Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 44-44)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الهمزة للتقرير مع التقريع والتعجيب . البِرّ - في اللغة - والإحسان والصِّلَة نظائرُ . يقال : فلان بارّ ، وَصول ، مُحسِن . وضد البرّ : العُقُوق . والبِرّ ، والبُرّ ، لغتان . وقولهم : " لا يَعرف الهِرَّ من البِرِّ " قال الأخفش : " معناه لا يعرف من يهرّ عليه ممن يبرّ عليه " . وقال المازني : " الهِرّ : السنّور . والبرّ : الفأرة أو دويبة تشبهها " . والبرّ اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه " برّ الوالدين " و " عملٌ مَبرور " . وقد يكون بمعنى الصدق ، كما يقال : " برَّ في يمينه " أي : صدَق ولم يحنث . وقيل : البرّ التوسّع في الخير ، من البَرّ - وهو الفضاءُ الواسع - يتناول كلَّ خير . ولذلك قيل : " البرّ ثلاثة : بِرٌّ في عبادة الله ، وبِرٌّ في مراعاة الأقارب ، وبِرٌّ في معاملة الأجانب " . والنِّسيان ، والسَّهو ، والغَفلة ، متقاربة في المعنى ، والتفاوت بينهما بالشدّة والضعف ، كما أنّ للذكْر مراتب متفاوتة : ما بالفعل ، وما بالقوة القريبة ، أو البعيدة . { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } أي تقرؤون التوراة وتدرسونها ، وتعلمون ما فيها ، من الحثّ على أفعال البرّ ، والاعراض عن أفعال الإثم . أو أنتم من أهل التلاوة والدراسة والمذاكرة للكتب العلمية ، ولستم من العوام والجهّال { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قُبْحَ ما تفعَلون ؟ ! والعَقْل ، والفهم ، والمعرفة ، واللبّ ، نظائر . وضد العقْل الحُمق . والعقْل في الأصل : الحبْس والرَّبط . والعِقال : الرباط . يقال : " عقَلتُ البعيرَ أعقله عقْلاً " إذا شدَدت يدَه بالعِقال . فسمّي به الادراك الإنساني ، لأنّه يحبسه عن فعل ما يقبح ، ويعقِله عن فعل ما يحسن ، ثمّ تسمّى به القوّة التي بها النفس تدرك هذا الادراك . وقيل : العقلُ مجموع علوم لأجلها يمتنع الحيّ من كثير من المقبحات ، ويفعل كثيراً من الواجبات . وإنّما سميت تلك العلوم " عقلا " ، لأنّها تعقل عن فعل القبيح ، ولا يوصف القديم تعالى بأنّه عاقل ، لأنّه لا يعقله شيء عن فعل القبيح ، وإنّما لا يختاره لغناه عنه ، وعلْمه بقُبحه ، ولعلمه بوجوه الحكمة والمصلحة المقتضية لفعل الخير علماً ذاتياً . وقيل : العقل هو العلْم الذي يزجر عن قبيح الفعل ، ومن كان زاجره أقوى فهو أعقل . وقيل : العقل معرفة يفصل بها بين القبيح والحسن في الجملة . وقيل : هو التمييز الذي فارَق به الإنسان سائر الحيوان وهذه الأقوال متقاربة المعاني . ولفظ " العقل " يُطلق في عُرف الحكماء على معاني أُخرى : منها قوّة في النفس تسمّى عقلاً نظرياً ومنها قوّة أُخرى فيه تسمّى عقلاً علمياً - ولكل منهما مراتب أربعة يطلق عليها اسم العقل - ومنها جوهر مفارق في الوجود والتأثير عن الأجسام وما يتعلّق بها ، وهو أشرف أقسام الممكنات ولا واسطة بينه وبين الباري جلّ ذكره . فصل واختلفوا في أنّ المراد من { البِرّ } في هذه الآية ماذا ؟ فعن ابن عباس : إنّها نزلت في أحبار المدينة ، كانوا يأمرون الناس سرّاً باتّباع محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ولا يتّبعونه . وعن السدي : كانوا يأمرون بطاعة الله وينهونهم عن معصيته ، وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعاصي . وعن ابن جريح : إنّهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة ، وهم يتركونهما . وعن الزجّاج : كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة ، وكانوا يشحّون بها . لأنّ الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب ، وأكل الربا ، والسُّحْت . وعن أبي مسلم : إنّ جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يخبرون مشركي العرب أنَّ رسولا سيظهر منكم ، ويدعوكم إلى الحقّ ، وكانوا يرغّبونهم في اتّباعه ، فلمّا بعث الله محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) حسدوه وكفروا به . وفيه وجوه أُخرى مذكورة في التفسير الكبير وغيره ، واقتصرنا عنها بما هو أولى وأقرب . وفي قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } توبيخ عظيمٌ أي : كأنكم في عدم تفطّنكم لقبح ما أقدمتم عليه - وهو غير خافٍ على أوائل العقول وبداياتها - مسلوبوا العقول . وإلاّ فلا وجه لصدور مثله عمّن يعقل ويميّز بين الحسن والقبح . ونحوه قوله تعالى { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنبياء : 67 ] . وفيه حجّةٌ اعتزاليّةٌ وله جوابٌ أشعري . والتحقيق خارج عمّا يدركه كلٌّ من الفريقين بإحدى العينين . وقيل معناه : أفلا تعلمون أنَّ الله يعذّبكم ويعاقبكم على ذلك . قيل : أفلا تعلمون أنَّ ما في التوراة حقّ ، فلِمَ لا تصدّقون محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) ولا تتّبعونه . فصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولك أن تقول : إذا كان فعل البرّ واجباً ، والأمر به واجباً ، فلِماذا وبّخهم الله تعالى على الأمر بالبرّ ؟ والجواب : لم يوبّخهم على الأمر بالبرّ . وإنّما وبَّخهم على ترْك فعل البرّ المضموم إلى الأمر به ، لأنّ ترك البرّ ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به . كقول الشاعر : @ لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم @@ ومعلوم أنَّه لم يرد به منعَه عن النهي عن الخُلُق المذموم ، وإنّما نهاه عن اتيان مثله ، فالمراد بالآية حثّ الواعظ على تزكية النفس ، والاقبال عليها بالتكميل ، ليقوم فيُقيم ، ويكمل فيكمل . لا منعُ الفاسق عن الوعظ - كما توهم - فإنّ الاخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الاخلال بالآخر . وقال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكَر ، بل يجب أن لا يكون الآمر والناهي مرتكباً للمحرمات ، واشترَط العدالة محتجّاً بالنقل والعقل : أمّا النقل : فهذه الآية ، وقوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 - 3 ] . وما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنَّه قال : " مررتُ ليلة أُسري بي بقوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : مَن أنتم ؟ فقالوا : كنّا نأمر بالخير ولا نأتيه . وننهى عن الشر ونأتيه " . وأمّا المعقول : فهو أنَّه لو جاز ذلك لَجاز لمَن يزني بامرأة أن ينكر عليها على كشف وجهها في أثناء الزنا . ومعلومٌ أنّ ذلك مستنكَرٌ عقلاً . وأنّ هداية الغير فرع الاهتداء ، والإقامة بعد الاستقامة . ولهذا قيل : " إنّ الاصلاح زكاة نصاب الصلاح " . والجواب : إنّ المكلف كما هو مأمور بفعل المعروف ، مأمور بالأمر به للغير . وكما هو مأمور بترك المعصية ، مأمور بمنع الغير عن فِعلها مطلقاً . ثمّ المنع عن الجمع بين فعل المعصية ومنع الغير عنها ، أو أمرهم بالطاعة يتصوّر على وجهين ، لكونه ذا جزئين . وفساد المركب من الجزئين إمّا أن يكون لفساد أحد جزئيه بخصوصه ، أو لفساد انضمام أحدهما بالآخر . فهاهنا ثلاثة احتمالات ، لكن أحدها - وهو كون المنع متعلّقاً بفعل الطاعة - ظاهر البطلان بالاتّفاق . فبقي احتمالان آخران : أحدهما : أن يكون المنع متوجهاً إلى فعل المعصية ، كنسيان النفس فيما نحن فيه . والثاني : أن يكون متوجّهاً إلى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مع فعل المعصية . فيكون المنع هاهنا عن ترغيب الناس بالبرّ مع نسيان النفس ، والحقّ في معنى الآية عندنا هو الأوّل - لا الثاني - فسقَط احتجاج الخصْم بالآيتين ، وبما تضمّنه حديث الاسراء . وأمّا احتجاجه العقلي بما ذكره من المثال ، فلا نسلّم انّ مجرّد إنكاره عليها على كشْف وجهها مستقبَح عقلا . بل الاستقباح والاستنكار على مجموع الزنا والانكار عند التحليل يرجع إلى فعل الزنا لا إلى ذلك الانكار وأما حديث الفرعيّة ، فكلام شعريّ كما لا يخفى . وأيضاً : فالصغائر النادرة لا تخلّ بالعدالة ، ولفاعلها أن ينهى عن المنكَر بالاتّفاق مع اندراجه في الآيتين والحديث ، وما هو جوابكم فهو جوابنا . وأيضاً : لو تمت دلائلكم لاقتضت عدم وجوب الأمر والنهي إلاّ على المعصوم فينسدّ باب الحسبة . بقي في هذا المقام شيء ، وهو أنَّ من أمَر بالخير ولا يعمل به ، أو نَهى عن الشر وأتى به ، قد عُلم من حاله أنّه مستاهل في دينه ، ذو وهْنٍ في اعتقاده ، وإلاّ فما كان يفرغ من توبيخ نفسه إلى نصيحة غيره . فصل الوعظ دون اتعاظ الواعظ اعلم أنَّ المقصود من الوعظ ، والترغيب بالطاعة ، والتحذير عن المعصية إرشاد الغير ، وهدايته إلى طلب الخير ، ودفع الشرّ ، وتحصيل السعادة ، والحذر عن الشقاوة . ولا شبهة لأحد من العقلاء في أن الإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير ، فمن وَعظ ولم يتّعظ ، ومن أمَر بالإحسان ولم يُحسن إلى نفسه ، فكأنّه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل ، ولهذا قال : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . تعجيباً لأن يقع مثل ذلك عن العقلاء . وأيضاً من وعَظ كان غرضُه أن يصير وعظُه مؤثّراً في القلوب ، والاقدام على المعصية مما ينفِّر القلوبَ ، فكأنَّ من عصى كان مقصوده أن لا يصير وعظُه مؤثراً في القلوب . فالجمع بين الوعظ والمعصية جمع بين الضدّين ، وهو غير لائق بالعقلاء . ولهذا قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " قصَم ظهْري رجُلان : عالمٌ متهتّك ، وجاهلٌ متنسِّك " وذلك لأنّ من وَعَظ وأظهرَ علمَه للخَلْق ثمّ نَسي نفسَه ولم يتّعِظ وفعَل المعصية ، صار وعظُه وإظهاره للعلم سبباً لرغبة الناس في المعصية ، لأنّهم يقولون : " إنّ هذا رجُل عالِم ، لو أنّه اطّلع على ضرر المعصية لما أقدم عليها ، ولولا أنّه اطّلع على أنّه لا أصل لهذه التخويفات لمَا اجترأ على فعْل المعصية " . فقد صار وعظُه داعياً للناس إلى التهاون بالدين ، والجرأة على المعاصي ، سيّما والنفوس مجبولةٌ على الحرص بالمنكرات والشهوات ، إذا لم يكن رادعٌ شرعي أو عقلي ، فإذا كان غرض الواعظ الردْع والزَّجْر ثمّ أتى بما يوجِب الرخصة والترغيب ، فكأنّه فعَل شيئاً متناقضاً ، وهو من العاقل موضع العجَب . فصل الوعّاظ الغير المتّعظين أكثر ما تعتري هذه الصفة - أي اصلاح الناس والأمر لهم بالبرّ مع نسيان النفس وإصلاحها وعدم تفقّد أحوال القلب - للمقتصرين على العلوم الظاهرة من غير تحقيق فيها ، والناقلين للأخبار والروايات من غير دراية . لما فيها من جلْب خواطر الناس ، والشهرة ، وطلب الرياسة ، والإمامة . فالواعظ يجد في وعظه وتأثّر قلوب الناس به حلاوةً ولذّة لا يوازيها لذة ، فإذا غلب ذلك على نفسِه مالَ طبعُه إلى كلّ كلام مزخرَف يروّج عند العوام - وإن كان باطلاً - ويفرّ عن كلّ كلام يستثقله العوام - وإن كان حقّاً - ويصير مصروف الهمّة بالكليّة إلى ما يحرّك قلوب العوام ، ويعظّم منزلته عندهم ، فلا يسمع حديثاً وحِكمةً إلاّ ويكون فرَحُه بها من حيث إنّه يناسب أن يُنقل في محفل الناس أو يُذكر على رأس المنبر . وهذه فتنةٌ عظيمة ، فمن لا باعث له في الوعظ والحسبة إلاّ طلب الجاه ، والمنزلة ، والتفاخُر ، فهو منافقٌ مطرود عن باب الله ، لأنّه باع آجِل آخرته ، واشترى به ثمَناً قليلاً من عاجل دنياه ، ولو كان له حظٌّ من العلْم لعِلم أنَّ لذَّة الدنيا بالقياس إلى لذّة المعرفة بالله شيء حقيرٌ خسيس . فمن اشتغل بالأمر والنهي يجب عليه أن يكون فرحُه بحفظ العلوم من حيث عرف بها طريق النجاة ، وطلب السعادة ، وطريق سلوك الدين ، ليعمل بها أوّلاً ، ويهذّب نفسَه ، ويحصل له اليقين . ثمّ إذا فرغ من أمر نفسه اشتغل بغيره ، شكراً لله بأن يقول : " إذا أنعم الله عليّ بهذه النعمة فأقضيها ليشاركني في نفعها إخواني " . فمن لا باعث له إلاّ طلب الجاه والثروة ، فينبغي أن يتركه ، ويخالف الهوى فيه إلى أن يرتاض نفسه ، ويقوّي دينه ويقينه ، ويأمن عن فتنة نفسه ، فعند ذلك يشتغل باصلاح غيره من وعظ أو قضاءٍ أو تدريس . فالمعلوم من حال من صرَف أوقاتَه لنقل الأقوال وحفظ الروايات وغرضه عرْضها على الناس مع عدم اصلاح نفسه بتهذيب الأخلاق ، واقتناء العلوم الحقيقيّة ، التي ليس فيها شهرةٌ ، وتفاخر ، وكسبُ منزلة عند الناس - أنَّه غير معتنٍ بأمر الدين ، ولا ذو اهتمام بتحصيل المنزلة عند الله بطلب المعرفة واليقين ، وتجريد النفس عن شواغل الهوى ، وشهوات الدنيا . ولهذا ورَد أخبارٌ كثيرة في مذمّة أمثاله : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في كلام له خطَب به : " أيّها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلّكم تهتدون … وإنّ أنصحَكم لنفسه أطوعُكم لربّه ، وأغشَّكم لنفسه أعصاكم لربه " . وعن مصعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، وعلي بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن محبوب - رفعه - عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنَّه قال : " إنّ من أبغض الخَلْق إلى الله عزّ وجلّ لرَجُلين : رجُلٌ وكَله الله إلى نفسه ، فهو جائرٌ عن قصْد السبيل ، مشغوف بكلامه بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة . فهو فتنةٌ لمن افتتَن به ، ضالٌّ عن هدى مَن كان قبله ، مُضلٌّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته . ورجُل قمَش جهلاً في جهّال النّاس ، عانَ بأغباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالِماً ولم يغن فيه يوماً سالِماً ، بكَّر فاستكثر ، ما قلَّ منه خير مما كثُر ، حتّى ارتوى من آجن ، واكتنَز من غير طائل ، جلَس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، وإن خالفَ قاضياً سبقَه لم يأمَن أن ينقض حكمه من يأتي بعدَه ، كفعله بمن كان قبله ، وإن نزلَت به إحدى المبهمات المعضلات هيَّأَ لها حشواً من رأيه ثمَّ قطع به . فهو من لبْس الشُّبهات في مثْل غزْل العنكبوت ، لا يدري أصاب أو أخطأ . لا يحسب العلم في شيء مما أنكر ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهباً ، إن قاسَ شيئاً بشيء لم يكذب نظره ، وإن أظلم عليه أمرٌ اكتتم به لِما يعلم من جهْل نفسه ، لكيلا يقال له : " لا يعلم " ثمَّ جسَر يقضي . فهو مفتاحُ عشوات ، رَكّاب شُبهات ، خَبّاط جهالات ، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم ، يذري الروايات ذَرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث ، وتصرخ منه الدماء ، ويستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال . وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنَّهُ قال : " إنّ في النار رجُلا يتأذّى أهلُ النار بريحه " . فقيل : " مَن هو يا رسول الله " ؟ فقال : عالِمٌ لا ينتفع بعلمه " . وقال ( صلى الله عليه وآله ) : " مثَل الذي يعلّم الناس ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه " . وفي الخبر : " يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار ، فيقولون لِمَ دخلتم النارَ وإنّما دخلنا الجنَّة بفضل تعليمكم ؟ ! فقالوا : إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله " . وقيل : " من وعَظ بقوله ضاع كلامُه . ومن وعَظ بفعله نفذت سهامُه " وقيل : @ يا معشر الوعّاظ يا ملح البلَد ما يُصلح الملحَ إذ الملحُ فسَد @@ وقال الثوري : " إنّ فتنةَ الحديث أشدّ من فتنةِ الأهل المال والولد . وكيف لا يخاف فتنته وقد قيل لسيّد البشر { لَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] . وكتب رجُل إلى أخٍ له في الدين : " إنّك قد أُوتيت عِلْماً فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب ، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم " . وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء الدنيا : " يا أصحاب العِلم قصورُكم قيصريّة ، وبيوتُكم كسرويّة ، وأبوابُكم طالوتيّة ، وأخفافكم جالوتيّة ، ومَراكبُكم قارونيّة ، وأوانيّكم فرعونيّة ، ومذاهبكم شيطانيّة ، ومآثمكم جاهليّة . فأين المحمّدية ؟ وأنشد : @ وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذ الرعاة لها ذئاب @@ وقال سفيان بن عيينة : " أجهَل الناس من ترَك العملَ بها علِم ، وأعلمُ الناس من عمِل بما يعلَم ، وأفضلُ الناس أخشعُهم وأخشاهم لله " . وهذا قولٌ صحيح يحكم بأنّ العالِم إذا لم يعمَل بعلمِه فليس بعالِم ، فلا يغرّنك تشدّقه واستطالته ، وحذاقته ، وقوّته في المناظرة والمجادلة ، فإنّه جاهل القلب عليم اللسان . وشرُّه أعظم . فصل التعرّف بعلماء الآخرة إنّ العالِم في الحقيقة هو العارف الصوفي المخلِص لله دينه عن شوائب أغراض الدنيا وشهواتها ، فإن أردت تحقيق هذا أُصوّر لك مثالاً ينكشف به للمعتبِر فضلُ العالِم العارف بصفات نفسه على العالِم الظاهري المغرور بكثرة روايته : إذا دخل عالِم مجلساً وقعد وميَّز لنفسه مجلساً يجلس فيه كما في نفسه من اعتقاده بمحلّه وعلمه ، فدخل داخلٌ من أبناء جنسه وقعد فوقَه ، فانقبض العالِم وأظلَمت عليه الدنيا ، ولو أمكنه لبطش بالداخل . فهذا عارضٌ عرَض له ، ومَرضٌ اعتراه ، وهو لا يفطن أنّ هذه علة غامضة ، ومرض يحتاج إلى المداواة ، ولا يتفكّر في منشإ هذا المرض ، ولو علِم منشأه لاشتغل بمداواته ، وإنّما منشأ ذلك عدم ممارسته العلوم الحقيقيّة ، وعدم اطّلاعه على معرفة النفس وأحوالها ومراتبها . فإنّها أُمُّ الفضائل وأصل الحكمة ، ومفتاح سائر المعارف - وجهله بأنّ هذه نفسٌ ثارت وظهَرت بجهلها ، وتفَرعنَت لوجود كبْرها ، وبقايا كفْرها ، وأنانيّتها برؤية نفسها خيراً من غيرها ، وتكبّرها باظهار ذلك بفعل أو قول . وأمّا العالِم الصوفي الزاهد فلا يميز نفسَه بشيء دون المسلمين ، فلا يرى نفسَه في مقام يميّزها بمجلس مخصوص مميَّز . ولو قدر أن يبتلى بمثل هذه الواقعة ، وينقبض من تقديم غيره عليه وترفُّعه يرى حال النفس وظهورها ، ويرى أنّ هذا داءٌ يحتاج فيه إلى الدواءِ ، وأنَّه إن استرسل فيه بالاصغاء إلى النفس ، صار ذلك بالرسوخ مرَضاً مُهلكاً . فيرفع في الحال داءه إلى الله ، ويشكو إليه ظهور نفسه ، ويُحسن الانابة بقطع دابر ظهور النفس ، ويرفع القلب إلى الله مستغيثاً من النَّفس ، ويشغله في طلب دوائها . وربّما أقبل على من قَعد فوقَه بمزيد التواضع والانكسار تكفيراً لذنبه الموجود ، وتداوياً لدائه الحاصل . فينكشف ويتبيّن بهذا الفرقُ بين الرجُلين ، وهذا من أوائل علوم الصوفيّة ومبادئ أحوالهم . فما ظنُّك بنفائس علومهم وشرائف أحوالهم . وفي وصايا لقمان لابنه : " يا بنيَّ لا يستطاع العمل إلاّ باليقين ، ولا يعمل المرء إلاّ بقدر يقينه ، ولا يقصر عالم حتى يقصر يقينه فكان اليقين أفضل من العلم ، لأنّه أدعى إلى العمل ، وما كان أدعى إلى العمل كان أدعى إلى العبودية ، وما كان أدعى إلى العبودية كان أدعى إلى القيام بحقّ الربوبية وإلى كمال الحظ من اليقين . أقول : قد تبيَّن من كلامه أنَّ العلم هو الأوّل والآخر ، والفاعل والغاية . وذلك لأن العمل يترشّح من العلم ، والعلم هو ثمرة العمل . والعلماء الأُخرويّون أدلاّء الأمّة ، وأعمدة الدين ، وسُرج ظلمات الجهالات الجبليّة ، ونقباء ديوان الإسلام ، ومعادن أحكام الكتاب والسنّة ، وأمناء الله في خَلْقه وأطبّاء العباد من أمراض الجهالات . فهم { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . وأما غيرهم من علماء الدنيا ، الراغبون إلى المناصب ، والترفّعات ، والرياسات فهم عبدَة طاغوت الهوى وأولياء الشيطان . روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنَّه قال : " سيَكون علَيكم أُمراء تَعرفون ، منهم وتنكرون . فمَن أنكَر فقَد بَرئَ ، ومن كرِه فقد سلم . ولكن من رَضي وتابَع أبعدهُ الله " . وقال سفيان : " في جهنّم وادٍ لا يسكنه إلا القرّاء الزوّار للملوك " . وقال حذيفة : " إيّاكم ومواقعُ الفتن " . قيل : " وما هو ؟ " قال : أبواب الأُمراء يدخل أحدكم على الأمير ، فيصدقه بالكذب ، ويقول ما ليس فيه " . وقد كان علماء التابعين فيهم مَن هو أقوم بعلْم الفتوى والأحكام من بعضهم . وكانوا إذا سئلوا عن فتوى أحالوه إلى غيرهم من الصحابة ، وكانوا يردون إليهم في علْم الفتاوي والأحكام ، فيعلّمونهم حقائق اليقين ودقائق المعرفة ، لأنّهم كانوا أقوم بذلك من التابعين . إذ قد صادقَهم طراوةُ الوحي المنزل ، وغمرَهم غزير العلم المجمَل والمفصَّل . روي أن عبد الله بن عمر كان إذا سُئل عن شيء يقول : " سَلوا سعيدَ ابن المسيّب " وكان عبد الله بن عباس يقول : " سَلوا جابرَ بن عبد الله ، لو نزَل أهلُ البصرة على فتياه لوسعهم " . وكان أنس بن مالك يقول : " سَلوا مولانا الحسَن ، فإنّه قد حفظ ونسيناه " . وقد ورد في الخبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ الشيطان ربما يسوِّفكم بالعلم " قلنا : " يا رسول الله وكيف ذلك ؟ " قال : " يقول : أطلب العلم ولا تعمَل ، حتّى تعلَم . فلا يزال للعلم قائلاً وللعمل مسوِّفاً حتى يموت وما عمل " . فصل علماء الكشْف وعلومهم واعلم أنّ هذه الآفات ونظائرها إنّما تعتري علماء اللسان ، وأرباب المناظرات والبحوث ، وأصحاب المنقولات ، وطلاّب الفتاوى والحكومات . وأمّا علماء العلوم الكشفيّة والمعارف الإلهيّة ، فعلومُهم يؤدّي إلى الأحوال ، وأحوالهم مستتبع الآداب والأعمال : لأنّهم تأدّبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين وتخلّقوا بأخلاق الصديقين . فلذلك كان العلم المجبول في قلوبهم منكشفاً عليهم ، فحصروا نفوسَهم عن تقاضي جبلاّتها ، وقمعوها عن هواها بصريح العلم في كلّ قول وفعل . ولا يصحّ إلاّ لمن لطف سرّه ، وزكا روحُه ، وسلك به إلى الحضور بين يدي الله . قال بعض أصحاب المعارف في العوارف : " إنّ نفوس العلماء الزاهدين بعد الأخْذ مما لا بدّ لهم منه في أصل الدين وأساسه من الشرع ، أقبَلوا على الله وانقطعوا إليه ، وخلصت أرواحُهم إلى مقام القرب منه ، فأفاضت أرواحهم على قلوبهم أنواراً ، تهيّأت بها قلوبهم لإدراك العلوم . فأرواحهم ارتفعت عن حدّ إدراك العلوم الجزئيّة بعكوفها على العالَم الأزلي ، وتجردت عن وجود يصلح أن يكون وعاء للعلم ، وقلوبهم بنسبة وجهها الذي يلي النفس صارت أوعية وجودية ، فتألّفت العلوم . وتالّفتها العلومُ بمناسبة انفصال العلوم باتصالها باللوح المحفوظ ، والمعني بالانفصال انتقاشها في اللوح المحفوظ لا غير . وانفصال القلوب عن مقام الأرواح لوجود انحذابها إلى النفوس ، فصار بين المنفصلين نسبة اشتراك موجب للتألّف ، فحصلت العلوم لذلك . وصار العالم الربّاني راسخاً في العلم … " . " … قال ابن مسعود : وليس العلم بكثرة الرواية ، إنّما العلم الخشية " . وقال : " إنّ الله لا يعبأ بذي علْم ورواية ، إنّما يعبأ بذي فهْم ودراية " . وقال صاحب العوارف أيضاً : " علوم الوراثة مستخرجة من علوم الدراسة ومثال علوم الدراسة كاللبن الخالص السائغ للشاربين ، ومثال علوم الوراثة كالزبد المستخرج منه ، فلو لم يكن لَبن ، لم يكن زُبد . ولكن الزُّبد هو الدُهنيّة المطلوبة من اللبن ، والمائيّة في اللبن جسمٌ قائم به روح الدهنيّة . فالمائيّة به القوام . قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] . و " الشَيء " يعمّ الموجودات كلّها . فعلوم الإسلام علوم اللسان ، وعلوم الإيمان علوم القلب ، وله مراتب : علمُ اليقين ، وعينُ اليقين ، وحقُّ اليقين . وقال أيضاً بعد ما ذكر جملة من تفاصيل علوم النفس : " وهذا كلّه علوم من ورائها علوم ، عمل بها وظفر بمقتضاها علماء الآخرة . وحرم ذلك علماء الدنيا . الراغبون فيها . وهي علوم ذوقيّة لا يكاد النظر يصل إليها إلاّ بذوق ووجدان ، كالعلم بكيفيّة حلاوة السكّر لا يحصل بالوصف ، فمن ذاقَه عرفه . وينبئك عن شرف علم الصوفية وزهّاد العلماء ، أنَّ العلوم كلّها لا يتعذّر تحصيلها مع محبّة الدنيا ، والإخلال بحقائق التقوى ، وربما كان محبّة الدنيا عوناً على اكتسابها لأنّ الاشتغال بها شاقٌ على النفوس ، فجبّلت النفوس على محبّة الجاه والرفعة ، حتّى إذا استشعرت حصول ذلك بحصول العلم أجابت إلى تحمُّل الكُلَف ، وسهر الليل والصبر على الغربة والأسفار ، وتعذّر الملاذّ والشهوات . وعلوم هؤلاء القوم لا تحصل مع محبّة الدنيا ، ولا تنكشف إلاّ بمجانبة الهوى ، ولا تدرس إلاّ في مدرسة التقوى . قال الله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 282 ] . جعل العلم ميراث التقوى وغير علوم هؤلاء القوم ميسّر من غير ذلك بلا شك . فعُلم فضل علماء الآخرة ، حيث لم يكشف النقاب إلا لأولي الألباب . وأُولوا الألباب حقيقة هم الزاهدون في الدنيا . قال بعض الفقهاء : " إذا أوصى رجُل بماله لأعقل الناس يُصرف إلى الزهّاد ، لأنّهم أعقلُ الخلق " . قال سهل بن عبد الله التستري : " للعقل ألف اسم ولكلّ اسم منه ألف اسم ، وأوّل كلّ إسم منه ترك الدنيا " . ثم ذكر حكايةً لطيفة ، قال : " حدّثنا فلان ، عن فلان - وذكَر السندَ إلى أبي عبد الله الخوّاص ، وكان من أصحاب حاتم الأصمّ - قال : دخلت معه الري ، ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلاً ، يريدون الحجّ ، وعليهم لباس الصوف ، ليس معهم جراب ولا طعام ، فدخلنا الري على رجُل من التجّار متنسّك يحب المتقشّفين فأضافَنا تلك الليلة ، فلمّا كان من الغد قال لِحاتَم : يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة ؟ فإنّي أريد أن أعودَ فقيهاً لنا هو عليل ؟ فقال حاتم : إن كان لكم فقيهٌ عليلٌ فعيادة المريض لها فضل ، والنظر إلى الفقيه عبادة فأنا أيضاً أجيء معك - وكان العليل محمد بن مقاتل ، قاضي الري - قال : سِرْ بنا يا أبا عبد الرحمن . فجاء إلى الباب ، فإذا بابٌ مشرف حسَن . فبقي حاتم متفكِّراً يقول : " باب عالِمٍ على هذا الحال " ثمّ أذِن لهم فدخلوا . فإذا دار فوراء ، وإذا بزّة وستور وغلمان . فبقي حاتم متفكّراً . ثمّ دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه ، فإذا هو بفرش وطيئة وإذا هو راقدٌ عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبّة . فقعد الرازي فسلاه وحاتم قائمٌ ، فأومى إليه ابن مقاتل : أن اقعد . فقال : لا أقعد . فقال له ابن مقاتل : لعلّ لك حاجة ؟ قال : نعم . قال : وما هي ؟ قال : مسألة أسالك عنها . قال : سلني . قال : فقُمْ واستوِ جالساً حتى أسألكها . فأمَر غلمانه فأسنَدُوه . فقال له حاتم : علْمك هذا من أين جئتَ به ؟ قال : الثقاة حدّثوني . قال : عمَّن ؟ قال : عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قال : ورسولُ الله من أين جاء به ؟ قال : عن جبرائيل . قال حاتم : فيا أدّاه جبرائيلُ عن الله إلى رسول الله ، وأدّاه رسولُ الله إلى أصحابه ، وأدّاه أصحابُه إلى الثقات وأداه الثقاتُ إليك ، هل سمعت في العلْم من كان في داره أميرٌ أو منعته أكثر ، كانت له المنزلة عند الله أكثر ؟ قال : لا . قال : فكيف سمعت ؟ قال : من زهَد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحبّ المساكن ، وقدّم لآخرته كان له عند الله المنزلة أكثر . قال حاتم : فأنت بمن اقتديت ؟ بالنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وأصحابه ، أم بفرعون ونمرود أوّل من بَنى بالجصّ والآجر ؟ ! يا علماء السوء مثْلكم يراه الجاهلُ ، الطالبُ للدنيا ، والراغبُ فيها ، فيقول : العالِم إذا كانَ على هذا الحال لا أكون أنا شرّاً منه . وخرج من عنده . فازداد ابن مقاتل مرضاً . فبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل . فقالوا له : أبا عبد الرحمن : " بقزوين عالم أكبر شأناً من هذا " وأشاروا به إلا الطنافسي . قال : فسار إليه متعمّداً ، فدخل عليه ، فقال : رحمك الله أنا رجُل أعجمي أُحبّ أن تعلّمني أوّل مبتدأ ديني ، ومفتاح صلاتي ، كيف أتوضّأ للصلاة ؟ قال : نعم - وكرامة - يا غلام هات إناء فيه ماء فأتى به فقعَد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : هكذا فتوضأ فقعد فتوضّأ حاتم ثَلاثاً ثلاثاً ، حتّى إذا بلَغ غَسل الذراعين غَسل أربعاً . فقال له الطنافسي : " يا هذا أسرفتَ " . فقال له حاتم : " فيماذا أسرفتُ ؟ " قال : غسلتَ ذراعيك أربعاً " . قال حاتم : " يا سبحان الله أنا في كفّ ماء أسرفت . وأنتَ في هذا الجمع كلّه لم تسرف ؟ ! " فعلم الطنافسي أنّه أراده بذلك ، ولم يرد منه التعلّم ، فدخل البيت ، ولم يخرج إلى الناس أربعين يوماً وكتَب تجار الري وقزوين ما جرى بينهما . فلمّا دخَل بغداد . اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا له : يا أبا عبد الرحمن أنت رجُل ألكن أعجمي ليس يكلّمك أحدٌ إلاّ قطعته . قال : معي ثلاث خصال ، بهن أظهَر على خصمي . قالوا : أيّ شيء هي ؟ قال : " أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه " . فبلغ ذلك أحمد بن حنبل ، فجاء إليه فقال : " سبحان الله ما أعقَله " . فلمّا دخلوا عليه قالوا : يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا ؟ " . قال حاتم : يا أبا عبد الرحمن لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال : أن تغفر للقوم جهلهم ، وتمنع جهلك عنهم ، وتبذل لهم شيئك ، وتكون من شيئهم آيساً . فإذا كان هذا سلمت . ثمّ سار إلى المدينة . قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . ذكر بكلمة " إنّما " فتنفي العلم عمّن لا يخشى الله ، فلاحَ لعلماء الآخرة أن الطريق مسدودٌ إلى أنصبة المعارف ، ومقامات القرب إلا بالزهد والتقوى . … فبصفاء التقوى وكمال الزهد يصير العبد راسخاً في العلم . قال الواسطي : الراسخون في العلم هم الذين رسّخوا بأرواحهم في غيب الغيب ، وسرّ السر . فعرّفهم ما عرّفهم ، وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات فانكشف لهم من مدخور الخزائن … فنطقوا بالحكم " … … وقال الخزّاز : " هم الذين كملوا في جميع العلوم ، وعرفوها ، واطّلعوا على هِمم الخلائق أجمعين " . وهذا القول من أبي سعيد لا يعني به أن الراسخ في العلم ينبغي أن يقف على جزئيات العلوم ويكمل فيها … بل المراد إنّ المتّقي حقّ التقوى والخشية من الله ، صفا باطنه وانجلى مرآة قلبه ، ووقعت له محاذاة بشيء من اللوح المحفوظ . فادرك بصفاء الباطن أمهات العلوم وأصولها ، فيعلم منتهى همم العلماء في علومهم وغاية أقدامهم فيها … والعلوم الجزئية متجزّية في النفوس بالتعلّم والممارسة ، فلا يغنيه علمه الكلي من أن يراجع في الجزئي أهله ، الذين هم أوعيته ، فنفوس هؤلاء امتلأت من الجزئي واشتغلت به ، وانقطعت بالجزئي عن الكلي . والعالِم الربّاني بخلاف ذلك كما سبق ذكره وكل ميسّر لما خلق له . قيل للشبلي - رحمه الله - عند النزع : " قل : لا إله إلاّ الله " . فقال :