته الباطنة هي الروح الأعظم ، وهو الأمر الذي يستحق به الإنسان الخلافة ، والنفس الكلّية وزيره وترجمانه ، والطبيعة الكلّية عامله ورئيسه ، والعَمَلَةُ - من القوى الطبيعيّة وكذلك إلى آخر الروحانيات - جنوده وخدمه . وأمّا صورته الظاهرة : فصورة العالَم من العرش إلى الفرش ، وما بينهما من البسائط والمركّبات . فهذا هو الإنسان الكبير المشير إليه قول المحققين : " إنّ العالم إنسان كبير " . وأما قولهم : " الإنسان عالم كبير " ، أرادوا به أنواع البشر ، وهو خليفة الله في أرضه ، كما أُشير إليه في هذه الآية . وأمّا خليفة الله في السماء والأرض ، وهو الإنسان الكبير ، والإنسان البشري نسخة منتخبة من الإنسان الكبير الإلهي ، ونسبته إليه نسبة الولد الصغير من الوالد الكبير ، فله أيضاً حقيقة باطنيّة وصورة ظاهرة . أما حقيقته الباطنة : فالروح الجزئي المنفوخ فيه من الروح الأعظم ، والعقل الجزئي ، والنفس والطبيعة الجزئيّتان . وأما صورته الظاهرة : فنسخة منتخبة من صورة العالَم ، فيها من كل جزء من أجزاء العالَم لطيفها وكثيفها قسطٌ ونصيبٌ ، فسبحانه من صانعٍ جمع الكلّ في واحد كما قيل : @ ليس من الله بمستنكرٍ أن يجمع العالَم في واحدٍ @@ وصورة كلّ شخص إنساني نتيجة صورة آدم وحوّاء عليهما السلام ، ومعناه نتيجة الروح الأعظم والنفس الكلّية ، اللذين هما أيضاً آدم كلّي وحوّاء كلّية . ومن هذا يصحّ أن يقال لبعضٍ مِن كُمَّلِ أولادهما حقيقة : @ وإنّي وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي @@ فصل [ الملائكة والأقوال فيها ] الملائكة جمع مَلأك - على الأصل - كالشمائل في جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع . وهو مقلوب " مألَك " من الألوكة وهي الرسالة ، لأنّهم وسائط بين الله وبين الناس ، فهم رسُل الله أو كالرسل إليهم ، ولهذا لا يسمّى " مَلَكاً " من لا رسالة له ، يسمى " روحاً " أو شيئاً آخر : واختلفت العقلاء في حقيقتهم ، بعد اتّفاقهم على أنّها ذوات موجودة وجوداً جوهرياً صورياً لا كوجود الأعراض ، فذهب أكثر أهل الإسلام إلى أنّها أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة ، مستدلّين بأنّ الرسل عليهم السلام كانوا يرونها كذلك . وقالت طائفة من النصارى : " هي النفوس الفاضلة البشريّة المفارقة للأبدان ، كما أنّ الجنّ أيضاً عندهم هي النفوس الخبيثة الشريرة المفارقة " . وزعم الحكماء أن ضرباً منها جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وضرباً آخر متعلقة بالأجرام الكلّية والجزئيّة بأنحاء من التدبير والتصريف ، فهي عندهم منقسمة إلى قسمين : قسْم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق ، والتنزّه عن الاشتغال بغير ملاحظة جماله وجلاله ، وهم العِلّيون ، والملائكة المقرّبون ، كما وصَفهم الله في محكم تنزيله بقوله : { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . وقسم يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبَق به القضاء ، وجرى به القلَم الإلهي : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . وهم المدبّرات أمراً ؛ فمنهم سماويّة ، ومنهم أرضيّة - على تفصيل ذكره في المفاتيح الغيبية - . واعلم أنّهم اختلفوا في أنّ المقول لهم كلّ الملائكة ، أم ملائكة الأرض ، والحقّ إن المراد من الخليفة إن كان آدم عليه السلام أو الإنسان الصغير ، فالمقول له هم الملائكة الأرضيّة ، وإن كان الإنسان الكبير المحمدي عليه وآله السلام ، فالمخاطب كلّ الملائكة أجمعين . وقيل : هم إبليس ومن كان معه في محاربة الجنّ ، فإنّه تعالى أسكنهم في الأرض أولاً فأفسدوا فيها ، فبعَث إليهم إبليس في جُند من الملائكة ، فدمّرهم وفرّقهم في الجبال والجزائر . مثال ذلك قُوى مملكة الإنسان في أرض بدنه ، فإنّ مادّة بدنه كانت أولاً قبل تعلّق النفس الوهميّة بيد قوى الحيوانيّة الشهويّة والغضبيّة الساكنة في أوسط مواضعه وأعدل بقاعه - كتجويف القلب وما يحويه - ، وكانت عاصية ظالمة فاعلة للأمور بمقتضى الطبيعة - لا بحكم قوّة إدراكيّة باطنيّة - ، ثمّ إذا فاضت عليها النفس الوهمانيّة بأمر الله ، قهرتها وسخّرتها ، وأبعدتها عن مقرّ الدماغ والقلب إلى أطراف البدن وأكنافه ، بحكم مَدّ أَدِيم البدن ودحوة أرضه بالقوّة النامية ، فجعَل مواضع الحواسّ الظاهرة أطراف البدن ، ومواضع القوى : الشهوة والغضب ، المعدة والكبد والأنثيين والمرارة ونحوها . ثمَّ جعل الله القوّة الناطقة المطيعة لأمر الله ، السميعة لأحكامه ، المسلّمة له ولرسله وملائكته ، خليفة في أرض البدن ، وأمر جميع القوى المدركة بانقيادها وطاعتها وتسليمها ، والسجود لها ، والايتمار بأمرها ، والانتهاء بنهيها ، فأصبحت كلّها ساجدةً مطيعةً لأمر الله خاضعة له ، إلاّ إبليس ، القوّة الوهميّة ، لغلبة ناريّة النفس على طبيعتها ، وقلّة نوريّة الإدراك العقلي على فطرتها . فصارت لشدّة أنانيّتها الناريّة ، وقلّة نوريّتها العقليّة ، وعدم بصيرتها بحال الجوهر الإنساني المخمّر طينته عن التراب المشتعل نور فطرته في وادي القدس عن نور ربّ الأرباب ، عاصية متمرّدة عن الطاعة ، زاعمة أن حقيقة الإنسان ليس إلاّ هذا الجسد الأرضيّ الفاسد ، الذي إن أصابه حرٌّ ذاب ، وإن أصابه برد جمد ، وإن أنتبه لا يشعر ، وإن حُرِّكَ لا يحسُّ بذاته ، وإن لم يطعم ذبل ، وإن أطعم امتلأ من الدم والنجاسات ، كأنّه مذبح مجصّص ظاهره ، مملوٌّ باطنه من القاذورات . أو كقبر متحرّك في جوفه أنواع من المؤذيات والهوامّ كالحيّات والعقارب والديدان . فصل [ الأسرار في خلْق الإنسان ] إنّ قولهم هذا يدلّ على معان مختلفة : منها : أن الله أنطقهم بهذا القول ، ليتحقّق لنا أن هذه الصفات الذميمة في طينتنا مودعة ، وفي جبلّتنا مركوزة ، فلا نأمن عن مكر أنفسنا الأمّارة بالسوء ، ولا نعتمد عليها وما نبرئها كما قال تعالى عن قول يوسف عليه السلام : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ } [ يوسف : 53 ] . ومنها : لنعلم أن كلّ عمل صالح نعمله ، ذلك بتوفيق الله تعالى إيّانا وفضله ورحمته ، وكلّ فساد وظلم نعمله ، هو من شؤم طينتنا وخاصيّة طبيعتنا ، كما قال تعالى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] . وكلّ فساد لا يجري علينا ولا يصدر منّا ، فذلك من حفظ الحقّ وعصمته ورحمته ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } [ يوسف : 53 ] . ومنها : لنعلم أن استعداد أمر عظيم فينا ، وفينا شأو جسيم ليس للملائكة به علْم ، وهو سرّ الخلافة ، فلا نتغافل عن هذه السعادة ، ولا نتقاعد عن هذه السيادة ، ونسعى في طلبها حقّ السعاية . ومنها : لنعلم أن الله تعالى - من فضله وكرَمه - قد قبلنا بالعبوديّة والخلافة ، وقال من حسن عنايته في حقّنا مع الملائكة المقرَّبين : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، لكيلا نقنط من رحمته ، وننقطع من خدمته . ومنها : أنّ الملائكة { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } ، لأنّهم نظَروا إلى جسد آدم قبل نفخ الروح فيه ، فشاهدوا بالنظر الملكي في ملكوت جسده المخلوق ، من العناصر الأربعة المضادّة ، صفات بشريّته البهيميّة والسبعيّة التي تتولّد من تركيب أضداد العناصر ، كما شاهدوها في أجساد الحيوانات والسباع الضاريات ، بل عايَنوها - فإنها خُلقتْ قبل آدم - ، فقاسوا عليها أحواله بعد أن شاهدوها وحقّقوها . وهذا لا يكون غيباً في حقّهم ، وإنّما يكون غيباً لنا ، لأنّنا ننظر بالحسّ ، والملكوت يكون لأهل الحسّ غيباً ، ومنّا من ينظر بالنظر الملكوتي ، فيشاهد الملائكة والملكوتيّات بالنظر الروحاني ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] . وقال : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . وحينئذ لا يكون غيباً . فالغيب ما غاب ، وما شاهد فيه فهو شهادة ؛ فالملكوت للملائكة شهادة ، والحضرة الإلهيّة لهم غيب ؛ وليس لهم الترقّي إلى تلك الحضرة ؛ وإنّ للإنسان صورة من عالَم الشهادة المحسوسة ، وروحاً من عالَم الغيب الملكوتي ، وسرّاً مستعدّاً لقبول فيض النور الإلهي بلا واسطة ؛ فبالتربية يترقّى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب - وهو الملكوت - ، وبسرّ المتابعة وخصوصيّتها يترقّى من عالَم الملكوت إلى عالَم الجبروت والعظموت - وهو غيب الغيوب - ، فيشاهد بنور الله المستفاد من سرّ المتابعة أنوار الجمال والجلال ، فيكون في خلافة الحقّ عالم الغيب والشهادة ، كما أن الله عالِم الغيب والشهادة : { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] أي الغيب المخصوص - وهو غيب الغيب - أحداً - يعني من الملائكة { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 27 ] ، يعني من الإنسان . فهذا هو السرّ المكنون ، المركوز في استعداد الإنسان ، الذي كان الله يعلمه منه ، والملائكة لا يعلمون كما قال : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . ومنها : أنّ الملائكة لما نظَروا إلى كثرة طاعتهم ، واستعداد عصمتهم ، ونظروا إلى نتائج الصفات النفسانية ، استعظموا أنفسهم واستصغروا آدم وذرّيته ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } - أي : في الأرض - خليفة مع أنه { يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } ، فنحن مع هذه الصفات ، أحقٌّ بالخلافة منه ، كما قال بنو إسرائيل حين بعث الله لهم طالوت ملكاً : { قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ } [ البقرة : 247 ] فأجابهم الله تعالى بأنّ استحقاق الملك إنّما هو بالاصطفاء والبسطة في العلم والجسم وقال : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 247 ] . فكذلك هٰهنا أجابهم الله بقوله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إجمالاً ، ثمّ فصّله بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً } [ آل عمران : 33 ] . وبقوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] . وبقوله { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] . ليعلموا أنّ استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ، ولكن مالك الملك يؤتي الملك من يشاء . ولمّا تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم ، منّ الله تعالى على آدم بعلم الأسماء ، ليعلموا أنّهم أهل الطاعة والخدمة ، وأنّه أهل الفضل والمنَّة ؛ وأين أهل الخدمة من أهل المنَّة ؟ ! فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ، ليعلموا أنّه مستغن عن طاعتهم ، وبمنّته على آدم صار مسجوداً له ، ليعلموا أنّ الفضل بيد الله يؤتيه مَنْ يشاء . فصلٌ آخر [ كان الملائكة سائلين ، لا معترضين ] قوله : { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } ؛ استكشاف عمّا خفي عليهم وجه حكمته ، كأنهم قالوا : " إلهنا - أنت الحكيم الذي لا يفعل السفَه ، فما وجه الحكمة في جعل جوهر أرضي خليفة فيها وهو مصحوب لقوّة شهوية شأنها الشر والإفساد ، ولقوة غضبية شأنها الإهلاك وسفك الدماء ، فان النفس اذا انقادت لاحداهما سلكت بها مسلك الفساد والجور والظلم ؟ أو تعجّب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها مع وجود من هو بريء من الشرور والمفاسد بالكلية ، كطبقة الملائكة المعصومين عن المعاصي ، المسبّحين بحمده والمقدّسين له . وليس هذا باعتراض على الله في فعله ، أو طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، أو تزكية لأنفسهم على وجه الافتخار والازراء بغيراهم ، - حاشا ملائكة الله عن ذلك - وقد وصفهم الله بأنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26 - 27 ] . وأمّا علمهم بما ذكروه ، وحكمهم بذلك على بني آدم ، فليس مما استنبطوه بالقياس - ، كما توهّم من أنهم قاسوا أحد الثقلين على الآخر ، حيث أُسْكِنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سُكنى الملائكة ، لتعاليهم عن الظنّ رجماً بالغيب ، بل إنّما عرفوا ذلك بوحي الله ، أو باطّلاعهم على ما في اللوح المحفوظ ، أو بما ارتكز في عقولهم من أن العصمة من المعاصي والشرور كلّها من خواصّهم ، فأجابهم الله عمّا استخبروه بقوله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . حكمةٌ مشرقيةٌ [ سرّ خلافة الإنسان لله تعالى ] واعلم إنّ سرّ خلافة الإنسان لله ، من غوامض العلوم التي لم يمكن الإطّلاع عليها إلا بتوقيف الله عباده عليها بالوحي أو ما ينتمي إليه . ويمكن تقرير شبهة الملائكة ، واستخبارهم على وجه آخر ، وهو أنّ الإنسان قد اختُصّ بتشريف الخلافة ومسجوديّة الملائكة من بين سائر الموجودات من الأملاك والأفلاك ، وجميع مَن في طبقات السموات والأرض والجبال ، وهو مع ذلك مخلوق من التراب ، وفي أول خلقته ، كان أنزل رتبة من الجواهر السماويّة والأرضيّة ، وما في المعادن والجبال ، إذ كان أضعف وجوداً وأخسّ جوهراً من كلّ جوهر عقلي أو نفساني أو طبيعي ، فكيف فاقَ على الأقران ، وجاوَز رتبة النبات والحيوان ، ومرّ على طبقات السموات بنفوسها وعقولها حتى صار خليفة الرحمن ، واسطة بين الله وبين ما سواه - بعد أن كان في عداد الحشرات والديدان ، ممنوّاً بآفة الشهوة والغضب كالأسد والأرنب - ؟ ! وكيف اختصّ هو بذلك الشرف والقرب - دون غيره - ، وما من غير إلاّ وقد كان مثله وقتاً ؟ أمّا المعادن ، فقد كان الإنسان مثلها وقتاً ؛ وأمّا النباتات ، فقد نزل قبل الحيوانيّة في درجتها ؛ وأمّا الحيوانات ، فهو بما هو حيوان من أصنافها ، وإنّما فاز بالنفس الناطقة بعد التجاوز عمّا في مرتبتها ؛ وأمّا السماويّات ، فما من طبقة من طبقاتها إلاّ وقد مكث فيها الإنسان الكامل قليلاً أو كثيراً ، ثمّ جاوزها حتّى بلغ منتهاها ، ووصل إلى غاية مثواها ومبتغاها ، فما سبب تجاوزه عن كلّ مرتبة ذكرناها إلى فوقها دون صاحب تلك المرتبة ؟ مثلاً ، إذا نزل في عالم النفوس الفلكيّة ، فبأيّ سبب أمكنه التجاوز عن رتبة تلك النفوس كلّها ، حتى صار عقلاً محضاً مفارقاً عن الكلّ في مقام القرب الإلهي ، ولم يمكن لواحدة منها ذلك في مدد متمادية إلى أن يشاء الله ؟ فهذا تقرير هذا الإشكال على هذا المنوال ، وجوابه بأنّ شأن من خُلِق للنهاية أن لا يمكث في حدود الطريق إليها . وبعبارة أخرى ؛ إنّ المتحرِّك - بما هو متحرّك - يجب أن يكون حاله ما بين صرافه الفعل ومحوضة القوَّة . وبعبارة أخرى ؛ إنّ الموت عن كلّ نشأة يوجب الحياة في نشأة ثانية فوقها . وبعبارة أخرى ؛ لكلّ صورة من الصور ، وطبقة من الطبقات ، ومَلَك من الملائكة مقام معلوم لا يتعدّاه لقوّة وجودها وشدّة فعليّتها ، والذي خلق للنهاية لضعف وجوده الإبتدائي ، لا مقام له كما في قوله تعالى : { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } [ الأحزاب : 13 ] . وتفصيل ذلك ؛ إن الموجود إمّا بالفعْل من جميع الوجوه ، أو بالفعل من بعض الوجوه وبالقوّة من بعضها ، ولا يمكن أن يكون بالقوّة من كل الوجوه ، وإلاّ لم يكن موجوداً - وقد فرض موجوداً - . أمّا القسم الأول ، فهو الباري - جلّ اسمه - ، وضَرْبٌ من الملائكة المقرّبين ، والفرق بأنّ الباري موجود بوجوده باق ببقاء نفسه ، والمقرّبون موجودون بوجود الله باقون ببقاء الله - لا ببقاء أنفسهم - ، وغير المقرّبين باق بابقاء الله ايّاه ؛ وفرقٌ بين بقاء الشيء بنفسه كما في الواجب الوجود لذاته ، وبين الباقي ببقاء غيره ، كما في صوَر ما عند الله ، وبين الباقي بابقاء غيره ، كما في سائر الممكنات الموجودة الباقية . وأما القسم الثاني ؛ فهو ما يكون مزدوج الحقيقة من أمر يكون به بالفعل - كالصورة وما في حكمها - ، ومن أمر يكون به بالقوّة - كالمادّة وما في حكمها - . ثم هذا القسم أيضاً ، ينقسم إلى قسمين : قسمٌ لا يجوز له الانتقال من صورة إلى صورة ، وقسمٌ يجوز له ذلك ، فالأول ؛ كالأجرام السماويّة في جواهرها وفي أعراضها القارة ، كالكمّ والكيف والشكل - لا في نِسَبها العارضة - ، والثاني ؛ كغيرها مثل الأجسام العنصريّة . ثمّ الجائز له الانتقال في التجوهر والصورة ؛ إما أن يتأتّى له ذلك على سبيل الصعوبة والعُسر ، أو على سبيل السُهولة واليُسر ؛ فالأول ؛ كالجبال والمعادن مثل الذهب والفضّة واليواقيت وغيرها ، والثاني ؛ كالإنسان والحيوان والنبات . وهو أيضاً ؛ إما أن يقف بحركته وانتقاله عند حد لا يتعدّاه إلى الغاية القصوى ألبتّة ، أو لا يقف عنده ، بل يجوز له البلوغ إلى النهاية التي لا غاية وراءها ، فالأول كالإنسان ، والثاني كالنبات والحيوان . ثمّ الإنسان الذي في حقيقة هذا البلوغ ، إمّا أن يبلغ بالفعل الى النهاية ، أو يمنعه مانع ، الأول ، هو خليفة الله في العالَم ، والثاني ، إمّا من أهل السلامة - إن لم يكن الغالب فيه صورة هذه النشأة بحسب كسبه - ، أو من أهل الشقاوة ، إن كان الغالب عليه صورتها . فإذا تقرّر هذا فنقول : أما انتقال صورة الإنسان من حدود الجماديّة إلى مرتبة النبات والحيوان ، فلوَهْن صورته النطفي ، وقوّة استعداده للنموّ ، وقبول الحيوانية ، وأمّا تجاوزه عن حدودهما ، فلضعف النباتيّة والحيوانيّة فيه مع اعتدال المزاج ، كما قال تعالى : { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] . وأما تجاوزه عن حدود الأفلاك والأملاك ، فلأن كُلاً منهما كانت مبدَعة في أول نشأتها على غاية كمالها النوعي ، الذي لا أتمّ منه بحسب النوع ، فكلّ واحد من أشخاص كلّ من القبيلين ، لا يمكنه - لتماميّة ذاته ، وتماميّة صورته ، وفعليّة جوهره ، وعدم ورود ضدّ عليه أصلاً - المزايلة عن نشأته وحاله إلى نشأة ثانية له ، إذ ليس حصول كلّ واحد منها بحسب الجهات الإنفعاليّة القابليّة ، بل الكلّ منها فائضة عن الحقّ بواسطة جهات وجوبيّة فاعليّة ، ولهذا انحصر نوع كلّ منها في شخصه ، لكون التشخّص فيه لازماً للنوع ، وإنّما الحاجة في أحد القسمين - أي الأفلاك - إلى المادّة ، لأجل بعض أعراضها الخارجة عن التجوهُر ، البعيد عن ذات الشخص ، كالنِسب الوضعيّة ، وهي أسهل عَرَض وأيسر غَرض ، فمن كن وجوده على هذا النمَط من الإحكام والوثاقة أو أرفع منه ، فلا يمكنه الفناء والموت عن نشأته إلى نشأة إلاّ عند القيامة الكبرى ، ونفخ الصور المستوعب لفناء الكلّ ، وذوبان الجميع عند ظهور سلطان الأحديّة التامّة ، وكبرياء قهر الواحد القهار . وأمّا الإنسان المخلوق للبلوغ إلى النهاية ، فهو لا يزال في الضعف والانكسار ، والعجز والافتقار ، مع حفظ الله ايّاه عن البطلان ، وتبليغه ايّاه من دار إلى دار ، فما دام الشيء في مقام الحاجة والعجز ، ترد عليه الواردات الإلهيّة والخُلَع النورانيّة ، وما دام في مقام الأنانيّة والافتخار ، يمنعه عن المزيد ويُقيمه على العَتيد ، أو يفسد عليه حاله إلى أدون ما كان عليه . فبهذا العجز والضعف ، استعدّ هو من بين الأجسام الصلبة - كالأرض والجبال - ، والجواهر القويّة - كالسَبْعِ الشداد - ، لتحمّل الأمانة المشار إليها في قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . وتلك الأمانة ، هي النور الإلهي المشار إليه في قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " إن الله خلَق الخلْق في ظلْمة ، ثم رشِّ عليهم من نوره " ، فما أصابه ذلك النور فقد اهتدى ، فكان عرض ذلك النور المسمّى بالأمانة من صفات الحق ، فلا يتملّكه أحد عاماً على المخلوقات ، وإصابته مختصّة بالإنسان الكامل المتحمّل للأمانة الإلهيّة ، فبذلك النور صحّت له الخلافة الإلهيّة المختصّة به من بين المخلوقات ذوات الأرواح . فهذا هو الجواب الربّاني عن شبهة الملائكة المستفاد من قوله تعالى : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، إشارة إلى ذلك النور المشار إليه ، ومن قوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] ، إشارة إلى مروره على كلِّ العوالِم واتّصافه بمظاهر الأسماء ، ومن قوله : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] إشارة إلى صفتَي الغضب والشهوة ، الموجبتين لعجزه وقصوره ، المستدعيتين عند وقاية شرّهما لعبوره ، وهما اللذان جعلهما الملائكةُ من أسباب حرمانه عن التكريم والخلافة في قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } ، أي مَن مِن شأنه هذين الأمرين بمقتضى تينك الصفتين - وقد جعلهما الله من أسباب الإنابة إليه والرجوع إلى دار الكرامة - . واعلم أن شبهة الملائكة عليهم السلام في باب خلافة الإنسان حيث قالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قريب المأخذ من شبهة الشيطان اللعين في باب مسجوديّته حيث قال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . إلاّ أنّهم ذكروها استكشافاً واستعلاماً ، وذكرها اللعين استكباراً وافتخاراً ، واستبداداً بالرأي والقياس في مقابلة النصّ . وبالجملة ، فضيلة الإنسان على الملائكة والجّان ، ليس من جهة الصورة كما تصوّره الملائكة ، ولا من جهة المادّة كما توهّمه الشيطان ؛ بل من جهة الغاية والعاقبة كما أُشير إليه بقوله : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } [ الفجر : 27 - 30 ] . وقُرئ ويسفُك - بضم الفاء - ويُسْفِكُ ويُسَفِّكُ - من باب الإفعال والتفعيل . وفي البيضاوي : " السفْك والسْبك والسفْح والشنّ أنواع من الصبّ ، فالسَفْك يقال في الدم والدمع . والسَبْك في الجواهر المذابة . والصفْح في الصبّ من أعلى . والشنّ في الصبّ عن فم القِربة ونحوها ، وكذلك السنّ . وقرئ يُسْفَك - على البناء للمفعول - ، فيكون الراجع إلى " مَنْ " - سواء جُعل موصولاً أو محذوفاً - أي : يسفك الدماء فيهم " . فصل قوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال صاحب الكشّاف : " التسبيح تبعيد الله عن السوء ، وكذلك تقديسه . من سَبَح في الأرض والماء ، وقَدَسَ في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد . و { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال ، أي : نسبّح حامدين لك ومتلبّسين بحمدك ، لأنّه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكّن من عبادتك " - انتهى . وقيل : تداركوا به - أي : بحمدك - ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم . و { نُقَدِّسُ لَكَ } ، أي نطهّر نفوسنا لأجلك ، كأنّهم قابلوا الفساد المفسّر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء - الذي هو أعظم الأفعال الذميمة - بتطهير النفس عن الآثام . وقيل : اللام زائدة ، أي نقدّسك . وقال بعضهم : إن هذه الجملة حال مقرّرة لمضمون وجه الإشكال ، والمعنى : أتستخلف مَن شأنُهُ صدور دواعي الشهوة والغضب منه ، ونحن معصومون من هذه الآفة أحقّاء بذلك ، كقولك : " أتحسن إلى أَبَا عِدِكَ وأنا من أقربائك " ؟ ! . وقد مرّ أن مقصودهم الاستخبار والاستعلام ، فإنّهم لمّا علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى ، عليها مدار أمره ودوام عمره : الشهوية والغضبية : - وهما يدعوانه ويؤديان به إلى الفساد وسفْك الدماء - ، والعقليّة : - وهي تدعوه إلى المعرفة والطاعة ، ونظَروا إلى أحوال هذه القوى مفردة مفصّلة - لا على النظم الوحداني - ، قالوا : " ما الحكمة في استخلاف مَن يصحب تينك القوّتين ، وهما ممّا لا يقتضي الحكمة ايجاد من يصحبهما ، فكيف استخلافه ؟ وأمّا باعتبار القوّة العقليّة ، فنحن نقيم ما يتوقّع منه سليماً عن معارضة تلك المَفاسد " وغفلوا عن فضيلة كلّ واحدة من القوّتين إذا صارت مهذّبة مطواعة للعقل ، متمرّنة على الخير ، كالعفّة والشجاعة ، ومجاهدة الهوى ورعاية الانصاف ، ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيّات ، واستنباط الصناعات ، واستخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل ، الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالاً بقوله : { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . أقول : منشأ خلافة الإنسان ، إمّا من جهة القرب والشرف ، أو من جهة الكمال والمناسبة ، وإن كان مرجع هٰذين إلى أمر واحد ، فإنّ الأقرب إلى الله وجوداً ، يكون أكثر كمالاً وأشدّ مناسبة له من غيره ، إلاّ أن المشهور أنّهما متغائران حيثيّة واعتباراً . فنقول : إن كان منشأها القُرْب ، فالوجه في تقرير الإشكال وتقرير الجواب كما سبق ، وذلك يناسب آراء الحكماء وأصولهم . وإن كان منشأها المناسبة والطاعة وعدم المعصية ، فالوجه كما ذكره هذا القائل إشكالاً وجواباً ، وهذا يناسب أطوار الصوفيّة وأغراضهم ، فإنّ مناط الخلافة الإلهيّة عند هؤلاء ، باستجماع الكمالات والاتصاف بجميع أصناف صفات الملائكة والجانّ والحيوان ، وعند الحكماء بالبراءة عن الشرور والنقائص من جهة العلم والعرفان . وهذا ، لأنّ الحقيقة الواجبيّة عند الحكماء ، منزّهة عن صفات التشبيه ، كالسمع والبصر والكلام وغيرها ، وعند هؤلاء متّصفة بها أيضاً على وجه يليق بذاته ، فكذلك حكم من ينوب عنه ويتوسّط بينه وبين الخلائق ؛ فالملائكة يعرفون الحقّ الأول بما يغلب عليهم من صفات التسبيح والتقديس ، فتسبيحهم في مقام العبودية : " سبّوح قدّوس ربُّ الملائكة والروح " ؛ والأنبياء - صلوات الله عليهم - يعرفون الحق بما يظهر لهم من صفات التمجيد والتشبيه جميعاً ، فَذِكْرُهُم : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ سورة يونس : 10 ] . ومعرفة الحكماء بحسب مقام العقل لله ، تشبه معرفة الملائكة المجرّدتين ؛ ومعرفة أكابر الصوفيّة له تعالى في مقام المتابعة والاقتباس من نور النبوّة ، تشبه معرفة الأنبياء الكاملين - سلام الله عليهم أجمعين - ، كلٌّ بحسب ما هو نصيبهم من شهود التجلّي الإلهي والفيض الوجودي . قال الشيخ العربي : " إذا تجلّى الحقّ تعالى في صورة مثاليّة أو حسّية ، ترده العقول المحجوبة بواسطة أنها دائمة منزّهة للحقّ ببراهين عقليّة يواظب عليها ، إذ المواظبة والمثابرة على الشيء ، توجب انكار ما وراه ، والعقل وإن كان ينزّه الحقّ عن التشبيه ، فهو يشبّهه في عين التنزيه بالمجرّدات وهو لا يشعر ، والحق تعالى منزّه عن التشبيه والتنزيه جميعاً بحسب ذاته ، وهو موصوف بهما في مراتب أسمائه وصفاته " . وقال أيضاً : " واعلم أنّ الردّ والإنكار إنّما يقع في التجلّيات الإلهيّة ، لأنّ الحقّ تارة يتجلّى بالصفات السلبيّة فتقبله العقول ، لأنّها منزّهة مسبّحة عما فيه شائبة التشبيه والنقصان ، وينكره كل من هو غير مجرد كالوهم والنفس المنطبعة وقواها ، لأن من شأنهم إدراك الحقّ في مقام التشبيه والصور الحسّية ، وتارة يتجلّى بالصفات الثبوتية فتقبله القلوب والنفوس المجرّدة ، لأنّها مشبّهة من حيث تعلّقها بالأجسام ، ومنزّهة باعتبار تجرّدها ، وتنكره العقول المجرّدة لعدم إعطاء شأنها إيّاها ، بل تنكر تلك الصفات أيضاً بالأصالة . وفي هذا التجلّي ، قد يتجلّى بصور كماليّة كالسمع والبصر والإدراك وغيرها ، وقد يتجلى بصورة ناقصة من صور الأكوان ، كالمرض والاحتياج والفقر ، كما أخبر الحقّ عن نفسه بقوله : " مَرضتُ فلم تعدني ، واستطعمتُ فلم تطعمني " وقوله : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ } [ البقرة : 245 ] . - وأمثال ذلك - ، فيقبله العارفون مظاهِر الحقّ ، وينكره المؤمنون المحجوبون ، لاعتقادهم بأنّ الحقّ ما يتنزل عن مقامه الكمالي ؛ فيقبل كلّ منهم ما يليق بحاله ويناسبه من التجلّيات الإلهيّة ، وأنكر ما لم يكن يعطيه شأنه ، والإنسان الكامل هو الذي يقبل الحقّ في جميع تجلّياته ويعبده فيها . ولمّا كانت العقول الضعيفة عاجزة عن إدراك التجلّيات الإلهيّة في كلّ موطن ومقام ، والنفوس الأبيّة طاغية غير معظّمة لشعائر الله ، أوجبت إسناد الصور الكمالية إليه تعالى ، وردّ ما يوجب النقصان عنه ؛ مع أنّه هو المتجلّي في كلّ شيء ، والمتخلّي عن كلّ شيء " - انتهى . فقد ظهر أن كلّ واحد من الممكنات يعرف معبوده بما غلب على نشأته ، فالملائكة لكونهم مجرّدين عن صفات الأجسام ، يصفون الحقّ بصفات التسبيح والتقديس ، ولهذا ذكر مجاهد في تفسير قوله : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } " أي : نطهّر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء مرضاتك " . وبعض الناس - كالظاهريين - يصفونه تعالى بصفات التشبيه ، كالاستواء والمجيء والنزول والغضب وغيرها ، وكذا القياس في غيرهم ، كلّ يصفه بما هو مقامه في الشهود ، فأهل الحواسّ بالمحسوسيّة ، وأهل الخيال بالموهومية ، وأهل العقل بالمعقولية ، والكل مصيب من وجهٍ ومخطئ من وجه ، والله تعالى - وهو أعرف بذاته ممّا سواه - ، وقد وصفه بالصفات المتضادّة والأسماء المتقابلة . فقد علم أن الكلّ عاجزون عن دَرْك جمال صفاته ، قاصرون عن معرفة كمال ذاته - إلاّ من علّمه ربّه بتعليم الأسماء ، وهداه إلى معرفته بقَصْر نظره إليه في مقام الفناء عمّا عداه - .