Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 36-36)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا هو آخر درجات النزول لآدم ( عليه السلام ) من عالَم القدس ، ودار الكرامة ، وذلك أنَّ آدم ( عليه السلام ) لما كان مستصلحاً لعمارة الدارين ، وأراد اللهُ بحكمته الكاملة منه عمارةَ الدنيا كما أراد عمارةَ الآخرة والجنَّة ، كوَّنه من التراب تكويناً ، وركّبه تركيباً يناسب عالم الحكمة والشهادة ، وهي هذه الدار الدنيا . وما كانت عمارةُ الدنيا تأتي منه وهو غير مخلوق من أجزاء أرضيّة سفليّة بحسب قانون الحكمة ، فمِن التراب كوَّنه ، وأربعين صباحاً خمّر طينتَه - كما ورد في الحديث القدسي - ليبعد بالتخمير أربعين صباحاً أربعين حجاباً من الحضرة الإلهيّة ، كلّ حجاب هو معنى مودع فيه يصلح لعمارة الدنيا ، ويتعوّق به عن الحضرة الإلهيّة ومواطن القُرب . إذ لو لم يخرج عنها ولم يتنزّل إلى الدنيا لم يصلح لعمارة الدارين جميعاً ، ولخلافة الله في أرضه ، ثمّ لأن يكون زينةً للعالَم الأعلى وملَكاً في الآخرة ملكاً كبيراً . فبالتبتّل إلى طاعة الله ، والرجوع إليه بالعلْم والعمل ، والاقبال عليه ، والانتزاع عن التوجّه إلى السفليّات ، يخرج كل وقت عن حجاب أمر مودع فيه عند التركيب ، وعلى قدر زوال كلّ حجاب ينجذب إلى مقام نزل منه ، ويتّخذ منزلاً في القرب من الحضرة الإلهيّة ، التي هي مجمع الأُنس ومنبع العلوم ، ومصدر الحقائق . فإذا تمّ السلوك والتبتّل ، وزالت الحجب ، انصبّت على القلب مياه العلوم والمعارف ، كما في قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " مَن أخلَصَ لله أربعين صباحاً ظهرتْ مِن قلبهِ على لسانِه ينابيعُ الحكمةِ " فهذه الأربعين صباحاً في التمحيص والتطهير في مقابلة تلك الأربعين صباحاً في التخمير والتركيب . ثمّ اعلم أنَّ العلوم الحقيقيّة والمعارف هي بعينها أعيان صوريّة في عالَم الحسِّ والشهادة ، انقلبت بإكسير نور العظمة الإلهيّة بها ، كما أنَّ هذه الصور أُصولها أيضاً أعيان عليّة ، وصور مفارقة عند الله صارت متمثّلة في هذا العالَم بتقدير الله . فلكلّ غيب شهادة ، ولكلّ ظاهر باطن . فنزولها وصعودها على وفْق هبوط آدم ( عليه السلام ) وعُروجه تكميلا للحكمة وإظهاراً للقدرة . فصل قال بعض الحكماء في لِميَّة إخراج النفوس من جنّة الأرواح لجناية وقعت : إنّ النفوس الجزئيّة لمّا هبطت من العالَم الذي كانت ، وسقطَت عن مراتبها العالية لجناية وقعت من أبيها وأمّها ، غرقت في بحر الهيولى وغاصت في قعر أمواج الأجسام وقيل لها : { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } [ المرسلات : 30 ] . فتفرّقت في هياكل الأجسام وتمزّقت بعد وحدتها وجمعيّتها ؛ وتشتَّتَ شملُها ، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } . وعرَض لها عند ذلك من الأهوال ، والدهش ، والمصائب مثلُ ما عرَض لقوم ركّاب البحر لمّا اشتدت بهم الريحُ ، واضطرب بهم البحرُ ، وهاجت بهم الأمواجُ ، وانكسرت منهم السفينةُ ، وغرقوا في بحر الطبيعة ، وغاصوا في ظلمات الماء ، وتفرّقوا في كلّ فجٍ عميق من الجزائر والسواحل . فكما أنَّ أولئك القوم في الوقت الذي انكسرت منهم السفينةُ تراهم بين غائصٍ ، وطافٍ ، أو متعلّق بخشَبَةٍ أو بحبلٍ ، أو راكب بعضُهم كتفَ بعض ، كلّ واحد يقول : " نفْسي ، نفْسي " من شدّة الأهوال ، لا يفكّر بغيره ، ولم يرد النجاة إلاّ لنفْسه ، ولا همُّه سواه ، ولا يفكّر فيما كانت فيه فهكذا حال النفوس في هذا العالم وكونها مع هذه الأجساد . فمِن هذه الأشياء نسيَت النفوسُ عالَمَها ودارَها الحيواني ، ولا نذكر شيئاً ممّا كانت فيه من أمر عالَمِها ، ومعادِها ، كما قال تعالى : { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } [ الصافات : 13 - 14 ] . ثم قال : إنّ النفس إذا انتبهتْ من نوم الغفلة ، ورقدَة الجهالة ، واستبصرت ذاتَها ، وعرفت جوهرَها ، وتحقّقت بغربتها في عالَم الأجسام ، وغرقِها في بحر الهيولى ، وأسْرِها بالشهوات الطبيعيّة ، وعاينت عالَمَها ، واستبانَ لها فضلُ نعيمها على هذه اللذّات الكدِرة الظلمانيّة وتنسّمت بروح عالَمها وريحانها ؛ اشتاقت إلى هناك وملَّت الكونَ مع هذه الأجسام ، وزهدَت في نعيم الدنيا ، وتمنَّت الموتَ لهذا الجسد ، والخروج من ظلمته ، فيكون مثَلُها مَثلُ جماعةٍ خرجوا من الحبوس والمطامير مع ضوء الصبح ، فشاهَدوا هذا العالَم دفعة واحدة . فأمّا النفس الغير المستبصرة فمَثَلُها كمَثَل العميان سواءٌ عندهم ضوءُ النهار وظلمة الليل . وسُئل بعضُ الحكماء العارفين : " إنّا من أيّ موضعٍ جئنا إلى هذا العالَم ؟ " فقال في الجواب : " اعلم إنّا جِئنا إلى هذا العالَم من ذلك العالَم . وحدُّ هذا العالَم من فوق فلَك البروج سِدرة المنتهى ، تحت الفلَك المستقيم إلى هذه الأرض وحدّ ذلك العالَم من فوق الفلَك المستقيم إلى تحت مرتبة القلَم الإلهي ، وهو العقل الكلّي . ومجيئنا من ذلك العالَم إنّما هو من الجنّة ، جنّة الله التي هي حظيرة القدس التي بها قدّس المقدّسون ، وتلك هي فوق ذلك العالَم . فأمّا هذا العالَم فهو دار عمل ، وذلك العالَم دار حساب والجنّة هي دار جزاء المحسنين . واعلم إنّا جئنا من جنّة القدس إلى ذلك العالَم ، ومن ذلك العالَم إلى هذا العالَم ، ومن هذا العالَم نذهب إلى فلَك البروج ، ومن فلك البروج نذهب إلى ذلك العالَم الذي هو موضعُ الحساب ، ومن موضعٍ الحساب يرجع من أحسن عمله إلى جنَّة الله ، وبقي بقاء سرمديّاً ، ويبقى من أساءَ عمله تحت ذُلِّ الطبيعة ، ونار الجحيم في دار جهنَّم ، { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] . واحتاجوا إلى العمل من غير إرادةٍ منهم ، لِيَصِلُوا إلى الصوَر الموافقة لأرواحهم في الجنَّة ، وهم ينالون من تلك الصور التي في الطعام والشراب لذّة ، ويجدون سُكوناً إلى الدنيا تحت الطبع والطبيعة . وكذلك يكونون في قيد الطبيعة ، يدخلون كارهين من غير إرادةٍ تحت قيد العقل الذي بذره العقل العملي الذي جاء به الرسل ( عليهم السلام ) ممّا يشهد به شرائعهم حتّى تستأنسَ النفسُ ، وتطمئنَّ بتلك الصوَر العمليّة ، والعقليّة ، وتجدَ بها قراراً ، لأنّ أصلها أيضاً من جنّة الله تعالى ، وبتلك الاستفادة يُضيء لها طريق الصراط وقت ذهابها إلى معادها ، ويخف حسابها ، وتثقل موازينها . فقد تبيَّن الآن أنَّ البشرَ بتقدير الابتداء ، ومقام الاباء ، فوق العقل والطبع ، لكنَّهم اليومَ محبوسون تحت الطبيعة ، مقيَّدُون بالعقل العملي ، وخلاصُهم يكون عند إطلاقهم عن وثاقهم ، وخروجهم عن قيد العقل ، وليس يخلصون عن قيد العقل إلاّ حين يخرجون من سجن الطبع والطبيعة . وهذه معان منغلقة يفتحها الشرع للمستحقّين ، وإنّها محرّمة على الجاهلين . ثمّ سُئل مسألة ثانية هي : إنّا لأي شيءٍ جئنا إلى هذا العالَم ، بعد أن كنّا مغبوطين ؟ فأجاب : إعلم إنّ مجيئَنا إلى هذا العالَم لم يكن باختيارنا وإرادتنا ، لكن بالقهر جئنا ، وبالقهر نمسك ، وبالقهر نخرج . وإنَّا جئنا للتمحيص ، والتطهير { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 141 ] . وطهارة النفس إنّما تكون بالعمل الشرعي ، والعلْم الإلهي ، وبهذين تتمّ الطهارة والتوجّه إلى المعاد ، وكما أنَّ طهارة الجسد يكون بالماء ، أو بالتراب عند عدم الماء ، كذلك طهارة النفس بالعلْم الذي هو بمنزلة الماء ، والعمل الذي هو بمنزلة التراب ، فكل من أتى بالعمل الشرعي حتّى يصلَ إلى العلْم الإلهي ، فيعلم حقيقته ، ويعرف نفسه . فإنّه يخلص عند مفارقته هذه الدنيا ، التي هي سجن المؤمن ، وجنّة الكافر . إشارةٌ مشرقيّةٌ واعلم أن حكايةَ هبوطِ العقل الإنساني ، والنفس الآدميّة من عالَم القدس إلى موطن الطبيعة الجسمانيّة ، ممّا كثُرت في مرموزات الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وإشارات الأولياء والحُكماء . ففي القرآن المجيد قد ذكر هبوط النفس وصعودها في آيات عديدة ، كقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ التين : 4 - 6 ] . وكقوله : { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . وكقوله : { قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ الأعراف : 24 - 25 ] . وكقوله : { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } [ التكاثر : 1 - 2 ] إلى قوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] . وكقوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 71 - 72 ] . وكقوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [ الأعراف : 29 - 30 ] . وكقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . وفي كلام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " رَحِمَ اللهُ امرئاً أعدّ لنفْسه ، واستعدَّ لرمْسه ، وعَلِم مِن أينَ ؟ وفي أينَ ؟ وإلى أين ؟ " . وفي كلامه ( عليه السلام ) أيضاً : " وليحضرَ عقلَه ، وليكُن من أبناء الآخرة ، فإنّه منها قدِم ، وإليها ينقَلِب " . وفي كلامه ( عليه السلام ) أيضاً في بيان ماهيّة النفس ومبدئها ومعادها : " إعلم أنَّ الصورةَ الإنسانيّة هي أكبر حجج الله على خلقِه ، وهي الكتاب الذي كتبَه بيده ، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالَمين ، وهي المختصر من اللوح المحفوظ ، وهي الشاهد على كلّ غائِب ، والحجّة على كل جاحِد ، وهي الطريق المستقيم إلى كلّ خير ، وهي الصراط الممدود بين الجنّة والنار " . وفي كلمات الحكماء الراسخين إشارة لطيفة ، ورموز شريفة إلى هبوط النفس وصعودها ، وحكاياتٌ مرشدة إلى ذلك . ومنها قصّة سلامان وأبسال التي ذكرت في مقامات العارفين ، ومنها قصّة الحمامة المطوّقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة ، ومنها حكاية الطير المذكورة في رسالة لأبي علي بن سينا ، ومنها حكاية حيّ بن يقظان . يفهم من كلّ منها أنَّ للنفس قبل وجودها في هذا العالَم وجوداً سابقاً ، وفطرة أوّلية أصليّة في المراتب المتقدّمة ، وأنَّ لها بعد هذا الوجود رُجوعاً وعَوداً إلى ما هبَطت منه إن لم يعِقها عائقٌ عن الرجوع إلى أصلها . قال بعض الحكماء مشيراً إلى ذلك : إنّي كنتُ في هورقليا مع الخلاّن ، والرفقاء ، والاخوان ، والآباء ، في فضاءٍ فسيح شديد البهاء ، كثير الضياء ، أبدَع الله بعلمه القديم صوَر الكائنات في أحسن تقويم ، فيها رياض خُضر كان بينها نسج ديباج من الزهر ، والنور ، والزعفران ، في أواسطها أنهار تجري على حصاة كأنّها الدرّ ، والياقوت ، والمرجان ، فيها بيوتٌ علاية ، وقصورٌ شاهقة ، فيها سررٌ مَرفوعة ، وأكوابٌ موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة يُطاف عليها وِلدان وغِلمان ، وحورٌ حسان لم يطمثهنّ قبلهم إنس ولا جانّ . وقد استعمل أبي الفلاحة في الأصقاع وتزيين البقاع بالعمارة . فبعثَني يوماً لتعمير قطر ، فإذاً أنا بحمّام كدِر وغارٍ مظلمٍ منقوش بصورة العالَمين ، استقرّ فيه أبناء الجنّ والشياطين العارفين بعلم السيمياء ، القادرين على إراءة الأشياء لا على ما هي عليها . فشاهدتُ عجائب عديدة وغرائب كثيرة . منها أنَّ رجلاً في مزبلة عليها سماد طريّة ، وجِيَف منتنة ، ويسأل الله أن يُثبِته على هذه الحالة أبداً . ومنها أنَّ رجلاً ضعيفاً عاجزاً به أوجاع وجراحات لا تُحصى كثرة في خَربة من المغارة المنقوشة يزعم ويدعي أنَّ تلك الخربة عمارات ، وتلك الجراحات وتلك النقوش والصور خدمه ، وحشمه ، وهو ملك عظيم قدير ، يعاقِب من يشاء ، ويرحم مَن يشاء . فابتليت بصحبتهم طويلاً ، وخرجت عن الفطرة كثيراً . فنسيت ما كنت عليه ، فحسبت النار نوراً ، والظلَّ حَروراً ، والقبيح حسَناً ، والحسَن قبيحاً ، والموتَ حياة ، والحياة موتاً ، والسرابَ شراباً ، والذلَّة لذّة ، والراحة جراحةً . حتى نبَّهني بعضُ آبائي الكرام ، الذي زيَّنوا حافات تلك الظلام من أنوارهم بمصابيح ، وجعلوها رُجوماً لأولئك الشياطين ، ومَن انتمى إليهم من المرَدة المَلاعين ، ووضعوا فيها سَلاليم ليسهل بها الرجوع والعُروج ، ومفاتيح ينفتح بها أبواب الخروج ، فأرسلوا من حَبْل شعاعهم خيوطاً ليعرج بها من مهاوي عالَم الزور والغرور إلى معارج عالَم النور والسرور ، وذكروا أموراً بها يتذكّر معاهد القدس فيجانس الإنس . فتذكّرت وعلِمت أنَّ أُولئك الشياطين عارفين بالسيمياء ، قادرين على تغيير حقائق الأشياء في المرائي الموضوعة ، فيخيّلون النور ظلاماً ، والصحَّة سقاماً ، فينسون أمر النفس وعهدها القديم ، ويُحيلون بين المرء ومطلوبه . فأعرضت عن هؤلاء وتتبَّعت لأنوارهم ، واقتفيتُ لآثارهم ، وتعجبت من تبدّل الحالات ، وتغيُّر الخيالات . وقال بعض آخر : إنَّ النفس قطرةُ انفصلت من البحر ، أو شعلةٌ انقطعت من النار ، فعادت واتّصلت بما كان ، وطارت بأجنحة الكروبيّين . ومنها ما ذكره انباذقلس الحكيم ، وهو : إنّ النفس إنّما كانت في المكان العالي الشريف ، فلما أخطأتْ سقطَت إلى هذا العالَم ، وإنّما صارتْ إلى هذا العالَم فراراً من سخط الله ، لأنّها لمّا انحدَرت غلى هذا العالَم صارت غياثاً للأنفُس التي قد اختلطتْ عقولُها ، فصارتْ كالإنسان المجنون . نادى الناس بأعلى صوته وأمرَهم أن يرفضوا هذا العالَم وما فيه ، ويصيروا إلى عالَمهم الأوّل الشريف ، وأمَرهم أن يستغفروا الإله عزَّ وجلّ لينالوا بذلك الراحةَ والنعمةَ التي كانوا فيها . ومنها ما قاله أفلاطون الربّاني في كتاب له يُدعى " فاذان " : " علّةُ هبوط النفْس إلى هذا العالَم سقوطُ ريشها ، فإذا ارتاشَت ارتفعت إلى عالَمها الأوّل " . ومنها ما قال هو - أيضاً - في بعض كتبه الذي يدعى : " طيماوس " : إن علّة هبوط النفس إلى هذا العالَم أمورٌ شتَّى . وذلك أنّ منها ما هبطت لخطيئةٍ أخطأها ، وإنّما هبطَت إلى هذا العالَم لتُعاقَب وتُجازى على خطاياها . ومنها ما هبطت لعلّة أُخرى " . غير أنَّه اختصر في قوله : وذمَّ هبوطَ النفس وسُكناها في هذه الأجسام . وقال في موضع آخر من طيماوس : إنّ النفْسِ جوهرٌ شريفٌ سعيدٌ ، وإنّما صارت في هذا العالَم من فعل الباري الخير ، فإنّ الباري لما خلَق هذا العالَم أرسَل إليه النفس ، وصيرها فيه ليكون العالَم حيّاً ذا عقل ، لأنّه لم يكن من الواجب إذا كان هذا العالَم متقناً في غاية الاتقان أن يكون غير ذي عقل ، ولم يكن ممكناً أن يكون العالَم ذا عقل وليست له نفْس . فلهذه العلّة أرسَل الباري النفسَ إلى هذا العالَم وأسكنَها فيه . ثمَّ أرسل أنفُسنا وأسكنَها في أبداننا ، ليكون هذا العالَم تامّاً كامِلاً ، ولئلاّ يكون دون ذلك العالَم في التمام والكمال . فينبغي أن يكون في العالَم الحسّي من أجناس الحيوان ما في العالَم العقلي . ثمَّ قال : إنّ هذا العالَم مركّب من هيولى وصورة ، وإنّما صوّر الهيولى طبيعة هي أشرف من الصوَر ، وهي النفس العقليّة ، وإنما صارت النفْس تصوّر في الهيولى بما فيها من قوة العقل الشريف ، وإنّما صار العقل مقوّياً للنفس على تصوير الهيولى من قِبَل الانيّة الأولى ، التي هي علّة الانيّات العقليّة ، والنفسانيّة ، والهيولانيّة ، وسائر الأشياء الطبيعية ، وإنما صارت الأشياء الطبيعيّة حسَنة بهيّة من أجْل الفاعل الأوّل ، غير أن ذلك الفعل إنّما هو بتوسّط العقل والنفس . ثم قال : إنّ الانيّة الأولى الحقّ هو الخير المحض ، وهو الذي يفيض على العقل الحياة أوّلاً ، ثمّ على النفس ، ثمّ على الأشياء الطبيعيّة . ومنها ما قاله أرسطاطاليس وهو المحمود اسمه ونعته في شريعتنا ، حتّى أنّه نُقل عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال في حقِّه : " هو نبيٌّ من الأنبياء جهله قومُه " وقال لعليّ ( عليه السلام ) : " يا أرسطاطاليس هذه الأمَّة " وفي رواية أُخرى : " يا علي أنتَ أرسطاطاليس هذه الأمّة وذو قرنَيها " وبرواية : " أنا ذو قرنَيها " . وقد رُوي أنَّه ذُكر في مجلس النبي ( صلى الله عليه وآله ) أرسطاطاليس ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : " لو عاشَ حتّى عَرف ما جئتُ به لاتّبعني على ديني " فلقد تكلّم في باب النفس الكلّية وهبوطها كلاماً يُشبه الرمز ، وهو هذا : " إنّي رُبما خلوتُ بنفسي ، وخلعتُ بدني جانباً ، وصرتُ كأنّي جوهرٌ مجردٌ بلا بدني ، فأكون داخلاً في ذاتي راجعاً إليها خارجاً من سائر الأشياء فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعاً فأرى في ذاتي من الحُسن والبهاء ما أبقى له متعجّباً بهِتاً . فلما أيقنت بذلك رقيت بذهني من ذلك العالَم إلى عالَم العليَّة الإلهيّة ، فصِرتُ كأنّي موضوعٌ فيها ، متعلّق بها ، فأكون فوقَ العالَم العقلي كلّه ، فأرى كأني واقفٌ في ذلك الموقف الشريف الإلهي ، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا يقدر الألسن على صفته ، ولا تعيه الأسماع ، فإذا استغرقَني ذلك النور والبهاء ولم أقوَ على احتماله هبطت من العقل إلى الفكر والرويّة ، فحجبَت الفكرةُ عني ذلك النور ، فأبقى متعجباً أنّي كيف انحدرتُ من ذلك الموضعِ الشامخِ الإلهي … الذي هو علّة كلّ نور وبهاء . ومن العجَب أنّي رأيت ذاتي ممتلئةً نوراً ، وهي في البدن كهيئتها وهي غير خارجة منه غير أنّي أطَلتُ الفكرة وأجَلتُ الرأيَ فصِرتُ كالمبهوت ، وتذكّرتُ عند ذلك أرقليطوس ، فإنّه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس ، والحرص على الصعود إلى ذلك العالَم الشريف الأعلى وقال : إنّ مَن حرصَ على ذلك وارتقى إلى العالَم الأعلى جُوزي هناك أحسنَ الجزاء اضطراراً ، فلا ينبغي لأحد أن يفترَ عن الطلب ، والحِرص في الارتفاع إلى ذلك العالَم وإن تَعب ونصَب ، فإنّ أمامَه الراحةُ التي لا تعَبَ بعدها ولا نصَب . وإنّما أراد بقوله هذا تحريصاً على طلَب الأشياء العقليّة لتجدَها كما وجَدَ ، وتُدركَها كما أدرك " . ولأرسطاطاليس في كتاب المعروف باثولوجيا - معناه معرفة الربوبيّة - تصريحاتٌ وإشارات على أنّ صورة الإنسان قبل هذه النشأة الحسيّة كانت في العالَم العقلي موجودةً على وجه أعلى وأشرف من هذا الوجود الماديّ الظلمانيّ . فقال في موضع منه : " إن الإنسان الحسيّ صنمٌ للإنسان العقلي ، والإنسان العقليّ روحانيّ ، وجميع أعضائه روحانيّةٌ ، ليس موضع العَين غير موضع اليدِ ، ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة ، لكنّها كلّها في موضع واحد " . وقال في موضع آخر منه : " إنّ في الإنسان الجسمانيّ ، الإنسان النفساني ، والإنسان العقلي ، ولست أعني أنّه " هو هما " لكني " أعني أنّه يتّصل بهما لأنه صنم لهما ، وذلك لأنّه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفساني ففي الإنسان كلمات الإنسان العقلي وكلمات الإنسان النفسي ، فقد جمَع الإنسان الجسماني كِلتَي الكلمتين ، إلا أنّهما فيه قليلة ، ضعيفة ، نزِرة ، لأنّه صنَمٌ للصنَم . فقد بانَ أنَّ الإنسان الأوّل حسّاس إلا أنّه بنوع أعلى وأشرف من الحسّ الكائن في الإنسان السِّفلي ، وهو إنّما ينال الحسَّ من الإنسان الكائن في العالَم الأعلى العقلي كما بيّناه " انتهى كلامه . وكلامه في النشآت الثلاث للإنسان يطابِق القرآن كما وقعت الاشارة إليه ، فإنّ الإنسان العقلي هو الإنسان التامّ الكامل ، الذي كانت الملائكة كلّهم مأمورين بسجوده وطاعته ، والإنسان النفْسي هو الذي كان في الجنّة قبل هبوطِه إلى هذا العالَم ، لأنّ الجنّة من مسارح النفس ومراتعها ، وفيها ما تشتهي الأنفُس وتلذّ الأعين ، والإنسان السِّفلي هو المخلوط من التراب ، المعرَّض للموت والفساد ، والشرّ ، والعداوة ، والخصومة كما في قوله : { ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } . فصل قوله تعالى : { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا } الزَلّة ، والخَطيئَة ، والمَعصِية ، والسَيّئة بمعنى واحد بحسب العُرف . وضدّ الخَطيئة : الاصابَة . يقال : " زَلَّت قدمُه زَلاًّ " و " زَلَّ في مَقالَتِه زَلَّةً " والمزِلَّة : المكان الدَّحض . والأصل في ذلك الزوال . فالزَلّة زوالٌ عن الحق وتحوّل عنه . قال صاحب الكشاف : " معناه : فأصدر الشيطان زلّتهما عنها ولفظة " عَنْ " في هذه الآية كهي في قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [ الكهف : 82 ] . ومن قرأ : " أزالَهما " فهو من الزوال عن المكان . وقال بعض العلماءِ : أزلّهما الشيطانُ ، أي : استزلّهما . وهو من قولك : " زَلَّ في دينه ، أو دنياه " نسب الازلال إلى الشيطان لما وقع بدعائه ووسوسته وإغوائه عنها أي : عن الجنة وما كانا فيه من عظيم الرتبة والمنزلة . والشيطان المراد به إبليس . فأخرجهما ممّا كانا فيه من النِّعمة والدّعة . ويحتمل أن يكون المراد أخرجهما من الجنّة حتّى أُهبطا . أو من الطاعة إلى المعصية . وأضاف الاخراج إليه لأنّه كان السبب فيه . كما يقال : " صرَفني فلانٌ عن هذا الأمر " . واختُلف في كيفيّة وصول إبليس إلى آدمَ وحواء حتّى وسوَس إليهما وإبليس كان قد أُخرج من الجنّة حين أبى السجود ، وهما في الجنّة . فقيل : إنّ آدم كان يَخرج إلى باب الجنّة ، وإبليس لم يكن ممنوعاً من الدنوّ منه . فكان يكلّمه . عن أبي علي الجبائي . وقيل : كان إبليس يدنو من السماء فيكلمهما . وقيل : قام عند الباب فنادى . ورُوي أنَّه " أراد الدخول فمنعَته الخزَنة ، فدخل في فَم الحيَّة حتّى دخلت وهم لا يَشعرون " . وهذا يُشبه قول القصّاص . ويحتمل أن يكون الحيّة إشارة إلى بعض قُوى النفس الإنسانيّة التي بوسيلتها يوقِع الشيطانُ الوسوسةَ في قلب الإنسانية ، فكأنّه دخل بوسيلتها في روضة قلْبه . وروي أيضاً ما يقرب من هذا ، وهو أنَّ إبليس دخل الجنّة في صورة دابّة . واختلفوا أيضاً في أنَّ إبليس هل باشَر خطابَهما ، أو يقال : إنّه أوصل الوسوسةَ إليهما على لسان بعض أتباعه . وقوله تعالى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] . وكذا قوله : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 22 ] . يقتضي المشافهة . ودليل الثاني : إن آدم وحوّاء كانا يعرفانه ، ويعرفان ما عنده من العداوة والحسد ، فبعيدٌ في العادة أن يقبلا قولَه ، وأن يلتفتا إليه ، فينبغي أن يكون وسوسته بالواسطة . فصل قوله : { ٱهْبِطُواْ } خطابٌ للجمع . وفيه وجوه : أحدها : أنَّه خاطَب آدمَ وحواءَ وإبليسَ ، وهو اختيار الزَّجّاج ، وبه قال جمع من المفسّرين ، وهذا غير منكَر وإن كان إبليس قد أُخرج قبل ذلك بدلالة قوله : { فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ ص : 77 ] . فجمع الخبر للنبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنّهم قد اجتمعوا في الهبوط وإن كانت أوقاتهم متفرّقة ، كما يقال : " أُخرِج جميعُ مَن في الحبس " وإن أُخرجوا متفرقين . والثاني : إنّه أراد آدمَ وحواءَ والحيّةَ وفيه بُعدٌ . والثالث : إنّه أراد آدمَ وحواءَ وذريّتهما . لأن الوالدين يدلاّن على ذريّتهما وتتعلّق بهما . والرابع : - وهو الأولى - أن يكون الخطاب يختص بآدمَ وحواء ، والمراد هما وذريّتهما ، لأنّهما كانا أصلَي الإنس ومتشعبهم ، جُعلا كأنهما الإنس كلّهم . والدليل عليه قوله : { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ طه : 123 ] . وهو من قبيل قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . والخامس : إنّ المراد هو آدمُ وحواء فقط ، وخاطَب الاثنين على الجمع كما هو عادة العرب ، وعليه قاعدة علم الميزان ، وذلك لأن الاثنين أوّل الجمع . قال تعالى : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [ الأنبياء : 78 ] . أراد حكم داوود وسليمان ( عليهما السلام ) . وقد تأوّل قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] . على معنى فإن كان له أخوان . والسادس : آدمُ وحوّاء والوسوسة - عن الحسَن - وهذا ضعيف . سرّ هبوط آدم واعلم أنَّ إخراج آدم وحوّاء من الجنّة وإهباطهما إلى الأرض لم يكن على وجه العقوبة ، لأن الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم ما يوجبُ الذمّ والعقاب لهم عليه . ومن أجاز العقاب للأنبياء ( عليهم السلام ) فقد أساء عليهم الأدب ، وأعظَمَ الفِرية على الله ، وذلك لأنّ مقامَهم بحسب الباطن عالَم القدس العقلي ، ومحلّ العصمة عن الشرور ، والطهارة عن الخبائث الطبيعيّة ، والأرجاس البدنيّة . وإنّما أخرج الله آدم من الجنّة لأنّ المصلحة قد اقتضت تناوله من الشجرة ، والحكمةُ الإلهيّة قد قدَّرت إهباطَه إلى الأرض ، وابتلاءه بالتكليف والمشقّة تكميلاً للسعادات ، واخراجاً للذريّات من ظَهْره ، وبثّاً للخيرات ، وانفتاحاً لأبواب البركات ، فإنّ الرحمةَ الإلهيّة لمّا لم يجز وقوفها عند حدّ ، يبقى وراءها الإمكان الغير المتناهي . لأن قوّته غير متناهية ، وَجُوده غير محصور عند حلّ ليكون الفائض من رحمة وُجُوده قدرٌ متناه . ثمّ أشرفُ الحوادث البدنيّة هي الأرواح الإنسيّة ، المتعلّقة بالقوالب البشريّة ، ولا يمكن خروجُ جميع النفوس الناطقة من القوّة إلى الفعل دفعةً واحدة على سُنّة الابداع ، لا مع الأبدان . فلا بدّ من تكثير هذا النوع الإنساني الذي تعلّقت العنايةُ الأوّلية بتدبير أفرادها ، وتكثير أفرادها من التوالد والتناسل قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة ، ففي كلّ مدة يفيض من عالَم القدس الإلهي نفوساً إنسانيّة ، يرجع ما كمُل منها بالعلم والتقوى إلى الوطن الأصلي ، والمكان العالي ، وما لم يكمل يمكث في بعض البرازخ السِّفليّة أزماناً طويلة ، أو قصيرة ، وأحقاباً كثيرة ، وقليلة بحسب كثرة العوائق والأوزار وقلّتها ، وإذا كان الاعتقاد فاسداً ، والجهل راسخاً ، كان العقاب أبديّاً والخلاص مستحيلاً . فصل في بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام وما ذكر فيها على طريقة المتكلّم لا شبهة في أنّ النبي لا بدّ في إثبات نبوّته ورسالته من معجزة ، تقتضي صدق دعواه للنبوّة ، وما يتعلّق بها من التبليغ وشرعيّة الأحكام ، فما يتَوهّم صدوره عن الأنبياء من القبائح إمّا أن يكون منافياً لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ أولا . والثاني : إمّا أن يكون كفْراً ، أو معصية غيره . والثاني : إمّا أن يكون كبيرة كالقتل والزنا ، أو صغيرة . والثانية : إمّا أن تكون منفّرة كسرقة لقمة ، أو التطفيف بحبّة . أو غير منفّرة ككذبة ، أو همّة بمعصية . كلّ ذلك إمّا عمداً أو سهواً . بعد البعثة ، أو قبلها . والجمهور من الإسلاميّين اتّفقوا على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة وما يتعلّق بالتبليغ - وإلاّ لارتفع الوثوق بالأداء - واتّفقوا على أنّ ذلك كما لا يجوز عمداً ، لا يجوز سهواً . وقد جوّزه القاضي سهواً زعماً منه أنّه لا يدخل في التصديق بالمعجزة . واتّفقوا أيضاً على وجوب عصمتهم عن الكفر ، وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج ، بناءً على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر . وجوّز بعض فرق الشيعة إظهاره تقيّةً واحترازاً عن إلقاء النفس في المهلكة . ورُدّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة ابتداء الدعوة ، لضعف الداعي وشوكة المخالف . وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة ، فعند الأشاعرة سمعاً ، وعند غيرهم عقلاً وجوّزه الحشويّة إمّا لعدم دليل الامتناع لهم ، وإمّا لِما سيجيء من شُبَه الوقوع . وكذا عن الصغائر المنفِّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع . وكذا ذهب كثيرٌ من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضاً . وذهب الإماميّة إلى نفي الصغائر قبل البعثة وبعدها ، مطلقاً ، لا عمداً ، ولا سهواً ، وذهب الأشاعرة إلى نفي الكبائر بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر - عمداً لا سهواً - لكن لا يصرّون ولا يقرّون ، بل ينهون وينتهون . وذهب إمام الحرَمين منهم ، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمداً . لنا : لو صدر عنهم الذنبُ لزم أمورٌ كلّها فاسدةٌ بالدلائل العقليّة والسمعيّة : أحدُها : حُرمة اتّباعهم . لكن النبيّ واجب الاتّباع بالاجماع وبقوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] . الثاني : ردّ شهادتهم . لقوله تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [ الحجرات : 6 ] . الآية لكن التالي منتفٍ للقطع بأنّ من يُردّ شهادتهُ في القليل من متاع الدنيا ، لا يستحقّ القبول في أمر الدين القائم إلى يوم الدين . الثالث : وجوب منعهم وزجرهم ، لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر . لكنّه منتفٍ لاستلزامه إيذاءَهم ، وهو محرّم بالاجماع ، وبقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] . الآية . الرابع : استحقاقهم العذاب ، والطعن ، واللعن ، واللَّوم ، والذم ، لدخولهم تحت قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] . وقوله : { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] . وقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] . وقوله : { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] . لكن كلّ ذلك منتفٍ عنهم بالاجماع . لكون وقوعها من أعظم المنفّرات . الخامس : عدم نيلهم عهد النبوّة لقوله تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . فإنّ المراد به النبوّة ، أو الإمامة . السادس : كونهم غير مخلصين ، لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان ، والمخلص ليس كذلك ، لقوله تعالى حكاية عن إبليس : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39 - 40 ] . لكنّ اللازم منتفٍ بالاجماع ، وبقوله تعالى في إبراهيم وإسحق ويعقوب : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ ص : 46 ] . وفي يوسف : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] . السابع : كونهم حزب الشيطان ومتّبعيه ، واللاَّزم قطعيّ البطلان . وذلك لأنّه تعالى قسَّم الخَلق صنفين فقال في أحدهما : { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] . وقال في الآخر : { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ المجادلة : 22 ] ولا خفاء في أنّ حزب الشيطان مَن يفعل ما يرتضيه وهو المعصية . الثامن : عدم كونهم مسارعين في الخيرات ، معدودين عند الله من المُصطَفين الأخيار ، إذ لا خير في الذنب لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حقّ بعضهم : { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ } [ الأنبياء : 90 ] { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 47 ] . ولفظ " الخيرات " للعموم ، فيتناول الكلّ ، والثاني أيضاً يتناول جميع الأفعال والتروك ، بدليل جواز الاستثناء فيقال : " فلانٌ من المصطفين الأخيار ، إلاّ في فعْلِه الفلاني " والاستثناء يُخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحتَه . فثبتَ أنَّهم أخيارٌ في كلّ الأمور ، وذلك ينافي الذنب عنهم . وقال تعالى : { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } [ الحج : 75 ] . وقال : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 33 ] . وقال في إبراهيم ( عليه السلام ) : { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } [ البقرة : 130 ] . وفي موسى : { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] . وقال تعالى : { وَٱذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 45 - 47 ] . فكلّ هذه الآيات دالّة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيريّة ، وذلك ينافي صدورَ الذنب عنهم . التاسع : إن النبيّ أفضل من الملَك - كما مر - والملائكةُ ، معصومون عن المعصية ، لقوله تعالى : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] . وإذا كان الملَك معصوماً وجب أن يكون المساوي له في الفضيلة معصوماً - فضلاً عن الأفضيل - وذلك لقوله : { أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] . والعاشر : قوله تعالى في حقّ إبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] . والإمام مَن يؤتَمّ به ، ولو صدَر عنهم الذنبُ لوجَب الائتمام بهم في ذلك الذنب ، وذلك تناقضٌ . وللمخالف في كل ما ذكرناه محلُّ بحثٍ وهو أنَّ وجوب الاتّباع والإئتمام إنّما هو متعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بذلة ولا طبْع . وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع . ولزوم الزجر والمنع ، واستحقاق العذاب ، واللوم إنّما هو على تقدير التعمُّد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبي ، وبمجرد كبيرة سهواً ، أو صغيرة - ولو عمداً - لا يعدّ المؤمن من الظالمين على الاطلاق ، ولا مِن الذين أغواهُم الشيطان ، ولا مِن حزب الشيطان ، سيّما مع الانابة ، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كل فعْل ، وترك مسارعة البعض إليها لا ينافي صدورَ ذنب عن آخر سيّما سهواً ومع التوبة . وبالجملة فدلالة الوجوه على نفي الكبيرة سهواً ، والصغيرة الغير المنفّرة عمّداً - على ما هو المتنازَع فيه - محلّ نظر . واحتجّ المخالِف بما نُقل من أقاصيص الأنبياء ، وما شهِد به ظاهرُ كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم ، ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك . والجواب عنه - أمّا إجمالاً - فهو أنَّ ما نُقل آحاداً فمردود ، وما نُقل متواتراً ، أو منصوصاً في الكتاب ، فمحمولٌ إمّا على ترْك الأولى - كما عندنا - أو على السهو والنسيان - كما عند من جوّزهما عليهم - أو كونه قبل البعثة - كما عند من جوّز المعصية عليهم قبل البعثة - أو غير ذلك من المحامل والتأويلات . وأمّا تفصيلاً فهو مذكورٌ في التفاسير ، وفي الكتب المصنّفة ، وسيأتي ذكرها في تفسير تلك الآيات على الاستقصاء ، ونشير إلى معاقدها هاهنا . أمّا ما ورَد في قصة آدم فأمران : أحدهما : ما ورَد في التنزيل من أنَّه عَصى وخالَفَ النهيَ عن أكل الشجرة ، واعترف على نفسه وعوتِب قولاً وفِعلاً أمّا قولاً : فبقوله تعالى : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ } [ الأعراف : 22 ] . وأمّا فِعلاً فبِنزْع اللِّباس والإخراج من الجنّة ثمّ تابَ الله عليه واجتباه وبالجملة ففي قصّته سبع دلالات على عدم عصمته : الأوّل : كونه عاصياً ، لقوله : { وَعَصَىٰ } . والثاني : ألغَيّ لقوله تعالى : { فَغَوَىٰ } . وهو ضدّ الرشد . والثالث : التوبة . لقوله تعالى : { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] . وهي لا تكون إلاّ من الذنب . الرابع : ارتكابه المنهيّ في قوله : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ } [ الأعراف : 22 ] . الخامس : سمّاه ظالماً في قوله : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [ البقرة : 35 ] . وهو سمّى نفسَه ظالماً في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] . والظالمُ ملعون لقوله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] . ومَن استحق اللعن لولا التوبة كان صاحب كبيرة . السادس : كونه خاسراً لولا مغفرة الله ، لقوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] . وذلك يقتضي كونه ذا كبيرة . السابع : إنّه أُخرج من الجنّة جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان . ولكلّ من هذه الوجوه جوابٌ تفصيليٌّ سيأتي . والجواب إجمالا من وجوه : أحدها : وهو المختار - إنّ النهي ، للتنزيه ، وإنّما سُمّي ظالماً وخاسِراً ، لأنّه ظلَم نفسه ، وخسر حظه بترك ما هو الأولى له . وأمّا إسناد الغيّ والعصيان إليه فسيأتي . وإنّما أمرَ بالتوبة تلافياً لما فات عنه ، وجرى عليه ما جرى معاتبةً له على ترك الأولى ، لأنّ مثله عن مثلهم عظيمٌ " حسَناتُ الأبرارِ سَيِّئاتُ المُقرَّبين " ووفاءً بما قاله للملائكة قبل خَلقه . وثانيها : إنّه فعلَه عن نسيان ، لقوله تعالى : { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ] . ولكنه عوتِب بترك التحفّظ عن أسباب النسيان ، وترك اليقظة ، والتنبّه لإصابة المراد ، ولعلّ النسيان - وإن حطّ عن الأمّة - لم يحط عن الأنبياء لعِظَم قدْرهم ، كما قال : " أشدّ الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الأولياء ، ثمّ الأمثَل فالأمثل " . وثالثها : إنّه أدّى فعلُه إلى ما جَرى عليه على طريقة السببيّة المقدّرة دون المؤاخذة ، كتناول السمّ على الجاهل بشأنه ، وفيه مصلحة باقية . لا يقال : إنّه باطلٌ ، لقوله تعالى : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا } [ الأعراف : 20 ] . { وَقَاسَمَهُمَآ } [ الأعراف : 21 ] . الآيتين لأنّه ليس فيهما ما يدلّ على أنّ تناولَه حينما قاله إبليس ، فلعل مقاله أورث فيه ميلاً طبيعياً ، ثمّ إنّه كفّ نفسه عنه مراعاة لحكم الله ، إلى أن نَسي ذلك وزالَ المانع ، فحمَله الطبع عليه بتقدير الله . ورابعها : قيل إنّه أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه ، فإنّه ظنّ أنَّ النهي للتنزيه ، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة ، وتناولَ من غيرها من نوعها ، وكان المراد بها الإشارة إلى النوع كما رُوي أنّه ( صلى الله عليه وآله ) أخذ حريراً وذهباً بيده وقال : " هذان محرّمان على ذكور أُمّتي ، حِلٌّ لإناثها " وإنّما جرى عليه ما جرى تفظيعاً لشأن الخطيئة ليجتنبها أولاده . وثانيهما : قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] . إلى قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } [ الأعراف : 190 ] . قالوا : هذه الكنايات كلّها عائدةٌ إليهما ، فيقتضي صدورَ الشرك عنهما . والجواب : أنّه لم يقل أحدٌ في حقّ الأنبياء ( عليهم السلام ) الشرك في الألوهيّة مطلقاً ، فالوجْه أن يقال : لا نُسلّم أنّ النفس الواحدة هي آدم ، وليس في الآية ما يدلّ عليه . بل قيل : الخطاب لقريش ، وهم " آل قُصيّ " . والنفس الواحدة " قُصيّ " . ومعنى { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] جعلها من جنسها زوجة عربيّة قرشيّة . واشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبد مناف ، وعبد العزّى ، وعبد الدار ، وعبد قصيّ . أو يقال : إنه على حذف المضاف ، أي جعل أولادَهما شركاء له . بدليل قوله : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الأعراف : 190 ] . أو المراد ، ما وقَع له من الميل إلى طاعة الشيطان ووسوسته ميلاً نفسانياً . وأمّا الشبهة في حقّ نوح ( عليه السلام ) هو قوله تعالى : { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] . تكذيباً له في قوله : { إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } [ هود : 45 ] . والجواب : إنّه ليس للتكذيب ، بل للتنبيه على أنّ المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح . أو المعنى : إنّه ليس من أهل دينك بحسب القرابة المعنوية ، وإن أضفته إلى نفسك بحسب البنوّة الصوريّة . وقيل : إنّه كان ابن امرأته ، فالمعنى : إنّه أجنبيّ منك ، وكنت سمّيته بابنك لاختلاطه بأبنائك ، والأجنبيّ إنّما يعدّ من آل النبي إذا كان له عملٌ صالح وهو عملٌ غير صالح . وأمّا الشبهة في حق إبراهيم - صلوات الله عليه - فهو إنَّه كذب في قوله { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] . { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] . و { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] . والجواب : إنّ الأول : على سبيل الفرض والتقدير ، كما يوضع الحكم الذي يراد ابطاله ، أو على الاستفهام ، أو على أنّه كان في مقام النظر والاستدلال . والثاني : على سبيل التعريض والاستهزاء . والثالث : على أنّ به مرض الهمّ والحزن من عنادهم أو الحمّى - على ما قيل - . وأمّا الشبهة في حقّ يوسف فمن جهة يعقوب الإفراط ، والمحبة ، والحزن الشديد ، والبكاء . والجواب : إنّه لا معصية في ميل النفس ، سيّما إلى مَن يَلوح منه آثارُ الخير والصلاح ، وأنواع الكمال . ولا في بثّ الشكوى والحزن إلى الله في مصائب يكون من جهة العباد ، سيّما قد قال : إنّه كان من خَوف أن يموتَ يوسفُ على غير دين الإسلام . ومن جهة الاخوة ما فَعلوا بيوسف وما قالوا : من الكذب . والجواب : إنّهم لم يكونوا أنبياء . ومن جهة يوسف الهمّ المشار إليه بقوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } [ يوسف : 24 ] . وجعْل السقاية في رَحل أخيه ، والرضا بسجود إخوته وأبويه . والجواب : إنّ المراد : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] والبرهان هو ما عنده من الصوارف العقليّة الزاجرة للنفس عن فِعل القبيح . أو المراد من " الهمّ " الميل الشهوي الحيواني الموجود في الطبائع البشرية ، ولولا الزاجر الشرعي لَما انتهى عن كلّ ما يمكنه من القبائح ، ولولا المعرفة الكاملة للقوّة العقليّة المنوّرة بحقيقة التقوى لوقَع منه فعلُ ما لا ينبغي أحياناً . وليس المراد الهمّ بالمعصية والقصد إليها . وقيل : هو من باب المشارفة ، أي : شارَف أن يهمّ . وبالجملة فلا دلالة هاهنا على العزم والقصد إلى المعصية - فضلاً عمّا يذكره الحشويّة من الحشويّات - ولهذا ورَد في هذا المقام من الثناءِ على يوسف ( عليه السلام ) ما ورد ، من غير أن يبقى عليه زلّة ، أو يُذكر له استغفار وتوبة . وأما جعْل السقاية في رحْل أخيه : فقد كان بإذنه ورضاه - بل بإذن الله - ونسبة السرقة إلى إخوته توريةٌ عمّا كانوا فعَلوا بيوسفَ ، وممّا يجري مجرى السرقة . أو هو قول المؤذّن . والسجدة كانت عندهم تحيّة وتكرمة ، كالقيام والمصافحة . أو كانت مجردَ انحناء وتواضع لا وضع الجبهة على الأرض . وأمّا الشبهة في قصة موسى ( عليه السلام ) بقتل القبطيّ وتوبته عنه ، واعترافه بكونه من عمل الشيطان فمحمولٌ عندنا على أنه لترك ما هو الأولى . وقيل إنه كان خطأ وقبل البعثة . وإذنه للسَّحرة في إظهار السّحر بقوله : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [ يونس : 80 ] . ليس رضاً به ، بل الغرض إظهار بطلانه أو إظهار معجزته ، ولا يتمّ إلاّ به . وقيل : لم يكن حراماً . وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتحيُّر لشدّة غضبه . والأخذ برأس هارون وجرّه إليه لم يكن على سبيل الايذاء ، بل يدنيه إلى نفسه ليتفحّص منه حقيقةَ الحال ، فخاف هارون أن يحمله بنو إسرائيل على سبيل الايذاء ، ويُفضي إلى شماتة الأعداء ، فلم يثبت بذلك ذنبٌ له ولا لهارون ، فإنّه كان ينهاهم عن عبادة العجل . وقوله للخِضر : { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [ الكهف : 74 ] . أي : عجباً . وما فعله الخضْر كان بإذن الله تعالى ، فلم يثبت لهما ذنبٌ أصلاً . وأمّا الشبهة في قصة داود ( عليه السلام ) فلم يثبت سوى أنه خطَب امرأة كان قد خطَبها أوريا ، فزوّجها أولياؤها داود - دون أوريا - أو سأل أن ينزل عنها فيطلّقها ، وكان ذلك عادةً في عهده ، فكان زلّة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين . والخصمان كانا ملَكين أرسلَهما الله إليه لينبّهاه ، فلما تنبَّه استغفر ربَّه وخرَّ راكعاً . وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله ، ونزاهته عما ينسب إليه الحشويّة ، إلاّ أنّه بالَغ في التضرّع ، والتحزّن ، والبكاء ، والاستغفار استعظاماً للزلّة بالنظر إلى ما لَه من رفيع المنزلة . وتقرير الملَكين تمثيلٌ وتصويرٌ للقضيّة ، لا إخبار بمضمون الكلام ليلزمَ الكذب ويحتاجَ إلى ما قيل : " إن المتخاصمين كانا لُصَّين دخَلا عليه للسرقة ، فلما رآهما اخترَعا الدعوى . أو كانا راعيي غنمٍ ظلَم أحدُهما الآخر ، والكلام على حقيقته " . وأمّا الشبهة في قصّة سليمان على نبيّنا وعليه السلام فأمور : أحدها : ما يشير إليه بقوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] . إلى آخره وذلك أنَّه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر - أو وِرْدٌ كان له وقت العشي - فاغتمّ لذلك واستردّ الأفراس فعقَرها . والجواب : إنّ ذلك كان لأجل الاستغراق في الالتفات إلى أسباب الدنيا ، أو كان على سبيل النسيان - كما قيل - وعقْر الجياد ، وضرْب أعناقها ، كان لإظهار الندم ، وقصد التقرّب إلى الله ، والتصدّق على الفقراء من أحبّ ما له . على أنّ من المفسِّرين مَن قال : المراد حبّه للجهاد وإعلاء كلمة الله ، وضمير { تَوَارَتْ } للجياد لا للشمس . وإنّما طفِق مسحاً بالسوق والأعناق تشريفاً لها وامتحاناً ، وإظهاراً لاصلاح آلة الجهاد . وثانيها : ما أشير إليه بقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ ص : 34 ] . الآية فإن كان ذلك ما روي " أنّه وُلد له ابنٌ ، وكانَ يغذوه في السحابةِ خوفاً من أن تقتله الشياطين أو تخبِّله ، فما راعه أن ألقي على كرسيّه ميتاً فتنبّه لخطئه في ترك التوكّل ، فاستغفر وتاب " فهذا ممّا لا بأس به ، وغايته ترك الأولى ، إذ ليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكّل ، على ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إعقلها وتوكّل " . وكذا ما روي أنَّه قال : " لأطوفنّ الليلةَ على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله " ولم يقل : " إن شاء الله " فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة ، ويدٌ واحدة ، ورِجلٌ واحدة ، فألقته القابلةُ على كرسيّه . وأما ما روي من حيث الخاتم ، والشيطانِ ، وعبادةِ الوثن في بيته ، وجلوس الشيطان على كرسيّه فعلى تقدير صحّته يجوز أن يكون اتّخاذ التماثيل غير محرّم في شريعته ، وعبادة التمثال في بيته غير معلوم الوقوع . وثالثها : ما يشعر به قوله تعالى : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ ص : 35 ] من الحسد ، وعدم إرادة الخير للغير . والجواب : إنّ ذلك لم يكن حسداً ، بل طلباً للمعجزة على وفْق ما غلب في زمانه ولاقَ بحاله ، فإنّهم كانوا يفتخرون بالملك والجاه ، وهو كان ماشياً في بيت المُلك والنبوّة ووارثاً لهما ، أو إظهاراً لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا المُلك العظيم . وقيل : أراد مُلكاً لا يورَث منه ، وهو مُلك الدين - لا الدنيا - أو مُلكاً لا أُسلَبه ولا يقوم فيه غيري مقامي ، كما وقع ذلك مرّة . وقيل : مُلكاً خفيّاً لا ينبغي للناس وهي القناعة . وقيل : كان مُلكاً عظيماً ، فخاف أن لا يقوم غيرُه بشكره ، ولا يحافظ فيه على حدود الله . وأمّا الشبهة في قصة يونس ( عليه السلام ) بما يشعر به قوله تعالى : { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] . رزقه فلا يوجب شكّاً في قدرته لأنّ المراد : ذهب مُغاضباً لقومه ، فظنَّ أي : استيقن أن لَّن نَقدِرَ عَلَيْهِ أن لن نضيق رزقَه . ومنه قوله تعالى : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] . أي ضيق وقتَّر . ومعنى الظلم في قوله : { إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ترك الأفضل . وهو مثل هذه العبارة التي فرغ لها في بطن الحوت . هذا هو المرويّ عن الرضا عليّ ابن موسى ( عليه السلام ) في الجواب عن سؤال المأمون في هذا الموضع . وأما في حقّ نبيِّنا ( صلى الله عليه وآله ) فمثل : { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] . و { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } [ التوبة : 117 ] . و { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] . فمحمول على ترك الأفضل . قال الرضا ( عليه السلام ) في جواب المأمون عن قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] . " إنّه لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمأة وستّين صنماً ، فلمّا جاءهم ( صلى الله عليه وآله ) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبُر ذلك عليهم وعُظم ، وقالوا : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } [ ص : 5 - 7 ] . فلمّا فتح الله على نبيّه ( صلى الله عليه وآله ) مكّة قال : يا محمد { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 1 - 2 ] عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وتأخّر " . فقال المأمون لمّا سمع هذا الجواب بعد الأجوبة عن سائر السؤالات المورَدة على عصمَة الأنبياء ( عليهم السلام ) : " لقد شفَيتَ صدري يا ابن رسول الله وأوضحتَ لي ما كان ملتبساً ، فجزاك الله عن أنبيائه وعن دين الإسلام خيراً . وأمّا قوله : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] فمعناه فقدان الشرائع والأحكام . وقيل : إنّه ضلَّ في صِباه في بعض شِعاب مكّة ، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب . وقيل : ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب - وبالجملة - لا دلالة على العصيان والميل عن طريق الحق . ولذا قال تعالى : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } [ النجم : 2 ] . وأمّا قوله : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [ الشرح : 2 ] . فهو تمثيل لما كان يثقل عليه مِن حمْل أعباء النبوّة في أوائل البعثة ، أو من تهالُكه على إسلام أهل العناد وتلهّفه . وأمّا قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . تلطفٌ في الخطاب ، وعتابٌ على ترك الأفضل ، وإرشاد إلى تدبير الحرب والاحتياط . وأمّا قوله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [ الأنفال : 67 ] إلى قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 68 ] . عتابٌ على ترك الأفضل ، وهو أن لا يرضى باختيار أصحابه الفِداء . وكذا الكلام في قوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] . وقوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [ عبس : 1 2 ] . وأما ما روي أنَّه قرأ بعد قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [ النجم : 19 - 20 ] . " تلك الغرانيق العُلى . وإنّ شفاعتَها لتُرتجى " فلمّا أخبرَه جبرائيل بما وقع منه حزن وخاف خوفاً شديداً فنزل قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] . تسليةً له . فالجواب : إنّه كان من إلقاءِ الشيطان في خياله لا تعمّداً منه . وقيل : بل الغرانيق هي الملائكة . وكان هذا قرآناً فنسخ . وقيل : معنى " تمنّي النبيّ " . حديث النفس . وكان يوسوِس إليه الشيطان غير الهُدى ، فينسخ الله وساوسَه من نفسه ويهديه إلى الصواب . وأمّا قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . عتابٌ على أنّه أخفى في نفسه عزيمةَ تزويج زينب عند تطليق زيد إيّاها ، خوفاً من طعْن المنافقين ، ولا خفاء في أنَّ إخفاء أمر دنيوي خوفاً من طعن أعداء الدين ليس من الصغائر - فضلاً عن الكبائر - بل غايته له ترك للأولى . وكذا مَيَلان القلب لو ثَبت . وأمّا مثل قوله : { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ } [ الأحزاب : 1 ] . { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] . { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ } [ يونس : 94 ] . فجوابه : إنّ الأمر لا يقتضي سابقةَ تركه ، ولا النهي سابقة فعله ، ولا الشرط وقوع مضمونه . فظهرَ أنّ جواز الصغيرة على الأنبياء ( عليهم السلام ) عمداً - فضلاً عن الكبيرة - ممّا لم يثبت بقاطع . وقد دلّت الدلائل على وجوب عصمتهم . وأمّا وقوعها عنهم سهواً أو نسياناً فهو موضع اجتهاد . فإن قيل : ما بال زلاّت الأنبياء ( عليهم السلام ) قد حكيت حيث يُقرء بأعلى الصوت على وجه الزمان مع أنّ الله غفّار ستّار أمَر بالستر على من ارتكب ذنباً ؟ قلنا : ليدل على صدق الأنبياء ( عليهم السلام ) ، وكون ما يتلقّون بأمْر من الله ، من غير إخفاء لشيء ، وليكون امتحاناً للأمَم كيف بأنبيائهم بعد الاطّلاع على زلاّتهم . وليعلموا أن الأنبياء ( عليهم السلام ) مع جلالة أقدارهم ، وكثرة طاعاتهم كيف التجأوا إلى التضرّع والاستغفار في أدنى زلّة ، وأقلّ تقصير . فصل قوله تعالى : { ٱهْبِطُواْ } اختلفوا في أنّ هذا الأمْر هل هو أمر تعبُّد أو إباحة ؟ والأشبه عند قوم أنّه أمْر تكليف ، لأنّ فيه مشقّة شديدة ، لأنّ مفارقة ما كانا فيه من الجنّة إلى موضع لا يحصل المعيشة فيه إلاّ بالمشقّة والكدّ من أشقّ التكاليف . وإذا ثبت هذا فبطل ما يظنّ أن ذلك كان عقوبة ، لأنّ التشديد في التكليف لا يكون إلاّ لأجل الثواب ، فكيف يكون عقاباً مع ما يترتّب عليه من النفع العظيم ، والثواب الجزيل . وعند قوم من أهل المعرفة أنّ أمره " إِهْبِطُوا " أمْر تكوين لهما ولذريّتهما ، وذلك لأنّ الهبوط إلى الدنيا ، أو الأرض من الجنّة ، أو السماء ليس واقعاً تحت الاختيار ، وكلّ ما ليس للعبد فيه اختيار فلا معنى للتكليف به . وأيضاً قوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } حكم يعمّ الناس كلّهم ، معناه ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض . والقول بأنّ " الذريّة ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف تناولَهم الخطاب ؟ " ساقطٌ عند العارف بخطاب الله ، وبأنّ الأزمنة كلّها في حكم زمان واحد عند الله ، وبأنّ السامع لأمر التكوين وقول " كُنْ " يسمع الخطاب بسمْع ذاتي عقلي ، قبل هذا السمع الظاهري . إشارةٌ مشرقيّةٌ قد مرّ أنّ للإنسان نشآت ثلاث بحسب البداية النزولية ، وكذلك بحسب النهاية الصعودية للكمَّل . وله هبوطان وصعودان . وهذه النشأة الدنيوية آخر منازل الهبوط ، وأوّل منازل الصعود وهي دار التضادّ والتفاسد ، وعالَم التغالُب والتعادي ، لِضيق عرصَتها الوجوديّة ، وانحصار لذّاتها الكونيّة ، وقصور خيراتها من أن يسع للجميع ، فلذلك ينبعث فيها حبّ التغالُب المؤدّي إلى العداوة . فقوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } إشارة إلى ما هو من خواصّ هذه النشأة التي هي مهبط آدم وأولاده . ولهذا احتاج كلّ مَن في هذا العالَم إلى قوّة غضبيّة يذبّ بها عن نفسه الآفة والشرّ ، وإلى قوّة شهويّة يجلب بها إلى نفسه النفع والخير ، والحكمة في وجود هاتين القوّتين في الحيوان عموماً وفي الإنسان خصوصاً هو ما سبق ذِكره . وفيه أيضاً إشارة إلى وجوب وجود خليفة من الله في الأرض في حفظ هذا النوع الإنساني ، وعدم جواز أن يُترك الناسُ وآراؤُهم ، إذ لا بدّ لهم من الشركة في الماء والطين - كما لا يخفى - ولا يتمّ المشاركة إلاّ بالمعاملة ، ولا المعاملة - وهي مُثار الخصومات ومنبت العداوات - إلاّ بسنّةٍ وعدل . فإن لم يكن سُنّة سانّ ، وعدل معدّل منصوبٍ من قِبل الله ، مخصوصٍ بمعجزات وكرامات يدلّ على صدقه حتّى يسمع دعوته ، وينقاد حكمه ، ويتّبع قوله ورأيه ، لأدّت العداوات والخصومات إلى الفساد وسفْك الدماء ، والهرج والمرج . وقيل : يعني بقوله : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ } آدم وذريّته ، وإبليس وذريّته ، ولم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إيّاه ، ولكن حسده الملعون وخالَفه ، فنشأت بينهما العداوة ، ثمّ إنّ عداوة آدم له إيمان وحِكمة ، للخلاص من شرّه . وعداوة إبليس كفر وحيلة . وقال الحسن : بين بني آدم وبني إبليس . وليس ذلك بأمر بل هو تحذيرٌ ، لأنّ الله لا يأمر بالعداوة . فالأمر مختصّ بالهبوط ، والعداوة تجري مجرى الحال . لأنّ الظاهر يقتضي أنّه أمَرهما بالهبوط في حالة عداوة بعضهم بعضاً . فصل قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ } المُسْتَقَرُّ : إمّا بمعنى المصدر ، كقوله : { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 12 ] . أو بمعنى المكان الذي يُستقرّ فيه ، كقوله : { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . وقوله : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [ الأنعام : 98 ] . فالأكثر على أنّ المراد هاهنا هو المعنى الثاني ، أي أنَّها مستقرّكم حالتي الحياة الدنيا والموت . وعن ابن عباس ، أنّ المستقَرّ هو القَبر ، أي يكون قبوركم فيها . وقيل : الأوّل أولى ، لأنّه تعالى قرَن المتاع به وهو لا يليق إلاّ بحال الحياة . أقول : يحتمل أن يكون المستقرّ للأموات ، والمتاع للأحياء ، وفيه الإشارة إلى حال السائرين إلى الله ، والواقفين في هذا المهبط . وقوله : { إِلَىٰ حِينٍ } أي : إلى يوم القيامة - إن أُريد الخطاب للجميع - أو إلى ساعة الموت - إن أُريد لكلّ واحد - فإنّ نسبة يوم القيامة - أي الكُبرى - إلى الكلّ كنسبة حالة الموت - وهي القيامة الصُّغرى - إلى واحد واحد .