Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 43-43)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لمّا أمرَهم أوّلاً بما يتعلّق بالعلوم الدينية كالإيمان بالمعارف الإلهيّة المنزَلة على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في القرآن ، ثمّ نهاهم ثانياً عن الكفر بها طلباً للعاجل ، وعن المغالطة وتلبيس الحقّ بالباطل ، وكتمان دلائل النبوّة ، فكلّفهم بعد ذلك بالتزام الأعمال الشرعيّة ، وذكر من جملتها ما هو كالدعائم والأصول فيها - وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنيّة ، والزكاة التي هي أعظم العبادات الماليّة - أعني صلاة المسلمين وزكاتهم ، وأنّ غيرهما كَلا صلاة ولا زكاة ، وبالجملة أمَرهم بفروع الإسلام العمليّة كما أمَرهم بأصوله العلميّة . وفيه دليلٌ على أنّ الكفّار مأمورون بالفروع وإن لم يصحّ منهم إلاّ بعد الإيمان . الصلاة واعلم أنّ لفظ الصلاة من الأسماء الشرعيّة ، ولا شيهة في أنّها عربيّة ، فلا يجوز أن يكون الشرع ارتجلها ابتداء من غير نقْل ، وإلاّ لم يصح قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ يوسف : 2 ] . فلا بدّ أن يكون له في اللُّغة معنى آخر . فاختلفوا في أصله : فقيل : الدُّعاء . قال الأعشى . @ عليك مثلُ الذي صلَّيت فاغتمضي نوماً فإنّ لجنب المرء مضطجعا @@ أي : دعوت . وقيل : اللزوم . قال الشاعر : @ لم أكُن من جناتها - عَلِم اللهُ - وإنّي بحرّها اليوم صال @@ أي : ملازم بحرّها . فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحدّ الذي أمر الله به . وقيل : أصلها من " الصَّلا " وهي : عظم العَجْز . لرفعه في الركوع والسجود . وقيل : مأخوذة من " المُصَلّي " وهو الفرس الذي يتبع غيره . وعلى القول الأول أكثر العلماء ، إذ لا صلاة إلاّ ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه . وربما تخلو صلاة عن متابعة الغير ، وإذا عمّ وجه الشبه في كلّ الصور كان أولى ممّا يختصّ ببعضها . وأيضاً اطلاق اسم الجزء على الكلّ أمرٌ شائع مشهور ، فالحمل عليه أولى . قال بعض الصوفية : اشتقاق الصلاة قيل من " الصَّلى " . وهي النار . والخشبة المعوجة إذا أرادوا تقويمها تُعرض على النار ثمّ تقوّم . وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمّارة بالسوء ، وسبَحات وجه الله الكريم التي لو كشف حجابها لأحرقت مَن أدركته ، يصيب بها المصلّي من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربّانيّة ما يزول اعوجاجه ، بل يتحقّق به معراجُه . فالمصلّي كالمصطلي بالنار . ومن اصطلى بنار الصلاة وزال بها اعوجاجُه لا يُعرض على نار جهنم . ورَوى أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني - ره - في الكافي ، والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه : أنّه قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ما مِن صلاة يحضُر وقتُها إلاّ نادى ملَك بين يدَي الناس : أيُّها الناس قُوموا إلى نيرانِكم التي أوقدتُموها على ظُهورِكم ، فاطفؤُها بصلاتكم " . وقد ورَد : " إنّ الله إذا تجلّى لشيء خضَع له " ومن يتحقّق بالصّلة في الصلاة تلمعُ له طوالعُ التجلّي فيخشع ، والفلاح للذين هم في صلاتهم خاشعون ، وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح ، وشهِد القرآن المجيد بالفلاح للمصلين . وروى ابن عباس عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " لمَّا خلَق الله تعالى جنَّة عدن ، وخلَق فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ ، قال لها : تكلّمي . قالت : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] ثلاثاً " . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ العبدَ إذا قامَ إلى الصلاة فإنّه بينَ يدَي الرحمن ، فإذا التفتَ قال له الربّ : إلى مَن تلتفت ؟ ! إلى من هو خيرٌ لكَ منّي ؟ إبن آدم أقبِل إليَّ ، فأنا خير لك مما تلتفت إليه " . وأبصَر رسولُ الله ( صلى الله عليه وآله ) رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال له : " لو خشع قلبُ هذا خشعت جوارحُه " . وقال بعضهم : " الصلاة في اللغة هي الدعاء . فكأنّ المصلّي يدعو الله بجميع جوارحِه ، فصارتْ أعضاؤه كلّها ألسِنَة ، يدعو بها ظاهراً وباطناً ، وتشارَك الظاهرُ والباطنُ بالتضرّع والتقلّب في الهيئات والتملّقات ، تملّق متضرّع سائل محتاج . فإذا دعا بكلّيته أجابه مولاه ، لأنّه وعد فقال : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] . أمَرهم بالدعاء ، ووعَدهم بالاجابة ، وليس بينهما شرطٌ . " والاستجابة والاجابة هو نفوذ دعاء العبد . وإنّ الداعي الصادق ، العالِم بمن يدعوه بنور يقينه تخرق دعوتُه الحجُب ، وتقف الدعوة بين يدي الله متقاضية للحاجة " . " وإذا كانت الصلاة للذكر فكيف يسَع فيه النسيان ، قال الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] . فمَن قال ، ولا يعلم كيف يصلّي - وقد نهاه الله عن ذلك - فالسّكران يقول الشيء لا بحضور عقلي ، وكذلك الغافلُ الذي يصلّي لا بحضور القلب فهو كالسَّكران " . " وقيل في غرائب التفسير في قوله تعالى لموسى ( عليه السلام ) { ٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } [ طه : 12 ] أي : " همُّك بامرأتك وغنمِك " . فالاهتمام بغير الله سُكرٌ في الصلاة . " وقيل : إنّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانوا يرفعون أبصارهم يميناً وشمالاً . فلمّا نزلت : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 2 ] . جعلوا وجوهَهم حيث يسجُدون . وما رُئي بعد ذلك أحدٌ منهم ينظر إلاّ إلى الأرض . وخصّ الله هذه الأمّة بانزال فاتحة الكتاب ، وفيها تقديم الثناء على الدعاء ليكون أسرع إلى الاجابة ، وهي تعليم الله عبادَه كيفيّة الدعاء . وفاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم . وقيل : سمّيت مثاني لأنّها نزَلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرّتين . مرّة بمكّة ، ومرّة بالمدينة . وكان له ( صلى الله عليه وآله ) بكلّ مرّة نزلت منها فهمٌ آخر . بل كان له بكلّ مرّة قرأها - على الترداد مع طول الزمان - فهْمٌ آخر . وهكذا أهل التحقيق من المصلّين من أمّته ، ينكشف لهم عجائب أسرارها ، ولوامع أنوارها ، ويقذف لهم كلّ مرّة دُرر بحارها . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أنَّه قال : " إذا قام أحدُكم إلى الصلاة فليسكن أطرافه ، ولا يتميّل تميُّل اليهود ، فإنّ سكونَ الأطراف من تمام الصلاة " . وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، تعوّذوا بالله من خشوع النفاق . وقيل : وما خشوع النفاق ؟ قال : خشوع البدن ونفاق القلب . واليهود يتميّلون في الصلاة . قال بعض الصوفية : سببه أنَّه كان موسى ( عليه السلام ) يعامل بني إسرائيل على ظاهر الأُمور ، لقلّة ما في باطنهم من نور المعرفة ، وكان يُهيّب الأُمور في أعينهم ويعظّمها ، ولهذا المعنى أوحى الله أن يُحلّي التوراة بالذهب . ووقَع لي - والله أعلم - أنَّ موسى ( عليه السلام ) كان يرد عليه الوارد في صلاته ومحال مناجاته ، فيتموّج به باطنُه كبحرٍ ساكنٍ يَهبُّ عليه ، فتتلاطم الأمواج ، فكان تمايل موسى ( عليه السلام ) لتلاطم أمواج بحر القلب إذا هبّت عليه نسيمات الفضل . وربما كانت الروح يتطلّع إلى الحضرة الإلهيّة ، فيهم بالاستعلاء ، وللقلب بها تشبّه وامتزاج ، فيضطرب القالب ويتمايل ، فيرى اليهود ظاهره ، فتمايلوا من غير حظّ لبواطنهم من ذلك . ولهذا المعنى قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " انكاراً على أهل الوسوسة : هكذا خرجت عظمته من قلوب بني إسرائيل ، حتى شهدت أبدانهم ، وغابت قلوبهم . لا يقبل الله صلاة امرئ لا يشهد فيها قلبُه كما يشهد به بدنُه . وإنّ الرجل على صلاته دائم لا يكتب له عُشرها إذا كان قلبُه ساهياً لاهياً " . تنبيه فضل الصلاة واعلم أنّ الله تعالى أوجب الصلوات الخَمس وقد قال ( صلى الله عليه وآله ) " الصلاة عِمادُ الدينِ " و " مَن ترك الصلاة فقد كفَر " وعنه ( صلى الله عليه وآله ) في طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) : " ما تقرّب العبدُ إلى الله تعالى بشيءٍ بعد المعرفةِ أفضَل مِن الصلاة " الصلاة تحقيق العبوديّة ، وأداء حقّ الربوبيّة وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سرّ الصلاة . قال سهل بن عبد الله التستري : يحتاج العبد إلى السُّنن الرواتب لتكميل الفرائض ، ويحتاج إلى النوافل لتكميل السُّنن ، ويحتاج إلى الآداب لتكميل النوافل ، ومن الأدب ترك الدنيا . وقد ورَد في الأخبار : إنّ العبدَ إذا قام إلى الصلاة رفع الله تعالى الحجابَ بينه وبينه ، وواجَهه الكريم ، وقامَت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء يصلّون بصلاته ويؤمِّنون على دعائه ، وإنّ المصلّي لينثر عليه البرّ من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، ويناديه منادٍ : لو علِم المصلّي مَن يناجي لَما التفت ، أو مَا انفتل " . وقريب من هذا ما رواه أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، أنّه قال : " للمصلّي ثلاث خصال : إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدَميه إلى أعنان السماء ، وتناثَر البرّ عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكل به ينادي : لو يعلم المصلّي مَن يناجي ما انفتل " . وقيل : قد جمَع الله تعالى للمصلّين في كلّ ركعة ما فرّق على أهل السماوات فلله ملائكة في الركوع مذ خلَقهم الله ، لا يرفعون رؤوسهم من الركوع إلى يوم القيامة وهكذا في السجود والقيام والقعود . والعبد المتيقّظ يتّصف في ركوعه بصفة الراكعين منهم . وفي السجود بصفة الساجدين منهم . وفي كلّ هيئة هكذا . ويصير كالواحد منهم وبينهم . وقيل : في الصلاة أربع هيآت ، وستّة أذكار . فالهيآت : القيام والقعود والركوع والسجود . والأذكار : هي التلاوة والتسبيح والحمد والاستغفار والدعاء والصلاة على النبيّ وآله . فصارت عشرة كاملة ، يتفرّق هذه العشرة إلى عشرة صفوف من الملائكة ، كلّ صفّ عشرة آلاف ، فيجتمع له في الركعتين ما يتفرّق على مأة ألف من الملائكة . وفي طريق أصحابنا الإمامية - رضوان الله عليهم - أحاديث كثيرةٌ في فضل الصلاة وأسرارها ، نقلها جميعاً يؤدّي إلى التطويل : منها : إنّه قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " مثَل الصلاة مثَلُ عمود الفُسطاط ، إذا ثَبت العمود ثبتَت الأطناب ، والأوتاد ، والغِشاء ، وإذا انكسَر العمود لم ينفع طُنبٌ ، ولا وتَد ، ولا غشاء " . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّما مثَل الصلاة فيكم كمثل السَّرِيّ - وهو النهر - على باب أحدكم ، يَخرج إليه في اليوم والليلة ، ويغتسل منه خمس مرّات " . وقال الصادق ( عليه السلام ) : " مَن قَبِل الله منه صلاة واحدةً لم يعذبه " . أقولُ : وذلك لأنّ الصلاة مشتملة على معرفة الله ، وصفاته ، وتوحيده ، واليوم الآخر ، وكلّ من أدّاها بشروطها ، عارفاً بأصولها وأركانها ، فهو من أهل القُرب والولاية ، فكيف تمسّه النار ، وهو في بحبوحة القُرب . وقال الصادق ( عليه السلام ) : أقرب ما يكون العبدُ إلى الله عزّ وجل وهو ساجدٌ قال الله تعالى { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [ العلق : 19 ] . وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما من عبدٍ من شيعتنا يقومُ إلى الصلاة إلاّ اكتنفته بعدد من خالفه ملائكةٌ يصلّون خلفه ، ويدعون الله عزّ وجل له حتّى يفرغ من صلاته . فصل في الزكاة وأمّا الزكاة فهي في اللغة بمعنى النماء قال : " زَكَى الزرع " إذا نَمى . وبمعنى التطهير ، قال تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } [ الكهف : 74 ] . أي : طاهرة وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . أي : طهّرها . وقال { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ } [ فاطر : 18 ] . أي تطهّر بطاعة الله . ولعلّ اخراج نصف دينار من عشرين ديناراً - مثلاً - سمّي في الشرع " زكاة " نظراً إلى هذين الوجهين . فعلَى الوجه الأول : يستجلب الزكاة بركة في المال ، وفضيلة في النفس ، فهي نماء في المعنى ، وإن كان نقصان في الصورة ، لأنّ في هذا الإعطاء يدفع الله البلاء عن المال ، ويزيد في قوّة النفس بترْك الحرص في الحال طلباً للثواب في المآل . ولهذا قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " عليكَ بالصدقة ، فإنّ فيها ستّ خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة . فأمّا التي في الدنيا فتزيد في الرزق ، وتكثر في المال ، وتعمر الديار . وأمّا التي في الآخرة فتستر العورة ، وتصير ظلاًّ فوق الرأس ، وتكون ستراً من النار " . وعلى الوجه الثاني فَتُطهِّر المال من الوسَخِ والخبَث ، وتُطهّر النفسَ من الرذيلة والبخل . قال تعالى لنبيِّه ( صلَّى الله عليه وآله ) : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . واعلم أن سرّ الزكاة وعلّة وجوبها تطهير النفْس من محبّة المال ، وفي كلام سقراط الحكيم : " محبّة المال وتَد الشرّ " وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " حبُّ الدنيا رأس كلّ خطيئة " قرأ بعض الفضلاء هذا الحديث هكذا : " حبّ الدينارِ أسُّ كلّ خطيئة " . وأمّا مواساة الفقراء : فهي واقعةٌ بالعرض ، ولا تضيق قدرة الله عن أن يرزقهم من وجه آخر ، غير ايجاب الزكاة على الأغنياء . وروى أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني - رحمه الله - عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : " مانعُ الزكاة يطوّق بحيّة قرعاء تأكل من دماغه " . وذلك قول الله عز وجل : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 180 ] . وروي عن جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) : قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً لأصحابه : " ملعونٌ كلّ مال لا يزكّى . ملعونٌ كلّ جسد لا يزكّى " . وبرواية أُخرى عن الصادق ( عليه السلام ) : " ملعونٌ ملعونٌ مال لا يزكّى " . وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر ( عليه السلام ) أنَّه قال : " ما من عبد منَع من زكاة مالِه شيئاً إلاّ جعل الله ذلك يومَ القيامة ثُعباناً من نار مطوقاً في عُنقه ، ينهَش من لحمِه حتّى يفرغ من الحساب ، وهو قول الله تعالى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 180 ] وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنَّه قال : " مَن آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثّل له يومَ القامة شُجاعاً أقرع . له زبيبتان يطوّقه ، ثمّ يأخذ بلهزمتيه - يعني شحمة الأذن ثمّ يقول : أنا مالُكَ . أنا كنزُكَ . - ثمّ تلا - : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 180 ] " الآية . وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ما من صاحب ذهبٍ ولا فضّةٍ لا يؤدّي منها حقّها إلاّ إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنّم ، فتكوى بها جنْبه وجَبينه وظهره كلّما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيرى سبيله ، إمّا إلى الجنّة ، أو إلى النار " . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " ولا صاحب ابل لا يؤدّي منه حقّها ، إلاّ إذا كان يوم القيامة بطَح لها بقاع قرقر - أرض مستوية - أوفر ما كانت ، لا يفقد منها فصيلاً واحداً ، تطؤه بأخفافها ، وتعضّه بأفواهها ، كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة . وإمّا إلى النار . ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقّها ، إلاّ إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قَرقَر لا يفقد منها شيئاً ، ليس فيها عَقصاء ولا جَلحاء ولا عَضباء تنطحه بقُرونها ، وتطأه بأظلافها ، كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه اخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله ، إمّا إلى الجنّة ، وإمّا إلى النار " . وروي أيضاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ما من رجُل يكون له ابلٌ أو بقَر أو غنَم لا يؤدّي حقّها ، إلاّ أُتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمَنه ، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها ، كلّما جازت أخراها ، ردّت عليه أولاها ، حتّى يُقضى بين الناس " . واعلم أنَّ هذه التمثيلات المشاهَدة يوم القيامة ، كما ورَد في هذه الأحاديث كلّها حقٌّ وصدق يجب الإيمان بها ، ولكنّي أراك - يا حبيبي - عاجزاً عن فهمها ، وسرّ حقائقها ، وروح معانيها ، لأنّك ونُظرائك عاكِفون على أصنام الأجسام الدنيوية لا تجاوزونها في باب الاعتقاد . ولو نظَرتم إلى هذه الأجسام الدنيوية المشاهَدة لهذه الحواس أيضاً لعلِمتم أنَّ أصلَها نشأت من المعاني والجهات العقليّة ، التي اقتضت وجودَها اقتضاء ذاتيّاً ، كعلوم الباري جلّ ذكره ، أو ادراكات المبادئ المقوّمة إيّاها ، فهذه الأجسام كأنّها معانٍ تجسّمت ، وتكوّنت ، وانحصرت في مضائق الأبعاد والأحياز ، وكأنّها أرواح تجسّدت ، وعقول تشكلت ، إلاّ أنَّ بعضها وجدت على سبيل الحركة والاستعداد بمشاركة انفعال من الموادّ ، وبعضها نشأت على سنّة الإبداع في الإيجاد . وأمّا الدار الآخرة - وهي دار القرار ودار جلال الله وكبريائه - فالقدرة فيها أوسع ، وأقوى ، فبأن يتكوّن به الأشكال ، والأمثال ، والأبعاد والأجرام من المعاني ، والاعتقادات ، والأفكار ، والملكات ، كان أليق وأولى . فليعلم أنَّ هذا الثُّعبان المطوّق في عنق مانع الزكاة ، والحيَّة القَرعاء التي تأكل من دماغه ، والشجاع الأقرع المتمكن من أن يأخذ بلهزمتيه - المتمثّل له يوم الآخرة - وكذا الابل ، والبقر ، والغنم ، التي ستطأه يوم القيامة بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، ليست بأمور خارجة عن ذات الميّت - أعني ذات روحه ، لا ذات جسده ، فإنَّ الروح هي التي تتألّم وتتنعّم - بل هي ممّا كانت معه قبل موته متمكّنة من صميم باطنه : لكنّه لم يكن يحسّ بلذعها ، وكيّها ، ووطئها ، ونطحها ، لخدر ، وسكر ، كانا فيه ؛ لغلبة الشهوات والشواغل المُلهية عن ذكْر الآخرة ، المنسيَة للقاء عالَم المعاني والحقائق المتمثّلة بصوَرها الأصليّة . فإنّ لكل معنى صورة أصليّة هي مثال ذاتها بالحقيقة وصورَة مجازيّة لها تعلّق مّا بتلك الصورة الأصليّة ، فيه مِثال المثال . فالأشكال الأُخرويّة هي مِثالات المعاني والحقائق ، والأجسام الدنيويّة هي أمثالٌ وضعيّة تمثّلت بتوسّط الحركات والانفعالات ، فهي كالنسخة الثانية لكتاب الحقائق ، ولهذا ممّا يقع فيها الخطأ في الحكاية عنها لمن قلّتْ ممارستُه لقراءة الكتب ، فيرى الظُّلمة نوراً ، والظلّ حَروراً ، والهاوية قصوراً ، والمحنة سُروراً ، والعذاب راحة ، والنقمة نعمة ، والقبيح حسَناً ، والحسَن قبيحاً . فجميع ملاذّ الدنيا ينقلب آلاماً في الآخرة ، وذلك مما يشاهده أهل البصيرة بعيون قلوبهم الصافية عن غشاوة الشكّ والامتراء ، فهم يشاهدون كيف تتمثّل هذه الهيئات النفسانيّة وتتجسّم يوم القيامة ، ويقرؤون كتابهم وكتاب غيرهم قبل نشْر الكتب ، ويحاسِبون أنفسهم قبل أن يحاسَبوا . فيعلمون أنَّ جميع ما ورَد في باب مانع الزكاة حقٌّ وصدق ، ويعلمون سرّ قوله تعالى : { فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [ التوبة : 35 ] وسر قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } [ النحل : 107 ] . وقوله : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [ الأحقاف : 20 ] الآية . ولو كانت هذه الأُمور المؤلمة المعذّبة عند الموت خارجة عن ذات الميّت - كما يظنّه الظاهريّون - لكانت أهون ، إذ ربما يتصوّر أن ينحرف عنه الثُّعبان ، أو ينحرف هو عنه ، أو يقع بينهما حاجزٌ ، لا بل هو متمكّن من صميم فؤاده ، يلذعه لذعاً أعظم مما يفهمه من لذع هذه الثعابين ، وهو بعينه صفته التي كانت معه في الدنيا أي محبّته للمال التي منشأ تألّمه بفقْده في المآل . فصل قوله تعالى : { وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } أي : صلّوا مع المصلّين المسلمين . فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة . وفي رواية أصحابنا : " صلاة الرجل في جماعة تفضل صلاة الفرد بأربع وعشرين صلاة . فيكون خمساً وعشرين صلاة " لما فيها من تظاهر النفوس . وعبّر عن الصلاة بالركوع تسميةً للكلّ بأشهر أجزائه . لأن الركوع أوّل ما يشاهد من الأفعال التي يستدلّ بها على أنّ الإنسان يصلّي . فعلى هذا لا تكرار لفظاً ولا معنى . لأنّ في الأوّل أمر باقامتها ، وفي الثاني أمر بفعلها مع الجماعة . وقيل : كأنّه كرّر لفظ الصلاة تأكيداً . ويحتمل أيضاً أن يكون الأوّل : إشارة إلى مطلق الصلاة ، أو الصلاة التي تعرفونها . والثاني : إشارة إلى الشرعيّة . وقيل : خصّ الله الركوعَ بالذكْر ، لأنّ صلاة اليهود لا ركوع فيها . ففيه تكليفٌ لهم بصلاة المسلمين . وقيل : المراد من الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع . قال الشاعر : @ لا تذلّ الضعيف علّك أنْ تركعَ يوماً والدهرُ قد رفعَه @@ فكأنّه تعالى لمّا أمَرهم بالصلاة والزكاة أمَرهم بعد ذلك بالانقياد ، والخضوع ، وترك التمرّد . كما قال الله في مقام المدح : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] . وقد وقع هكذا في قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] .