Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 37-37)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ تَلَقَّىٰ } : أي قبِل وأخذ وتناوَل آدمُ على سبيل الطاعة من ربِّه وربِّ كلّ شيء : كلمات . والمراد فجعلها وسيلة . أو سأله بحقّهن . وإنّما اكتفى لدلالة ما بعده عليه . ولأنّ معنى التلقّي يفيد ذلك وينبِئ عمّا حذف من الكلام اختصاراً . ولذلك قال : { فَتَابَ عَلَيْهِ } بالفاء الدالة على الترتيب ، لأنّه لم يتُب وَلا يتوب عليه إلاّ يسأله بتلك الكلمات ، وكان الله قد علَّمه طريق الإنابة ، وعرّفه وجوب التوبة ، وهداه إلى التوسّل بتلك الكلمات . وقرأ ابن كثير { آدمَ } بالنصب و { كَلِمَاتُ } بالرفع ، ومعناه غير ذلك ، وهو أن الكلمات تداركته بالنجاة والرحمة . ويحتمل أن يقال : إن التلقّي لما كان من المعاني الإضافيّة - وكان مَن تلقّى رَجُلاً فَتلاقَيا كلّ واحد صاحِبَه ، وأُضيف الاجتماع إليهما معاً - صلح أن يشتركا في الوصف بذلك فيقال : كُلَّما تلقّيتَه فقَد تلقاكَ ، فجاز أن يقال : " تَلَقّى آدمُ كلماتٍ " أي : أخذها واستقبلها . وجاز بالنصب . أي : جاءتْ من الله وتلقّته كلماتٌ . على مثل قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . في قراءة ابن مسعود . وتلك الكلمات هي كلمات الله التي لا تبيد ولا تنفد أبداً ، وهي الجواهر العالية الموجودة بأمْر الله ، بل هي نفْس أوامر الله ، وصوَر ما في علْم الله . وبمعرفتها ، والاتّصال بها ، والاعتصام بعُراها التي لا انفصام لها نجَت النفس الآدميّة عن عذاب يوم الآخرة . وفي الأدعية النبويّة : " أعوذُ بكلمات اللهِ التامّاتِ مِن شرِّ ما ذرءَ في الأرضِ وما يَخرجُ منها ، وما يَنزل مِن السماءِ " . واختلف في تلك الكلمات ما هي : فقيل : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] - الآية - وهو المرويّ عن الحسن ، وقتادة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأنَّ في ذلك اعترافاً بالخطيئة ، فلذلك وقعتْ موضع النَّدم ، وحقيقته الإنابة . وقيل : هي قوله : " لاَ إِلهَ إلاَّ أنتَ ، سبحانَك وبحمدِك ربِّ انِّي ظلمتُ نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين . اللهم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدِك ربِّ انّي ظلمتُ نفْسي فارحمني إنّك خير الراحمين . اللهم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك ، ربِّ انّي ظلمتُ نفْسي فتُبْ عليَّ إنّك أنت التوّاب الرحيم " عن مجاهد ، وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) . وقيل : بل هي " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ اللهُ ، والله أكبر " . وعن ابن مسعود : إنّ أحبَّ الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف السيئة : " سبحانك اللهم وبحمدك وتباركَ اسمك وتعالى جدّك ؛ لا إله إلاّ أنت ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت " . وروي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) : " إنّ آدم رأى مكتوباً على العرشِ أسماء مكرّمة معظّمة ، فسأل عنها . فقيل له : هذه أسماء لأجلّ الخَلْق منزلةً عند الله تعالى والأسماء : " محمّد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسَن ، والحسين ( عليهم السلام ) " فتوسّل آدم إلى ربّه بهم في قبول توبته " . وعن ابن عباس : قال آدم : يا ربِّ ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى . قال : ألَم تنفخ فيّ الروح من روحك ؟ قال : بلى قال : ألم تسكنّي جنتَك ؟ قال : بلى . قال : يا ربّ إن تبتُ وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم . أقول : وفي كلّ من هذه الأقوال إشارة إلى ما أوّلناه أوّلاً ، فإنّ روحَ التسبيح والتحميد إنّما يحصل للإنسان إذا توجّه بقلبه إلى عالَم التقديس ، والتحميد بالبراءة عن أدناس عالَم الطبيعة وذمائمها . وروح التوبة والإنابة إنّما يحصل عند رجوعه إلى الحضرة الإلهيّة بالتجرّد عمَّا سواها ، وليس في تحريك اللِّسان والشفتين بتلك الأدعية والأوراد كثير فائدة ، ما لم يكن معها حركة باطنيّة ، ورجوع معنويّ إلى الجنّة العالية التي كانت موطن أبينا المقدّس . فالمعنى فيها : إن آدم ترَك الخَلق وأمَّ الحقّ ملتجئاً إليه باطناً وظاهراً ، باكياً ، طالباً منه التوبة والرجوع ، فتاب عليه ورجع . وفيما روي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) إشارة إلى مقامات هؤلاء الأخيار ، ودرجات هذه الذوات المكرمة ، والنفوس المطهرة في عالم عرش الله قبل بداية هذا الكون الدنيوي ، وبَعد رجوعهم عن هذه الدار ، واتّصالهم بتلك الكلمات التي لا تبيد ولا تنفد . وفيما رُوي عن ابن عبّاس إشارة إلى أنَّ المراتب اللاَّحقة هي أعيان المراتب السابقة ، وأنّ كل أحد يمكن وصوله إلى المقام الذي كان فيه بحسب الفطرة الأصليّة ، إن ساعدَه التوفيق . فقوله : " ألَم تَخلقني بيدِك " إشارة إلى مقامه السابق الربوبي الأسمائي . وقوله " ألَم تنفَخ فيَّ الروحَ من روحِك " إشارة إلى مقامه السابق الروحي في عالَم العقل المحض . وقوله : " ألَم تسكنّي جنّتك " إشارة إلى مقامه السابق النفسي في عالَم الحياة النفسانيّ الجنانيّ ، وهو عالَم الجنّة والمغفرة . وقال النخعي : أتيتُ ابن عباس ، وقلتُ : ما الكلمات التي تلقّى آدمُ وحوّاء ، من ربّه ؟ قال : علّم الله آدم وحوّاء أمْر الحجّ . فحجَّا ، وهي الكلمات التي يقال في الحجّ ، فلما فرغا من الحجّ أوحى إليهما بأنّي قبلت توبتكما . ورُوي لما أراد الله أن يتوب على آدم طافَ بالبيت سبعاً ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلّى ركعتين قال : " اللهم إنّك تعلَم سرّي وعلانيتي ، فاقبَل معذرتي . وتعلم حاجاتي ، فأعطِني سؤلي . وتعلمُ ما في نفسي ، فاغفر لي ذنوبي . اللهم إنّي أسئلك إيماناً يُباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلمَ أنَّه لن يصيبني إلاّ ما كتبتَ لي والرضا بما قسمتَ لي " فأوحى الله إلى آدم : " يا آدم قد غفرتُ لك ذنبكَ ، ولم يأتني أحدٌ من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلاّ غفرتُ ذنبه ، وكشفتُ همومَه وغمومَه ، ونزعتُ الفقر من بين عينيه . وجاءته الدنيا وهو لا يريدها " . فصل قوله : { فَتَابَ عَلَيْهِ } أي : رجع عليه بالرحمة ، وقبول التوبة فإن العبد كلّما توجَّه بوجهه إلى الله توجَّه تعالى بوجهه إليه . " مَن كان لله كان اللهُ له " . وفي الحديث الإلهي : " مَن تَقرّبَ إليّ شِبْراً تقرّبتُ إلَيه ذراعاً ، ومن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه باعاً " . وإنّما رتبه بالفاء على تلقّي الكلمات لتضمّنه معنى التوبة ، وهو الرجوع إلى الله بالقلب النقي ، والعِلم بقبح المعصية . وقد علمت أنّ توبةَ الرّب متوقّفة على توبة العبد ، والاعتراف بالذنب والندم عليه ، والعزم على أن لا يعود إليه . وإنّما اكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعاً له في الحكم ، ولذلك طُوي ذكْر النساء في أكثر القرآن والسنن . { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي : الرجّاع على عباده بالمغفرة ، أو الذي يكثر اعانتهم على التوبة . وأصل التوبة - كما مرّ - الرجوع . قال القفّال : " التوبة كالأوبة معنى . يقال : تَوَبَ ، كما يقال : أَوبَ . قال تعالى { قَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [ غافر : 3 ] . فقولهم : " تَابَ يَتُوبُ تَوباً وتَوبَةً ومَتَاباً ، فهو تائِبٌ وتَوّابٌ " كقولهم : " آبَ يَئُوبُ أَوْباً وأوبَةً ، فهو آئِبٌ وأوّابٌ " . والتوبة لفظٌ مشترك فيها الربّ والعبد ، فإذا وُصف بها العبدُ ، فالمعنى : رجع إلى ربّه . لأنّ كل عاصٍ هو في معنى الهاربِ من ربّه ، فإذا تابَ فقد رجع من هَربه ، فيقال : تابَ إلى ربّه ، والربّ تابَ على عبدهِ . وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفَه عنده ، ثمّ يراجع خدمته ، فيقال : فلانٌ عادَ إلى الأمير ، والأميرُ عادَ عليه بإحسانِه ومعروفِه " انتهى كلامه . فبالحقيقة رجوعُ العبد إلى الحقّ عبارةٌ عن الخروج من قيد النفس بترك المعاصي والتعلّقات ، وتصفية القلب عن درن الشهوات ، ليستعدّ للقاء الله والجنّة . ورجوع الحقّ إلى العبد عبارةٌ عن كشف الحقيقة له بإفاضة الخيرات عليه ، وانزال البركات إليه . وبالجملة كما انّ بُعد العبد عن الحقّ عنه - مع أنَّه مع كلّ شيء ، وهو أقرب إليه من كلّ قريب فكذلك قُرب العبد من الحق برفع الحجب الظلمانيّة ، يستلزم قُرب الحق منه بتجلّي ذاته له بنور وجهه ، لا بمعنى أن يحصل له تغيّر انتقال ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً . وهذا كما يقوله الفلاسفة في صيرورة الجوهر المفارق العقلي خزانةً لمعلومات النفْس بعد أن لم يكن ، من غير لزوم تغيّر في ذات تلك الخزانة ، بل من حيث كونها خزينة . وذلك لأجل تغيّر حدَث في النفْس . حيث استعدّت للاتّصال بها والاستفاضة منها . و { الرَّحِيم } هو المبالِغ في الرحمة ، حيث يقبل التوبة من العبد وإن كانت المعصية شديدة والذنب عظيماً . وفي الجمع بين هذين الوصفين ، وعْدٌ للتائب بالإحسان مع العفو ، وإتيانهما بصيغة المبالغة دالٌّ على أنّ العبد لو تاب ثمّ عصى وتاب مراراً يتوب الله عليه ويرحمه مراراً كما وردت به الآيات والأخبار والآثار ، وقام عليه الدليل العقلي . الآيات والأخبار في قبول التوبة أمّا الآيات : فمثل : { تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] . ومعنى النَّصوح الخالص لله ، الخالي عن الشوائب . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] . وليس فيها تخصيص بوقتٍ دون وقت . وأمّا الأخبار فكثيرة : منها قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " التائبُ حبيبُ الله " و : " التائبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذنبَ له " . ومنها ما روى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي مسنداً عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : " يا محمّد بن مسلم ذنوبُ المؤمن إذا تابَ منها مغفورةٌ ، فليعمل المؤمنُ لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة . أما والله إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان " . قلت : " فإن عادَ بعد التوبة والاستغفار في الذنوب ، وعاد في التوبة " ؟ فقال : " يا محمّد بن مسلم أتَرى العبد المؤمن يندمُ على ذنبِه ويستغفر الله منه ويتوبَ ، ثمّ لا يقبل الله توبته " ؟ قلت : " فإنّه فعَل ذلك مِراراً يذنبُ ، ثمّ يتوبُ ويستغفر " ؟ فقال : " كلّما عادَ المؤمن بالاستغفار والتوبة ، عادَ الله عليه بالمغفرة ، وإنّ الله غفورٌ رحيم ، يقبل التوبة ويعفو عن السيّئات ، فإيّاك أن تُقنّطَ المؤمنين من رحمة الله " . وروى أيضاً في كتاب الكافي حديثاً متَّفقاً عليه عن أبي عبيدة ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) - يقول : " الله تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رَجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها ، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها " . وهذا الحديثُ ممّا هو منقول من غير هذا الطريق عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بزيادة ألفاظٍ أُخر ، وهو أنّه قال ( صلى الله عليه وآله ) : " الله تعالى أفرَحُ بتوبةِ عبدِه المؤمن من رَجُل نزَلَ في أرضٍ مُهلِكَة معَه راحِلته ، علَيها طعامُه وشرابُه ، فوضَع رأسَه فنامَ نومةً ، فاستيقظَ وقد ذهبَت راحلتهُ ، فطلبَها حتّى إذا اشتدّ عليه الحرّ والعَطش - أو ما شاء الله - قال : " أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأقيم حتّى أموت " فوضَع يده على ساعِده ليموت ، فاستيقَظ فإذاً راحلته عنده عليها طعامُه وشرابُه ، فالله أشدّ فرحاً بتوبة العبد من هذا براحلته " . وفي بعض الألفاظ : فقال من شدَّة فرحه إذا أراد شكر الله " أنا ربُّك ، وأنتَ عبْدي " ، ورُوي أيضاً فيه مسنداً عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : إنّ الله تعالى أوحى إلى داوود أن : ائتِ عبدي دانيال ، فقل له : " إنّك عصيتَني فغفرتُ لك ، وعصيتَني فغفرتُ لك ، وعصيتَني فغفرت لك . فإن أنتَ عصيتَني الرابعة لم أغفِر لك " فأتاه داوود فقال : " يا دانيال إنّي رسول الله إليك ، وهو يقول : يا دانيال إنّك عصيتَني فغفرتُ لك ، وعصيتني فغفَرتُ لك ، وعصيتني فغفَرتُ لك . فإن أنتَ عصيتَني الرابعة لم أغفر لك " فقال له دانيال : " قد بلَّغتَ يا نبيَّ الله " فلمّا كان في السحَر قام دانيال فناجى ربَّه فقال : " يا ربِّ إنّ داوود نبيّك أخبرني عنك أنّي قد عصيتك فغفرتَ ، وعصيتُك فغفرتَ ، وعصيتُك فغفرتَ لي . وأخبرَني عنك إن عصيتُك الرابعة لم تغفِر لي . وعزّتك وجلالك لئِن لم تعصمني لأعصينَّك ، ثمّ لأعصينّك ، ثم لأعصينّك " . وروي أنَّ رجلا سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن الرجل ، يذنب ثمّ يستغفر ، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر ، ثمّ يذنب ثمّ يستغفر ؟ فقال ( عليه السلام ) : " ثمّ يستغفر أبداً حتى يكونَ الشيطان هو الخاسر . فيقول : لا طاقة لي معه " . وقال عليّ ( عليه السلام ) : " كلّما قدرتَ أن تطرحَه في ورطة وتتخلَّص فافعَل " . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّه لَيُغان على قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في اليوم مئة مرة " وفي رواية : " لَيُران " بدل " لَيغان " . و " سبعين مرّة " بدل " مأة مرّة " . واعلم أنّ " الغَيْن " شي يغشى القلب فيغطّيه بعض التغطية ، وهو كالغَيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يحجب عين الشمس ، ولكن يمنع ضوءها . قال القاضي البيضاوي في شرح المصابيح : " الغَيْن " لغةٌ في الغيم . وغَان كذا أي : غَطا عليه . وقال أبو عبيدة في معنى الحديث : أي يتغشّى ما يلبسه . وقد بلغنا عن الأصمعي أنّه سُئل عن هذا الحديث ، فقال للسائل : عن قلب مَن تَروي هذا ؟ فقال : عن قلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) . فقال لو كان غير قلب النبي ( صلى الله عليه وآله ) لكنت أفسّره لك . والعلماء ذكَروا في تأويل هذا الحديث وجوهاً : الأول : إنّ الله أَطْلع نبيَّه ( صلى الله عليه وآله ) على ما يكون في أمّته بعده من الخلاف وما يصيبهم ، فكان إذا ذكر ذلك وجد غَيناً في قلبه ، فاستغفَر لأمّته . الثاني : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان ينتقل من حالَةٍ إلى حالَة أرفع من الأولى ، فكان الاستغفار لذلك . الثالث : وهو تأويل أرباب الحقيقة - إنّ الغَين عبارةٌ عن السُّكر الذي كان يلحقه في طريق المحبّة الإلهيّة ، حتّى يصيرَ فانياً عن نفسه بالكلّية . فإذا عادَ إلى الصحْو بعد المحْو كان الاستغفار من ذلك الصَّحْو . الرابع : وهو تأويل أهل الظاهر " إنّ القلب لا ينفكُّ عن الخَطرات والخواطر والشهوات ، وأنواع الميل والارادات ، فكان يستعين بالربّ في دفع تلك الخواطر " . قال القاضي في ذلك الشرح : " ولله درّ الأصمعي في انتهاجه منهَج الأدب ، وإجلاله القلبَ الذي جعلَه الله موقع وحْيه ، ومنزل تنزيله ، فإنّه مشرَب سُدّ عن أهل اللسان موارده ، وفتح لأهل السلوك مسالكه . وأحقّ مَن يُعرب أو يعبّر عنه مشايخ الصوفية ، الذي بارَك الحقّ أسرارَهم ، ووضعَ الذكرُ عنهم أوزارَهم ، ونحن بالنور المقتبس من مشكاتهم نذهبُ ونقول : لمّا كان قلبُ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أتمّ القلوب صفاءً ، وأكثرها ضياءً ، وأعرَفها عرفاناً ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) معتنياً مع ذلك لتشريع الملّة ، وتأسيس السنّة ، مُيسّراً غير معسر ، ولم يكن له بدّ من النزول إلى الرخص ، والالتفات إلى حظوظ النفس ، مع ما كان ممتحناً به من أحكام البشريّة ، فكان إذا تعاطى شيئاً من ذلك أسرعت كدورة مّا إلى القلب ، لكمال رقّته وفرط نورانيّته ، فإن الشيء كلّما كان أرقّ وأصفى كان ورود الكدورات عليه أبيَن وأهدى ، وكان ( صلى الله عليه وآله ) إذا أحسّ بشيء من ذلك عدّه على النفس ذنْباً فاستغفر منه " انتهى كلامه . ولا يخفى أنَّ التأويل الثاني والثالث أولى بأن ينسب غلى أهل الحقيقة ممّا ذكرَه وجعلَه منسوباً إليهم ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) من فَرط الجامعيّة ، وكمال المرتبة كان بحيث يسَع قلبُه الحقّ والخَلْقَ جميعاً ، ويفي قوّتُه بضبطه الجانبين ، ولم يكن بحيث إذا تعاطى شيئاً من أمور السياسة أسرَعَ إلي قلبِه كدورةٌ ، لأنّ ذلك شأن ضعفاء العقول أمثالنا . فصل وأمّا الدليل العقلي على أنّ الإنسان متى تاب عن ذنبه فقد قبِل الله منه وغفَر له فهو مما يتوقّف إثباتُه على تحقيق معنى التوبة ، ومعنى وجوبها على الفور ، ولنذكر نقاوةَ ما ذكره المحقّقون من علماءِ الإسلام ، وحُكماء هذه الشريعة التي أتانا بها سيّد الأنام - عليه وآله السلام والتحيّة والإكرام - في معناها ، وهو : إنّ التوبة لا تحصل إلاّ بأمور ثلاثة : أوّلها ، معرفة ضرر الذنوب ، وكونها حجاباً بين العبد ومحبوبه ، وسموماً قاتلة لمن يباشرها . فإذا عرف ذلك وتيقَّنه حصل له من ذلك حالةٌ ثانية ، هي التألم لفواتِ المحبوب ، والتأسّف مِن فعْل الذنوب . وهذا التألّم والتأسّف هو المعبَّر عنه بالندم . وإذا غلب هذا التألّم حصَل حالةٌ ثالثة هي القصد إلى أمور ثلاثة : أوّلها : تعلّق بالحال ، والاستقبال ، والمضيّ . فالمتعلّق بالحال هو تركُ ما هو مقيمٌ عليه من الذنوب . والمتعلّق بالاستقبال هو العزْم على عدَم العود إليها إلى آخر العمر . والمتعلّق بالماضي تلافي ما يمكن تلافيه من قضاء الفوات ، والخروج من المظالِم ، فهذه الثلاثة أعني المعرفة ، والندم ، والقصد إلى المذكورات أمورٌ مترتبة في الحصول ، وقد يطلق على مجموعها إسم التوبة . وكثيراً مّا يُطلق على الثاني - أعني الندم - وحده ، وقد يُطلق على مجموع الأخيرين : الندم والعزم . قال صاحب إحياء العلوم : اعلم أَن التوبة معنى منتظَم من ثلاثة أمور مترتّبة : عِلْمٌ وحالٌ وفِعْلٌ . … أمّا العِلْم وهو مَطلَع هذه الخيرات ، وأعني به الإيمان واليقين … بأنّ الذنوب سمومٌ مهلكة … فيثمر نورَ هذا الإيمان متى أشرَق على القلب نار الندم ، فيتألَّم القلبُ به حيث يبصر بإشراق نورِ الإيمان أنَّه صار محجوباً عن محبوبه ، كمَن يشرقُ عليه نورُ الشمس وقد كان في ظلمة فسطَعَ النور بانقشاع سحابٍ ، أو انصرافِ حجابٍ ، فرأى محبوبهُ قد أشرفَ على الهلاك ، فتشتعلُ نيرانُ الحبِّ في قلبِه ، فتنبعث بتلك النيران إرادتُه للانتهاض للتدارك . فالعلمُ والندمُ والقصدُ المتعلّقة بالترك في الحالِ والاستقبال ، والتلافي للماضي ، ثلاثة معان مترتّبة في الحصول ، يُطلق اسم التوبة على مجموعها ، وكثيراً مّا يُطلَق على معنى الندم وحده ، ويُجعل العلم كالسابق والمقدّمة ، والتَّرك كالثمرة والتابع … فيكون النجم محفوفاً بطرَفيه ، مثمرة بثمرته . فهذا معنى التوبة . وأمّا إثبات وجوبها على الفور : فاعلم أن وجوب التوبة كما أنَّه ظاهر بالآيات والأخبار ، فهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرتُه ، وشرح صدره بنور الإيمان ، حتى اقتدر أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلُمات الجهل ، مستغنياً عن قائد يَقوده في كل خُطوة . فالسالك إمّا أعمى لا يستغني عن القائد في خُطوة ، وإمّا بصيرٌ يهدى إلى أوّل الطريق ، ثمّ يهتدي بنفسه ، وكذلك الناس في طريق الدين ينقسون هذا الانقسام . فمِن قاصرٍ لا يقدر على مجاوزة التقليد في خُطوة ، فيفتقر إلى أن يسمعَ في كلّ قدَمٍ نصّاً من كتاب الله ، أو سنَّة نبيِّه ، وربما يعوزه ذلك فيتحيَّر ، فسيْر هذا - وإن طال عمرُه وعظُم جدُّه - مختصرٌ ، وخُطاه قاصرةٌ . ومِن سعيدٍ شرَح اللهُ صدرَه للإسلام ، فهو على نورٍ من ربِّه ، يتنبَّه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوِصة ، وعقَبات متعِبة ، فيشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان ، وهو لشدّة نور باطنه يجتزئ بأدنى بيان ، أو كأنّه { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [ النور : 35 ] فإذا مسّته نارٌ فهو { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] فهذا لا يحتاج إلى نصٍّ منقولٍ في كلّ واقعة . فمَن هذا حالُه إذا أراد أن يعرفَ وجوبَ التوبة فينظر أوّلاً بنورِ البصيرة إلى التوبة ما هي ؟ ثمّ إلى الوجوب ما معناه ؟ ثمّ يجمع بينهما ، فلا يشكّ في ثبوته لها . وذلك بأن يعلمَ أنّ معنى الواجب ما هو واجبٌ في طريق الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك السرمد … ومعنى قول القائل " صار واجباً بالايجاب حديثٌ محضٌ " فإنّ ما لا غرَض لنا عاجلاً وآجِلاً في فعلِه وتركِه فلا معنى لاشتغالنا به ، أوجبه غيرُنا ، أو لم يوجِبه . فإذا عرف الوجوب ، وأنّه الوسيلةُ إلى سعادةِ الأبد ، وعلِم أنْ لا سعادة في دار البقاء إلاّ لقاء الله عزّ وجلّ ، وأنّ كلّ محجوبٍ عنه فشقيٌّ لا محالة ، يَحول بينه وبين ما يشتهيه ، محترقٌ بنار الفراق ونار جهنم ، وعَلِم أن لا مبعد عن لقاء الله عز وجل إلاّ اتّباع الشهوات ، والأنس بما في هذا العالَم الفاني ، والاكباب على حبّ ما لا بدّ من فراقه ، وعلِم أن لا مقرب من لقاء الله إلاّ قطع علاقة القلب عن زُخرف الدنيا ، والاقبال بالكلّية على الله طلباً للأنس بذكره ، والمحبّة بمعرفة جماله وجلاله على قدر طاقته ، وعَلِم أنَّ الذنوبَ التي هي إعراضٌ عن الله ، واتّباعٌ لمحابِّ الشياطين أعداءِ الله ، المبعدين عن حضرته بكونه محجوباً مبعداً عن الله فلا يشكّ في أنّ الانصراف عن طريق البُعد واجبٌ للوصول إلى القُرب ، وإنّما يتمّ الانصراف بالعِلْم ، والندم ، والعزم ، فإنّه ما لم يعلَم أنَّ الذنوب أسبابُ البُعد عن المحبوب لم يتألّم ، ولم يتندّم ، وما لم يتندّم ولم يتوجّع فلا يرجع ، ومعنى الرجوع : الترك والعزم . فلا شكَّ في أنَّ المعاني الثلاثة ضرورية للوصول إلى المحبوب . فهكذا يكون الإيمانُ الحاصل عن نورِ البصيرةِ . وأمّا مَن لم يترسّخ لمثل هذا المقام المرتفع ذِروته عن حدود أكثر الخَلق ، ففي التقليد والاتّباع له مجالٌ رحبٌ يتوصل به إلى النجاة من الهلاك ، فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة من بعده ، وقد سبق بعضٌ من الأخبار والأحاديث وهي كثيرةٌ لا تُحصى . قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حاكياً عن الله يقول لملائكته : " إذا هَمَّ عَبدي بالحسنةِ فاكتبوها لَه حسنةً ، فإنْ عملَها فاكتُبوها بعشرِ أمثالِها ، وإذا همَّ بالسَّيئة فعملَها فاكتُبوها سيِّئة واحدةً ، وإن ترَكها فاكتبوها له حسنةً " . ورُوي أنَّ إبليس قال : يا ربِّ إنّك خلقتَ آدمَ وجعلتَ بيني وبينه عداوةً ، فسلِّطني عليه . فقال الله تعالتى : جعلتُ صدورَهم مساكنَ لك . فقال : ربِّ زِدني . فقالَ : لا يولد ولدٌ لآدم إلاّ وُلد لك عشرةٌ . قال : ربِّ زِدني . قال : تَجري منه مَجرى الدمِ . قال : ربِّ زدني . قال : اجلبْ عليهِم بخيلِك ورِجْلك ، وشارِكْهم في الأموالِ والأولادِ . قال : فشكى آدمُ إبليسَ إلى ربِّه ، فقال : يا ربِّ إنّك خلقتَ إبليس وجعلتَ بيني وبينه عداوةً وبغضاءً وسلّطتَه عليَّ ، وأنا لا أطيقه إلاّ بك . فقال الله : لا يولَد لك ولدٌ إلاّ وكَلتُ له مَلكين يحفظانِهِ من قُرناءِ السوء . قال : ربِّ زدني . قال : الحسنةُ بعشر أمثالِها . قال : ربِّ زدني . قال : لا أحجبُ عن أحدٍ من ولدِك التوبةَ ما لم يُغرغِر . وبالجملة الأخبار كثيرة في هذا الباب ، والاجماع منعقدٌ من الأمّة على وجوبها لكن قد تدهش الغفلة عنه ، فمعنى هذا العلْم إزالةُ هذه الغفلة ، ولا خلاف في وجوبها . ومن معانيها ترك المعاصي في الحال ، والعزم على تركها في الاستقبال ، وتدارُك ما سبق من التقصير في سابق الاحوال ، وذلك لا يشكّ في وجوبه . وأمّا الندم والتحزّن عليه فواجبٌ ، وهو روحُ التوبة بعد العلم ، وبه تمام التلافي . فكيف لا يكون واجباً ، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فاتَ من العمر ، وضاعَ في سخَط الله . فإن قلت : تألّم القلب أمرٌ ضروري لا يدخل تحت الاختيار ، فكيف يوصف بالوجوب ؟ فاعلم أنَّ سببه تحقّق العلم بفوات المحبوب . وللعبد سبيلٌ إلى تحصيل سببه ، وبمثل هذا المعنى دخَل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلْمَ بخلقةِ العبدِ وحدوثِه في نفسه ، فإنّ ذلك محال ، بل العلم ، والندم ، والفِعل ، والارادة ، والقدَرة ، والقادرُ ، كلّها مِن خَلْق الله وفِعله { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96 ] . هذا هو الحقّ عند ذوي البصائر ، وما سوى هذا ضلالٌ ووبالٌ . وقد مرّ مِراراً تحقيق نسبة الأفعال إلى الله ، وأنَّ الكلّ بقضائه وقدَره ، لا بالمعنى الذي ذهب إليه الأشاعرةُ . ولا بالمعنى الذي زعمه المعتزلة ، ولا الذي اشتهر من الحكماء . بل بالمعنى الذي هو محجوبٌ إلاّ على قوم شرَح اللهُ صدورَهم ، وباشَر قلوبهم نور الحقّ . فإذا تقررتْ هذه المقدّمات فنقول : كلُّ توبة إذا استجمعتْ شرائطَها فهي مقبولة لا محالة . اعلم أنَّك إذا فهمتَ معنى القبول لم تشكّ في أنّ كلَّ توبةٍ صحيحةٍ فهي مقبولةٌ ، فالناظرون بنور البصائر ، المستمدّون من نور القرآن ، علموا أنَّ كلّ قلبٍ سليمٍ مقبولٌ عند الله ، ومتنعّم في دار الآخرة في جوار الله ، ومستعدّ لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله . علموا أنَّ القلب الإنسانيّ خُلِق في أصل الفطرة سليماً ، فكلّ مولودٍ يولَد على الفطرة وإنّما يفوته الإسلامُ بكدورةٍ ترهقُ وجهَه من غبرة الذنوب وظُلمتها ، وعلموا أنَّ نار الندم تُحرق تلك الغبرة ، وأنَّ نورَ الحسنةِ تَمحو عن وجه القلبِ ظلمةَ السيّئة ، وأنّه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات ، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار . بل كما لا طاقة لكدورة الوسَخ مع بياض الصابون . فكما أنّ الثوب الوسِخ لا يقبله الملِك لأن يكون لباسَه ، فكذلك القلبُ المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جوارِه ، وكما أنّ استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسِّخ الثوب ، وغَسله بالصابون والماء الجاري ينظّفه لا محالة ، فكذلك استعمال القلب في الشهوات يوسِّخ القلب ، وغَسله بماء الدموع ، وحرقة الندم ينظّفه ويطهّره ويزكّيه وكلّ قلبٍ زكيّ طاهرٍ فهو مقبولٌ ، كما أنَّ كل ثوب نظيف فهو مقبولٌ ، وإنّما عليك التزكية والتطهير ، فأمّا القبول فمبذول ، وقد سبَق به القضاء الأزليّ الذي لا مردّ له ، وهو المسمّى فَلاحاً في قوله تعالى { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] . وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أجلى وأقوى من المشاهدة بالبصر أنَّ القلب يتأثَّر بالمعاصي والطاعات تأثراً متضادّاً يُستعار لأحدهما لفظُ " الظُّلمة " - كما يُستعار للجهل - ويُستعار للآخر لفظُ " النور " - كما يُستعار للعلم - وأنَّ بين النور والظُّلمة تضادّا ضرورياً لا يتصور الجمع بينهما ، فكأنّه لم يعرِف من الدين إلاّ قشوره ، ولم يعلق بقلبه إلا أسماؤه ، وقلبُه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين ، بل عن حقيقة نفسه . ومَن جهِل بنفْسه فهو بغيره أجهَل . وأعني به قلبه ، إذ بقلبِه يعرفُ غيرَ قلبه . فكيف يعرف غيره ، وهو لا يعرف قلبَه ؟ فمَن يَتوهّم أنَّ التوبة تصحّ ولا تقبَل كمَن يتوهّم أنَّ الشمسَ تطلعُ والظَّلام لا يزول ، والثوبَ يُغسل بالصابون والوسَخ لا يزول إلا أن يغوص الوسَخ لطول تراكُمه في تجاويف الثوب وخلَله ، فلا يقوى الصابون على قلْعه . فمثالُ ذلك أن تتراكمَ الذنوبُ حتّى تصير طبعاً ورَيناً على القلب ، فمِثْل هذا القلب لا يرجع ولا يتوبُ ، نَعَم قد يقول باللسان : " تُبتُ " فيكون ذلك كقول القصّار : " قَد غسلتُ الثوبَ " . وذلك لا يُنظِّف الثوبَ أصلاً ما لم يغيّر صفة الثوب باستعمال ما يضادّ الوصف المتمكّن منه . فهذا حال امتناع أصل التوبة ، وهو غير بعيد ، بل هو الغالب على كافّة الخَلْق ، المُقبلين على الدنيا ، المعرِضين عن الله بالكلّية . فهذا البيانُ كافٍ عند ذوي البصائر في قبول التوبة ، ولكنّا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار - كما مرّ ذكرها - فكلّ استبصار لا يشهد له الكتابُ والسنَّة لا يوثَق به . فقال تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] . وقال : { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [ غافر : 3 ] . إلى غير ذلك من الآيات . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " لو عملتُم الخَطايا حتّى تبلغَ السماءَ ثمّ ندمتم لتابَ الله عليكم " . وقال ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً : " إنّ العبدَ ليذنبُ الذنبَ فيُدخله الجنّةَ " . قيل : وكيف ذلك يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ قال : " يكونُ نصبَ عينِه تائباً فارّاً منه حتّى يدخلَ الجنَّة " . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " لله أفرَحُ بتوبةِ العبدِ - الحديث - " والفرَح وراء القبول ، فهو دليل على القبول وزيادة . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ الله عزَّ وجلّ يبسط يدَه بالتوبةِ لمسيءِ اللّيل إلى النهارِ ، ولمسيء النهار إلى الليل ، حتّى تطلعَ الشمسُ من مغربِها " فبسْط اليدِ كنايةٌ عن طلب التوبة . والطالب وراءَ القابل ، فربّ قابل ليس بطالب . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ الحسناتِ يذهبنَ السيئاتِ ، كما يُذهب الماءُ الوسَخ " ويُروى : " إن الله تعالى لمّا لعَن إبليسَ سأله النظرةَ . فأنظَره إلى يوم القيامة . قال : " وعزَّتك لا خَرجتُ من قلب ابن آدم ما دام فيه الروحُ " . فقال تعالى : " وَعزّتي وجلالي لا مَنعتُه التوبةَ ما دام فيه الروح " . روى أبو سعيد الخدري ، قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتَل تسعةً وتسعين نفْساً . فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على راهب . فأتاه فقال هل للقاتل من توبة ؟ فقال : لا . فقتلَه ، فكملَ به مأة . ثمّ سال عن أعلَم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالِم . فقال له : إنّه قتلَ مأة نفس ، فهل له من توبة ؟ فقال : نَعم . ومَن يَحولُ بينه وبين التوبة ؟ انطلِق إلى أرض كذا وكذا ، فإنّ بها ناساً يعبدون الله ، فاعبدْ معَهم ولا ترجع إلى أرضِك ، فإنّها أرض سوء . فانطلق حتى أتى نصفَ الطريق فأتاه الموتُ . فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمة وملائكةُ العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاءَ تائباً ، مقبِلاً بقلبه إلى الله تعالى . وقالت ملائكةُ العذاب : إنّه لم يعمل خيراً قطّ . فأتاهم ملَك في صورة آدمي وتوسَّط بينهم فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيّهما كان أدنى فهو له . فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد أن يسير إليها ، فقبضته ملائكةُ الرحمة " . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنَّه قال : " إنّ عبداً إذا أصاب ذنباً قال : يا ربِّ أذنبتُ ذنباً ، فاغفر لي . فقال ربُّه : إنّ عبدي علِم أنَّ له ربّاً يغفرُ الذنبَ ويأخذُ به . فقال له ربّه : غفرتُ لعبدي فليعمل ما شاء " - أخرجاه في صحيحهما - . أبو أيّوب ، قال : كنتُ كتمتُكم شيئاً سمعتُ من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " لولا إنكم تذنبون لخَلَق الله خَلْقاً يذنبون ، ثمّ يغفر لهم " رواه مسلم . قال عبد الله : بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا أقبل رجلٌ عليه كساء ، وفي يده شيء قد التفّ عليه ، فقال : " يا رسول الله إنّي مررت بغيضة شجر ، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر ، فأخذتهن فوضعتُهن في كسائي ، فجاءت أمّهنّ فاستدارت على رأسي . فكشفتُ لها عنهن ، فوقعتْ عليهن فلففتهن معها " . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ضَعهنّ عنك " . فأبتْ أمّهن إلا لزومهن . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أتعجبون لرحم أمّ الفراخ فراخَها " ؟ قالوا : " نعَم يا رسول الله " قال : " فوَالذي بعثني بالحق لله عزّ وجل أرحم بعباده من أمّ الفراخ بفراخها . ارجع بهنّ حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمّهن معهن " فرجَع بهنّ . وعن أبي إدريس الخولاني . عن أبي ذرّ ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرائيل ، عن الله عزّ وجلّ : " يا عبادي إنّي حرّمتُ على نفْسي الظلمَ ، وجعلتهُ محرّماً بينكم ، فلا تظالموا . يا عبادي الذي تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي ، فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي كلّكم جائعٌ إلاّ من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلّكم عار إلاّ من كسوتُه فاستكسوني أكسيكم . يا عبادي لو أن أوّلكم ، وآخركم ، وانسكم ، وجنّكم ، كانوا على قلب أتقى رجُلٍ منكم لم يزد ذلك في مُلكي شيئاً . يا عبادي لو أن أوّلكم ، وآخركم ، وانسكم ، وجنّكم ، كانوا على قلب أفجَر رجل منكم لم ينقص ذلك من مُلكي شيئاً . يا عبادي لو أن أوّلكم ، وآخركم ، وانسكم ، وجنّكم ، اجتمعوا في صعيد واحد ، فسألوني ، وأعطيتُ كلّ إنسان منكم ما سأل ، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً إلاّ كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمْسة واحدة . يا عبادي إنّما هي أعمالكم أحفظها عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وَجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه " . قال : وكان أبو إدريس إذا حدّث بهذا الحديث جَثى على ركبتيه اعظاماً له . وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : " من استفتَح أوّل نهاره بالخير ، وختمه بالخير ، قال الله تعالى لملائكته : " لا تكتبوا عَلى عبدي ما بين ذلك من الذنوب " . وروي أن جبرائيل سمِع إبراهيم ( عليه السلام ) يقول : يا كريم العفْو . قال جبرائيل : وتدري ما كريم العفْو ؟ فقال : لا يا جبرائيل . قال : أن يعفو عن السيّئة ويكتبها حسَنة . وفي الكافي مسنداً عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) يقول : قال الله تعالى : " إنّ العبدَ من عبيدي المؤمنين ليذنب الذنبَ العظيم مما يستوجب به عقوبتي في الدنيا والآخرة ، فأنظر له فيما فيه صلاحه في آخرته ، فأُعجّل له العقوبة عليه في الدنيا لأجازيه بذلك الذنب ، وأقدّر عقوبة ذلك الذنب ، وأقضيه وأتركه عليه موقوفاً غير ممضي ، ولي في امضائه المشيّة ، وما يعلم عبدي به . فأتردّد لذلك مراراً على امضائه ، ثم أمسك عليه فلا أمضيه كراهة لمساءته ، وحَيْداً عن ادخال المكروه عليه ، فأتطوّل عليه بالعفو عنه ، والصفح ، محبّة لمكافأته ، لكثير نوافله التي يتقرّب بها إليّ في ليله ونهاره ، فأصرف ذلك البلاء عنه وقد قدّرته ، وقضيته ، وتركته موقوفاً ولي في امضائه المشيّة ، ثمّ أكتب له عظيم أجر نزول ذلك البلاء ، وأدخره وأُوفّره له أجره ، ولم يشعر به ، ولم يصل إليه أذاه . وأنا الله الكريم الرؤوف الرحيم " . وفي الكافي أيضاً عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " مَن تابَ قبل موته بسَنة قبِل الله توبتَه . ثمّ قال : إنّ السنَة لكثير . من تابَ قبل موته بشهرٍ قبِل الله توبتَه . ثمّ قال : إنّ الشهرَ لكثيرٌ ، من تابَ قبلَ موته بجُمعة قبِل الله توبتَه ، ثمّ قال : إنّ الجُمعة لكثيرٌ ، من تابَ قبلَ موتهِ بيومٍ ، قبِل الله توبتَه . ثمّ قال : إنّ يوماً لكثيرٌ ، من تاب قبلَ أن يُعاين قبِل الله توبتَه " . فصل اعلم أنّ المراد بقبول التوبة هو ما أشرنا إليه ، والمراد به عند الجمهور اسقاط العقاب المترتّب على الذنب ، وهو في الحقيقة من لوازم ما وقعت إليه الإشارة ، وسقوط العقاب بالتوبة الصحيحة ممّا أجمع عليه أهل الإسلام . وإنّما الخلاف في أنه هل يجبُ على الله ؟ حتّى لو عاقَب بعد التوبة كان ظُلماً . أو هو تفضّل يفعله الله سبحانه كرماً منه بعبده ؟ فالمعتزلة على الأوّل ، والأشاعرة على الثاني ، وإليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي - ره - في كتاب الاقتصاد ، والعلاّمة الحلّي في بعض كُتبه الكلاميّة ، وتوقّف المحقّق الطوسي - طاب ثراه - في التجريد . وقال شيخنا البهائي - رحمه الله - في أربعينه : " إنّ مختار الشيخين هو الظاهر ، ودليل الوجوب مدخول " . أقول : الوجوب بالمعنى الذي ذكرناه قطعيٌّ لا ريب فيه . فإن قلت : ما معنى قبول التوبة ؟ أفتقول كما قاله المعتزلة بأنّ كذا واجبٌ على الله ؟ قلنا : إنّا لا تعني به ولا نريد إلاّ ما يريده القائل بقوله : " إنّ الثوب إذا غُسل بالصابون وجب زوالُ الوسَخ . وإنّ العطشان إذا شرِب وجب زوال العطش ، وإنّه إذا منع الماء مدة وجب العطش وإذا دام العطش ، وجب الموت " وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة ، ولا ما يريده الأشاعرة إذ لا علاقة ، ولا سببيّة بين الأشياء عندهم . بل نقول خلَق الله الطاعة مكفّرة للمعصية ، والحسنة ماحية للسيّئة ، كما خلَق الماء مزيلاً للعطش ، والقدرةُ متّسعةٌ لخلاف ذلك ، ولكن ما سبقت المشيّة إلاّ بذلك ، فلا واجب على الله ، لكن كل ما سبقت به إرادته الأزليّة فواجب كونه لا محالة . فإن قلت : ما من تائب إلاّ وهو شاكّ في قبول توبته ، والشارب لا يشكّ في زوال عطشه ؟ قلنا : شكّه في القبول كشكّه في وجوب شرائط الصحّة ، فإنّ للتوبة أركاناً وشروطاً دقيقة ، وليس يتفق وجود جميع شروطها ، كالذي يشكّ في دواء شَربَه للاسهال في أنه هل يسهّل ، وذلك لشكّه في حصول شروط الاسهال في الدواء باعتبار الحال ، والوقت ، وكيفيّة خلط الدواء وطبخه ، وجودة عقاقيره وأدويته ، فهذا وأمثاله موجبٌ للخوف بعد التوبة وللشكّ في قبولها . هذا ما قاله بعض أكابر الكشف والتحقيق . وأما ما قاله أبو علي الطبرسي في تفسيره المسمّى بمجمع البيان عند قوله تعالى : { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] . " إنّ في هذه الآية دلالةً على أن اسقاطَ العقاب عند التوبة تفضُّل من الله ؛ إذ لو كان واجباً لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم ، بل كان يفعله سبحانه لا محالة " ففيه نظرٌ ، لما مرّ من أنّ العبد ربما يشكّ في ذلك القبول مع أنّه كان واجباً ، لعدم احاطته بأسبابه ، إذ الضرورة الذاتيّة لشيء لا تنافي الشك ، والإمكان العقلي ، وهو تجويز العقل لخلافه . ولأن السؤال قد يكون للأمر الواقعي ، والغرض اظهار الانكسار ، والمذلّة ، أو بسط الكلام مع المحبوب ، وعرض الافتقار لديه ، كما قالوا في قوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] . على بعض الوجوه . فصل في شروط التوبةِ سئل ذو النون المصري رحِمه الله عن التوبة ، فقال : " إنّها اسمٌ جامعٌ لمعان ستة : أولُهنّ الندم على ما مضى . والثاني : العزمُ على ترك الذنوب في المستقبل . الثالث : أداء كلّ فريضة ضيّعتها فيما بينك وبين الله . الرابع : ردّ المَظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم . الخامس : اذابة كلّ لحمٍ ودم نَبَت في الحرام . السادس : اذاقة البدن ألمَ الطاعاتِ كما ذاقَ حلاوةَ المعصية " . وهذا الذي ذكره ذو النون من الأمور الستّة هو ممّا رواه الشيخ أبو علي الطبرسي في تفسيره عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بهذه العبارة : " التوبة يجمعها ستّة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة . وللفرائض الاعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم . وأن تعزم على أن لا تعود . وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربّيتها في المعصية . وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي " . وأورد السيد الرضي في كتاب نهج البلاغة ، إنّ قائلاً قال بحضرته : " أستغفرُ الله " فقال له عليه السلام : " ثكلتْك أُمّك . أتدري ما الاستغفار ؟ إنّ الاستغفارَ درجةُ العليين ، وهو اسم واقع على ستّة معانٍ الحديث " . وفي كلام بعض أكابر الكشف : " إنّه كما لا يكفي في جلاء المرآة قطْع الأنفاس والأبخرة ، كذلك لا يكفي في جلاء القلب من ظلُمات المعاصي وكدوراتها مجرّد تركها وعدم العود إليها . بل يجب محو آثار تلك الظُّلمات بأنوار الطاعات ، فإنّه كما يرتفع إلى القلب من كلّ معصية ظُلمة وكدورة ، كذلك يرتفع إليه من كلّ طاعة نورٌ وضياء . والأولى محوُ ظُلمة كلّ معصية بنور طاعة يضادّها ، بأن ينظر التائب إلى سيّئاته مفصلة ، ويطلب لكلّ سيّئة منها حسَنة تقابلها ، فيأتي بتلك الحسَنة على قدْر ما أتى بتلك السيّئة ، فيكفّر استماعَ الملاهي مثلاً باستماع القرآن والحديث ، ومسَّ خط المصحَف جُنباً باكرامه ، وكثرة تقبيله ، وتلاوته ، والمكثَ في المسجد جُنباً بالاعتكاف فيه وأمثال ذلك . وكذا في حقوق الناس كما يعالجُ الطبيبُ الأمراضَ بأضدادها . فصل ومن المسائل في باب التوبة أنها هل تصحُّ عن بعض الذنوب ، أم لا إلا عن الجميع ؟ واعلم أنّ هذا ممّا اختلفت أقوال العلماء فيه ، فقال كثيرٌ من العلماء منهم المحقّق الطوسي في التجريد : " إنّ هذه التوبة غير صحيحة " . وقال الآخرون : " إنّها صحيحةٌ " . وقال صاحبُ الاحياء : " إنّ المقام لا بدّ فيه من تفصيل ، ولا يجوز اطلاق الصحّة مجملة في شيء من الطرفين ، بل نقول - لمن قال : " لا تصحّ " - : إن عنيتَ به أنَّ تركَه بعضَ الذنوب لا يفيدُ أصلاً ، بل وجودُه كعدمِه . فهذا خطأ بلا شبهة ، فإنّا نَعْلم أنَّ كَثرةَ الذنوب سببٌ لكَثرة العقاب ، وقِلّتها سبب لقلّته . ونقول - لمَن قال : " إنّها تصحّ " - : إن أردت أن التوبة عن بعض الذنوب توجِب قبولاً يوصل إلى النجاة والفوز ، فهذا أيضاً خطأ . بل استحقاق النجاة والفوز يكون بترك الجميع . هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلّم في خفايا أسرار عفو الله . اعلم أن القائل بأنّ " التوبة عن البعض غيرُ صحيحةٍ " حجّته أنَّ التوبةَ عبارةٌ عن الندم عن المعصية لقُبحها - لا لشيء آخر - وإلاّ لما كانت توبة ، والقبْح مشترك بين جميع المعاصي ، فمن توجَّع وندم عن السّرقة لكونها معصيةً - لا لخصوص كونها سِرقةً - استحال أن يندم عليه دون الزنا ، لأنّ العلّة شاملةٌ لهما . إذ من يتوجَّع على قتل ولده بالسيف ، يتوجَّع على قتله بالسكّين ، لأنّ توجُّعه بفوات محبوبه - سواء كان بالسيف أو السكّين - فكذلك المعاصي توجِب للعبد فواتَ محبوبه ، والندم إنما يكون على فعل ما يوجب فوات محبوبه من حيث إنّه قبيح . فلا معنى للتندّم على بعض المعاصي دون بعض ، لاشتراكها في كونها حجاباً بين العبد ومقصوده . هذا ما ذكروه وهو بظاهره موجَّهٌ ، إلاّ أنّ فيه تفصيلاً ينكشف به الغطاء . فنقول : إنّ الأشياء قد تشترك في معنى واحد يتحقّق ذلك المعنى فيها على وجه الكمال والنقص ، والقوّة والضعف ، فيكون في بعضها أعظم وأشدّ ، وفي بعضها أصغر وأضعف . ومِن هذا القبيل المعاصي والذنوب ، فإنّ الجميع مشتركةٌ في معنى واحد - هو القبح أو الظلمة أو الحجاب - لكن بعضها أكبر قبحاً وظُلمة وحجاباً ، وبعضها أصغر . فإذا تقرّر هذا فنقول : التوبة عن بعض الذنوب إمّا أن تكون عن الكبائر دون الصغائر ، أو عن الصغائر دون الكبائر ، أو عن كبيرة دون كبيرة . أمّا الأوّل : فممكن . لأنّا نعلم أنّ الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقْته ، والصغائر أقرب إلى العفو عنها ، فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندّم عليه بحسب استعظامه ، وكونه مبعّداً عن الله . وهذا مما ثبت وجودُه في الشرع ، فقد كثُر التائبون في الأعصار ، ولم يكن واحدٌ منهم معصوماً . فلا تستدعي العصمة . والطبيب قد يُحذّر المريضَ العسلَ تحذيراً شديداً ، ويُحذّره السكَّر تحذيراً أخفّ منه على وجهٍ يشعر بأنّه ربما لا يظهر ضرر السكّر أصلاً . فيتوب المريض بقوله من العسل دون السكّر . فهذا غير محال وجوده . الثاني : أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض ، وهذا أيضاً ممكن لاعتقاد أنّ بعض الكبائر أشدّ وأغلظ عند الله ، كالذي يتوب عن القتل ، والنهب ، والظلم ، ومظالم الناس ، لعلمه بأنّ حقوق الناس لا تترك ، وما بين الله وبينه يسارع العفو إليه . وكذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلّق بالعباد دون بعض لكونها متفاوتة في أنفسها ، وفي اعتقاد مرتكبها . الثالث : أن يتوب عن صغيرة أو صغائر ، وهو مصرٌّ على كبيرة يعلم أنها كبيرة - كالذي يتوب عن الغيبة ، وعن النظر إلى غير المَحْرَم ، وما يجري مجراه ، وهو مُصرّ على شُرب الخمر - فهذا أيضاً ممكنٌ . ووجْه امكانه أنه ما من مؤمن إلاّ وهو خائف على معاصيه ونادمٌ على فعْله - ندماً قويّاً ، أو ضعيفاً - ولكن يكون لذّة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم الخوف منه لأسباب توجِب ضعفَ الخوف - من الجهل والغفلة وأسباب قوّة الشهوة - فيكون الندم موجوداً ، ولكن لا يكون مليّاً بتحريك العزم ، ولا قويّاً عليه ، فإن سلم عن شهوة أقوى منه ، بأن لم يعارضه إلاّ ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب تركَ المعصية . وقد تشتدّ ضراوةُ الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه ، لعدم مقاومة خوفِه ضراوَته ، لضعف الخوف وقوّة الضراوة . ويكون له ضراوةٌ بالغيبة ، واستماع الملاهي ، والنظر إلى الغير الْمحرَم ، وخوفه من الله قد بلغَ مبلغاً يقاوم هذه الشهوة الضعيفة ويقمعها ، ولا يقاوم شهوة أقوى من هذه الشهوة ، كشهوة شُرب الخمر . بل لهذا الفاسق أن يقول : " إنْ غلَبني الشيطان بواسطة غلبة هذه الشهوة القويّة فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلّية ، بل أجاهده في بعض المعاصي ، فعساني أغلب عليه فيكون قهري له في البعض كفّارةً لبعض ذنوبي " . ولو لم يُتصوّر هذا لما صحَّ من الفاسق أن يصلّي ويصوم . وقيل له : " إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصحّ ، وإن كانت لله فاترك الفسق لله . فإنّ أمرَ الله فيه واحد ، فلا يتصوّر أن تقصد بصلاتك التقرّب إلى الله ما لم تقترن بترك الفسق " وهذا باطل ، بل له أن يقول : " إنّ لله عليَّ أمرين ، ولي على المخالفة عقوبتان ، وأنا ملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر ، فاقهرُه فيما أقدِرُ عليه ، وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفِّر عنّي ما عجزت عنه بفرط شهوتي " فكيف لا يتصور هذا . وهو حالُ كلّ مسلم . إذ لا مسلم إلا وهو جامعٌ بين طاعة الله ومعصيته . ولا سبب له إلا هذا . وإذا فهِم هذا فهِم أنَّ غلبةَ الخوف على الشهوة في بعض الذنوب ممكنٌ وجوده ، والخوف إن كان من فعل ماضٍ أورث الندم ، والندم يورث العزم . وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) : " الندمُ توبةٌ " ولم يشترط الندم عن كل ذنب . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " التائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له " ولم يقل : التائب من الذنوب كلّها . وبهذه المعاني تبيَّن سقوط قول القائل : إنّ التوبة عن أفراد الذنوب إذا كانت متماثلة في حق الشهوة ، وفي حقّ التعرض لسخط الله غير ممكنة . نعم ، يجوز أن يتوبَ على الكثير دون القليل ، لأن لكثرة المعصية تأثيراً في كثرة العقوبة . فصل إنّ في هذه الآية حثّاً على التوبة ، وتنبيهاً على أنّ العبد لا بدّ وأن يكون دائم الرجوع والانابة إلى الله تعالى ، كما أنَّه دائم المغفرة والرحمة ، وأنَّه ما من درجة في الخير والسعادة تحصَل للعبد إلاّ وينبغي له أن يتوب عنها بتحصيل درجة فوقها لذاته ، فإنّ الإنسان جوهرٌ متجدد الذت ، له في كل وقت حجاب من هويّته . وقد قيل : " وجودُك ذنبٌ لا يقاس به ذنبُ " فيجب له في كل وقت توبةٌ عن ذنبِ وجوده ، واستغفارٌ عن غشاوة هويّته . قال بعض الحكماء : " إنّ لك منه غطاء فضلاً عن لباسك من البدن فاجهد أن ترفع الحجاب وتتجرّد ، فحينئذ تلحق فلا تسأل عما تباشره " . وقال أيضاً : " انفذ إلى الأحديّة تدهش إلى الأبد . وإذا سألت عنها فهي قريب ، وذلك لأنّ مراتب القُرب إلى الله غير متناهية ، لعدم تناهي التجلّيات الأسمائيّة الصفاتيّة ، والشؤونات الإلهيّة ، ولكونه تعالى وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى ، شدّة ، وقوّة ، وهو مع ذلك العلوّ ، والرفعة والورائيّة رجّاعٌ إلى عبده ، توّاب رحيم عليه ، قريب إليه يسمع نداءه ، ويجيب دعاءه ، ويقضي حاجاته ، ويقول : { إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] وينزل كل ليلة في الثلث الأخير منه إلى سماء الدنيا ، فيقول : " هلْ من داع ؟ هل من مُستغفر ؟ " . ويروى أنَّ في بني إسرائيل شابٌّ عَبد الله عشرين سنة ، ثمّ عصاه عشرين سنة ، ثمّ نظَر في المرآة فرأى الشيب في لحيته ، فساءه ذلك . فقال : " إلهي أطعتك عشرين سنَة ، ثمّ عصيتُك عشرين سَنة ، فإن رجعتُ إليك أتقبلني ؟ " فسمع قائلاً يقول - وهو لا يرى شخصاً - : " أحببتنا فأحببناك . وتركتَنا فتركناك . وعصيتَنا فأمهلناك وإن رجعتَ إلينا قبلناك " . وقال ذو النون المصري : " إنّ لله عباداً نصَبوا أشجارَ الخطايا نصبَ روامق قلوبهم ، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً ، فجُنوا من غير جنون ، وتبلّدوا من غير عيٍّ ولا بكم ، وإنّهم لهم البُلغاء الفصحاء ، العارفون بالله ورسوله ، ثمّ شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على البلاء ، ثمّ تولَّهت قلوبهم في الملكوت ، وجالَت فكرهم بين سرايا حجب الجبروت ، واستظلّوا تحت رواق الندم ، وقرءوا صحيفة الخطايا ، فأورثوا أنفسهم الجزع ، حتى وصَلوا إلى علوّ الزهد بسلّم الورع ، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا ، واستلانوا خشونة المضجع ، حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة ، وسرحت أرواحهم في العُلا ، حتّى أناخوا في رياض النعيم ، وخاضوا في بحر الحياة ، وعَبروا جسور الهوى ، وردموا خنادقَ الجزع ، حتى نزلوا بفناء العلم ، واستقوا من غدير الحكمة ، وركبوا سفينة الفطنة ، وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة ، حتّى وصَلوا إلى رياض الراحة ومعدن العزّ والكرامة " . وقال بعض الفضلاء في وصف السالكين إلى الله ، الراجعين إلى حضرة الجبروت كلمات مسجَّعة تشير إلى مقاماتهم وأحوالهم ، وهي هذه : " لما جاءتْهم عناية الفضل تركوا الفضول ، وسافروا إلى منازل الوصول ، وركِب الساداتُ على خيل السعادات ، واستعانوا في سفرهم على سلوك الطريق بزاد التقوى ، المعجون بماء التوفيقِ ، وراضوا خيلَهم في رياض الرياضة ، وضمروها ، وألجموها بلجام منع الالتفات إلى غير مولاها ، وزجَروها وضربوها بسيوطِ الخوفِ ، وحرّكوها بإعمال أعمال السوق ، وركَضوها إلى غاية المُنى في ميدان الشوق ، وذبحوا نفوسَ الهوى بسيوف المخالفة ، وطعنوا فرسان الطبع برماح ترك العادات السالفة ، وطهّروها بماء الدموع الطهور لنجاسات الذنوب ، والعيوب ، وسائر الشرور ، حتّى صحّت لهم العبادة المفتقرة إلى الطهارة كالصلاة ، وداووا قلوبَهم من أمراض حبّ الدنيا والجاه ، وأحرَقوا أشجار خشبها بنار حزن القلب الأوّاه ، وأحيوا ميتها بذكر الله . واعجبا منّا كيف نعرف تلك المواهب والأحوال ولا نتداوى من الداء العضال الذي بيننا وبينها حالَ . لقد عجزنا وملنا إلى الهوى والف العادةِ ، لم نخرج عن الرغبات والطباع التي خرجت عنها السادةُ ، ولم نتّعظ بوَعظٍ لسوء حظّ لم تساعدنا السعادة " انتهى كلامه . أقول : بقيَ في هذا الزمان من هذه المعاني حكاياتُها ، ومن حقائق العلمِ واليقين ألفاظُها وعباراتُها ، بقي أقوالٌ بلا أعمال ، وأشخاص كالتماثيل بلا روح العلوم والأحوال . وسُئل عابد حين يبكي : " ما يُبكي العابد ؟ " فقال : " ما لي لا أبكي ، وقد توعّرت الطريق ، وقلّ السالكون فيها . وهجرت الأفعال ، وقلّ الراغبون فيها وأهل الحق . ودرَسَ هذا الأمْر ، ولا أراه إلاّ في لسان كلّ بطّال ينطق بالحكمة ويفارق الأعمال وقد افترشَ الرخصة وتمهّد التاويل ، واعتلّ بزلل العاصين " . ثمّ جعل يقول : " واغمّاه من فتنة العلماء ! واكرَباه من حيرة الأدلاء ! أين الأبرار من العلماء ؟ بل أين الأخيار من الزهّاد ؟ " .