Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 49-49)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما قدّم تعالى ذكر نعمته على بني إسرائيل إجمالاً في قوله { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] . بيَّن بعد ذلك تفصيل تلك النعم ؛ ليكون أوقَع في التذكير ، وأبلغ في الحجّة عطفاً عليه ، كأنّه قال : " اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ أنجيناكم ، وإذ فرَقنا بكم البَحر " كعطف جبرائيل ، وميكائيل على الملائكة في قوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . والإنجاء والتنجية بمعنى واحد وهو التخليص . ولهذا قرئ : { وَأَنْجَيْنَاكُمْ } ويقال للمكان المرتفع : " نَجْوة " . لأنّ الصائر إليه ينجو من كثير من المضارّ ، ولأنّ المكان العالي بائنٌ مما انحطّ عنه ، فكأنّه متخلّص منه . وربما يفرق بينهما بأنّ الإنجاء يستعمل في الخلاص قبل وقوعه في المهلكة ، والتنجية يستعمل في الخلاص بعد وقوعه في المهلكة . وفي الكشاف : " أصل " آل " أهْل . ولذلك يصغّر بأُهيل - ابدل هاؤه ألِفاً - وخصَّ استعماله بأهل الخطر والشأن كالملوك وأشباههم . ولا يقال : آل الأسكاف والحجّام " . وحكى الكسائي : " اويل " فزعموا أنّها ابدلت ، كما قالوا : " هيهات " و " ايهات " . وقيل : " لا - بل هو أصلٌ بنفسه " . وقال علي بن عيسى : " الأهل أعم من الآل . يقال : أهل الكوفة . وأهل البلد . وأهل العلم . ولا يقال : آل الكوفة . وآل البلد . وآل العلم " . قال أبو عبيدة : " سمعت أعرابياً فصيحاً يقول : أهل مكة آل الله . فقلنا : ما تعني بذلك ؟ قال : أليسوا مسلمين ؟ المسلمون آل الله " . وقال ابن دريد : " آل كلّ شيء شخصه . وآل الرجل أهله وقرابته " . والظاهر الآل مأخوذ من الأوْل - وهو الرجوع - فكلّ من يَؤول إلى أحد بنسَبٍ أو قرابة جسمانيةٍ أو معنويّة فهو آله . وأهله : كلّ من يضمّه بيته . قال بعض الأفاضل : " آل النبي كلّ من يؤول إليه . وهم قسمان : الأوّل : من يؤول إليه مآلا صوريّاً جسمانيّاً ، كأولاده ومن يحذو حذوهم من أقاربه الصوريين ، الذي يحرم عليهم الصدقة . والثاني : من يؤول إليه مآلا معنويّاً روحانيّاً ، وهم أولاده الروحانيّون من العلماء الراسخين ، والأولياء الكاملين ، سواء سبقوا بالزمان أو لحقوه . ولا شكّ أنّ النسبة الثانية آكد من الأولى ، وإذا اجتمعت النسبتان كان نوراً على نور ، كما في الأئمة المشهورين من العترة الطاهرة - صلوات الله عليهم أجمعين - . وكما حرم على الأولاد الصوريّين الصدقة الصوريّة ، " حرم على الأولاد المعنويّين الصدقة المعنويّة ، أعني تقليد الغير في العلوم والمعارف " انتهى كلامه تلخيصاً . وآل الخيمة : عَمَده . وآل السفينة : ألواحه . وآل الجبل : أطرافه ونواحيه . وفِرعون : اسم لملِك العَمالِقة . كما يقال لملِك الروم : قيصر ، ولملِك القُرس : كِسرى ، ولملك التُرك : خاقان ، ولملك اليَمن : تبَّع . فهو على هذا بمعنى الصفة . ولعتوّهم اشتق منه " تَفرعَن الرجُل " إذا عَتى . ويقال لهم : الفراعنة . وقيل : إن اسم فرعون مصعب بن ريان ، وقيل : هو ابنه ، واسمه وليد ابن مصعب من بقايا عاد ، وفرعون يوسف : ريّان ، وكان بينهما أكثر من أربع مأة سنة . وقال وهب : " انهما واحد " وهو غير صحيح . وذكر ابن منبه : أنَّ أهل الكتابين قالوا : اسمه قابوس . وكان من القبط ، وربما ينسب إلى العلم ويسمّى " افلاطون القِبط " . وقال ابن اسحق : هو من أشدّ الفراعنة . { يَسُومُونَكُمْ } أي يبغونكم . من سامَه خسفاً إذا أولاه ظُلماً . وأصله من السوم ، وهو الذهاب إلى طلب السلعة . { سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } : أفظَعه ، فإنّه يقبح بالقياس إلى سائره ، وهو مصدر " ساء ، يسوء " . ونصبه على المفعول . والجملة حال من الضمير في { أَنْجَيْنَاكُمْ } أو من { آلِ فِرْعَونَ } لأنّ فيها ضمير كلّ منهما . واختلف أهل التفسير في العذاب الذي نجاهم الله تعالى منه ، فقال بعضهم : ما ذكر في الآية وهو قوله : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } بياناً لـ { يَسُومُونَكُمْ } ولهذا لم يعطف . وقال بعضهم : إنّه جعلهم خولا وخدماً ، وجعلهم في أعماله أصنافاً . فصنف كانوا يخدمونه ، وصنْف يحرثون له ، وصنْف يزرعون له ، ومن لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية . وكانوا مع ذلك يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ويدل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم : { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [ إبراهيم : 6 ] . فعطفه على ذلك دلالةٌ على التغاير . والمعنى : " يقتلون أبناءكم ويستبقون بناتَكم " أي يدعونهن أحياء ليستعبدن ، وينكحونهن على وجه الاسترقاق وهذا أشدّ من الذبح . وإنّما لم يقل : " بناتكم " لأنّه سمّاهن بالإسم الذي يؤول حالهن إليه . وقيل : إنّما قال { نِسَآءَكُمْ } على التغليب ، فإنّهم كانوا يستبقون الصغار والكبار منهن . وقرئ يذبحون - بالتخفيف - . وقيل : أراد بقوله : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } الرجال البالغين دون الأطفال ، ليكون في مقابلة النساء لأنّهن البالغات ، وذلك لأنّهم الذين يخاف منهم الخروج والتجمع دون الأطفال . وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال - دون الرجال - وهو أولى بوجوه من التأييد : لحمل اللفظ على ظاهره . وللشهرة . ولتعذّر قتل جميع الرجال على كثرتهم ، ولحاجة فرعون وقومه إليهم في صنائعهم الشاقّة الصعبة قال السدّي : كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة ، ككنْس المبرَز ، وعمل الطين ، ونحْت الجبال ولأنّه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى ( عليه السلام ) في التابوت حال صِغَره معنى . وأمّا وجه مقابلة الأبناء مع النساء فقد مرّت الإشارة إليه ، وهي أنَّ البنات لمّا لم يقتلن ، ووصلْن إلى حدّ النساء ، صحّ عليهنّ إطلاق النساء حقيقة ومجازاً ، باعتبار ما يؤلن . وأمّا البنين فلما قتلوا حال الطفولية ولم يبلغوا لم يصح إطلاق الرجال عليهم لا في الحال ، ولا بحسب المآل . فصل سبب قتل الأبناء ، وسرّه لا بدّ في قتل الأبناء من سبب صوريّ داعٍ لفرعون عليه - لأنّه كان من العقلاء والعاقل لا يختار شيئاًً إلاّ لمرجّح باعتقاده - ومن سبب حِكمي ، فإنّ الله تعالى لا يقضي بقتل طائفة إلاّ لحكمة : أمّا الأوّل فذكروا فيه وجوهاً : الأوّل : إنّ فرعون رأى في المنام كأن ناراً أقبلَت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل . فهالَه ذلك ودعا السحَرة والكهَنة ، فسألهم عن رؤياه . فقالوا : إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال مُلكك وتبديل دينك . فأمَر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل عن السدّي . الثاني : قول ابن عباس : إنّه وقع إلى فرعون وتبعته ما كان الله وعَد إبراهيم أن يجعل في ذريّته أنبياء ملوكاً . فخافوا واتّفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكَراً إلاّ ذبَحوه . فلمّا رأوا أن كبارَهم يموتون وصغارهم يُذبحون فخافوا الفناء ، فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقّة ، فصاروا يقتلون عاماً دون عام . فوُلد هارون في السَّنة التي لا يذبحون فيها فتُرك . وولد موسى في السَّنة التي يَذبحون فيها . الثالث : إنّ المنجمين أخبروا فرعون بذلك ، وعيّنوا له السَّنة ، فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السَّنة . وخير هذه الأقوال أوسطها ، لأنّ الذي يستفاد من علم التعبير ، وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصّلاً ، وإلاّ قدح في كون الإخبار عن الغيب معجِزاً . بل يكون أمراً مجملا تخمينياً . والظاهر من حال الرجل العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه . فإن قيل : إنّ فرعون - مع كُفره - كيف أقدم على هذا الأمر بسبب اخبار إبراهيم ( عليه السلام ) ؟ يقال : لعلّه كان عارفاً بالله ، وبصدق رسُله ، إلاّ انّه كان كافراً - كفرَ الجحود والعناد - أو كان شاكاً في دينه ، مجوّزاً لصدق ذلك ، ففعل ما فعَل احتياطاً . وأمّا الثاني : فقد أشار بعض أصحاب الكشف والمعرفة إلى هذه اللمّية بقوله في الفصّ الموسوي من كتابه المسمّى بفصوص الحكم : " حِكمةُ قَتل الأبناء من أجْل موسى ( عليه السلام ) ليعود إليه بالإمداد حياة كلّ من قُتل من أجْله ، لأنّه قُتل على أنّه موسى - وما ثَمَّ جهل - فلا بدّ أن تعود حياته إلى موسى ، أعني حياة المقتول من أجْله ، وهي حياة طاهرة على الفطرة ، لم تدنّسها الأغراض النفسيّة ، بل هي على فطرة " بَلى " ، فكان موسى مجموع حياة من قُتل على أنّه هو ، فكلّ ما كان مهيّئاً لذلك المقتول ممّا كان استعداد روحه له كان في موسى ( عليه السلام ) ، وهذا اختصاص إلهيّ بموسى لم يكن لأحد قبله " - انتهى كلامه - . واعلم أنَّ أرواح الكمّل من الأنبياء والأولياء كلّية لا بمعنى أنها مفهومات كلّية بل بمعنى أنّ كلاّ منها مع شخصيّته ووحدته ، له مقام جمعي ، يجمع شؤونات الأفراد ، لقوّة وجوده ، وكماله ، وتمامه ، فالوجود كلّما قرُب إلى الوحدة الجمعيّة الإلهيّة ، صار أكثر حيطةً ، وأجمع أعداداً ، كما أنَّ الإنسان الواحد له نفسٌ واحدة جامعة لجميع القُوى النباتيّة والحيوانيّة ، وذلك لأنّ وجودها أعلى مرتبة من وجود النفوس النباتيّة والحيوانيّة ، فيحيط بها ، ويستحفظها ، ويستخدمها . وكذلك حال أرواح الأنبياء بالقياس إلى أرواح أُممهم . فإذا وقَع في العالَم وباء ، أو موتان . أو قتل عام ، يحدث عند ذلك شخص عظيم من عظماء النبوّة ، أو المُلك ، أو الحِكمة ، لرجوع قُوى نفوسهم إلى قوّة نفس واحدة ، كما إذا وقع فساد في بعض القُوى الحسّاسة والمحركة في الإنسان ، يرجع قوّته إلى ما سواه من القُوى بالإمداد والجمعيّة ، بل الوجود كلّه من عين واحدة - يُجمع تارةً ويُنتشر أُخرى - . فهذه هي الحكمة التي ذكَروها في هذا المقام . قال الشيخ العطار : @ صد هزاران طفل سر ببريده شد تاكليم الله صاحب ديده شد @@ قال بعض المحقّقين : " اعلم أنّ التعينّات اللاحقة للوجود بعضها كلّية معنوية كالتعيّنات الأوليّة اللاَّحقة للوجود بحسب الفطرة الأولى ، وهي التي يتعيَّن بها أسماءُ الله الحُسنى أوّلاً ، سواء كانت جنسيّة أو نوعيّة ، وبعضها شخصيّة كتعيّنات الطبائع النوعية الواقعة بحسب الفطرة الثانية في عالَم الحركات ، وهي التي منشؤها اختلاف العوارض ، والاستعدادات اللاَّحقة للإعداد من جهة استعداد المواد . والتعيّنات الأوّلية تقتضي في عالَم الأرواح حقائق روحانيّة مجرّدة ، وطبائع كلّية ، وأوّلها وأقدَمها التعيّن الأوّل ، والمسمّى بالعقل الأول ، وامّ الكتاب والقلَم الأعلى ، والنور المحمّدي ، لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " أوّل ما خلَق الله العقل " وقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " أوّل ما خلَق الله نوري " . وهو يتفصّل بحسب التعيّنات والتنزّلات الأوّلية الروحانيّة إلى العقول السماوية ، والأرواح العلويّة ، والكرّوبيين ، وأرواح الكمّل من الأنبياء والأولياء ( عليهم السلام ) . فالعقل الأوّل تعيّن كلي ، يشمل جميع هذه التعيّنات ، التي كلّ منها أيضاً كليّ بالإضافة إلى ما دونها ، ويمدّها ويُفيض عليها النور والحياة ، وقياس احاطته الوجوديّة لتلك العقول والأرواح الكلّية ، كقياس الإحاطة العموميّة لجنس الأجناس بالنسبة إلى سائر الأجناس والأنواع التي تحته . وقد علمت أنَّ الكلّية في هذا المقام تُستعمل بمعنى آخر ، فلا تخلط ولا تخبط ، فإنّ الأرواح المتعيّنة بالتعيّنات الكلّية الأسمائيّة ، من المجردات العقلية ، والنفوس الملكيّة ، والفلكيّة ، والأرواح النبويّة ، ممدّات ومفيضات لِما تحتها من الأرواح الجزئيّة ، المتعيّنة بالتعيّنات البشريّة ، وحاكمة عليها ، وسائسة لها سياسة الأنبياء ( عليهم السلام ) أُممها . فنفوس الأَمم بالنسبة إليها كالقُوى الجسمانيّة ، والنفسانيّة ، بالنسبة إلى أرواحنا المدبّرة لأبداننا . وإذا تقرّر هذا فنقول : أرواح الأنبياء هي المتعيّنة بالتعيّنات الكلّية في الصفّ الأول ، وأرواح أُممهم - بل كثير من الملائكة والأرواح والنفوس الفلكيّة - كالقُوى ، والأعوان ، والخدم بالنسبة إليهم . ومن هذا يُعرف سجود الملائكة لآدم أبي البشر ( عليه السلام ) ، وسرّ طاعة الجن والإنس لسليمان ( عليه السلام ) ، وسرّ امداد الملائكة لمحمّد ( صلى الله عليه وآله ) في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } [ آل عمران : 124 ] . فعلى هذا كانت الأبناء الذي قُتلوا في زمان ولادة موسى ( عليه السلام ) ، هي الأرواح التي كانت تحت حيطة روح موسى ( عليه السلام ) ، وفي حكم أُمّته ، وأعوانه ، وخدمه . فلما أراد الله تعالى اظهار آيات الكلمة الموسويّة ، ومعجزاتها ، وحكمها ، وأحكامها ، قدّر الأسباب العِلوية والسِّفلية من الأوضاع الفلكيّة ، والحركات العلويّة ، المعدّة للموادّ السفليّة ، والامتزاجات العنصريّة ، وكان علماء القِبط ، وحكماؤهم ، أخبَروا فرعون وقومه ، أنّه يولد في هذا الزمان مولود من بني إسرائيل ، يكون هلاك فرعون ، وذهاب مُلكه على يده . فأمَر فرعون بقتل كلّ من يولد في هذا الزمان من الأبناء ، حذَراً ممّا قضى الله تعالى وقدّر ، ولم يعلم أن لا مردّ لقضائه ، ولا معقّب لحكمه . فكان ذلك سبباً لاجتماع تلك الأرواح في عالَمها ، وانضمامها إلى روح موسى ، وعدم تفريقها ، وانبثاثها عنه بالتعلّق البدني ، فيتقوّى بهم ، ويجتمع فيه خواصّهم . وكلّ ذلك اختصاص من الله لموسى ، فما ولد موسى إلاّ وهو مجموع أرواح كثيرة باتّصال تلك الأرواح متوجّهة إليه بمحبّتها ، ونوريّتها ، خادمة له ، ولهذا كان محبوباً إلى كلّ من يراه ، لنوريّته ، بتشعشع أنوار تلك الأرواح منه " انتهى كلامه . أقول : ولا يتوهمنّ أحد أنَّ المراد من هذا الكلام أنّ أرواح المواليد المقتولين انتقلت بعد القتل ، وصارت بعينها مجتمعة في عالَم الأرواح ، وحصَل من اجتماعها روح موسى ( عليه السلام ) - كما يوهمه ظاهر الكلام - فإنّ ذلك ليس بصحيح ، إذ الأرواح ليست كالأجسام - تقبل الافتراق والاجتماع - وأيضاً انتقالها من أبدانهم إلى بدن موسى ( عليه السلام ) يقتضي التناسخ ، وهو مستحيل عندنا . بل الغرض أنَّ القوّة النوريّة الفائضة من الله تعالى بوساطة الأسباب العلويّة ، المنبسطة على المواد ّالعنصريّة في كلّ زمان ، كأنّها مبلغ واحدٌ قوّة وشدّة ، لا كميّة ومقداراً . وهذه القوّة إذا صادفت قوابل كثيرة ، واستعدادات مختلفة متفنّنة ، انصرفت بإذن الله إليها ، وتفرّقت تفرّقاً معنويّاً حسب تفريق الموادّ الصالحة لها ، وإذا بطلت الموادّ الكثيرة ، ورجعت قواها ، وأرواحها الجزئية إلى عالَمها ومرجعها ، ثُمّ حصل في الوجود قابل صالح لفيَضان تلك القوّة النوريّة الوجوديّة ، انصرفت بكليّتها إليه ، فصارت القوّة الفائضة كأنّها مجموع تلك القُوى والأرواح ، لا أنّها هي هي بعينها من حيث هويّاتها المتعيّنة الشخصيّة وإلاّ لزم التناسخ كما علمت . فصل قوله تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } { بَلاۤءٌ } أي محنة ، إن اشير بـ " ذلكم " إلى صنيعهم مِن قتْل الأبناء ، واستحياء النساء ، لما في كلّ منهما من المحنة العظيمة . أو نعمة ، إن اشير به إلى الإنجاء من الله . وأصل البلاء الاختبار ، لكن لمّا كان اختبار الله عبادة تارةً بالمحنة ، وتارة بالمنحة ، أُطلق على كليهما . فالمراد من { بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ } إمّا بتسليط فرعون وقومه عليكم . وإمّا ببعث موسى وتوفيقه لتخليصكم بإيحاءِ الله إليه للإنجاء . و { عَظِيمٌ } صفةُ بلاء . وقيل : في هذه الآية تنبيه بليغ للعبد المؤمن على أنّ ما يصيبه من خير أو شرٍّ فهو اختبار من الله تعالى ، فعليه القيام بالشكر على مسارّه ، وبالصبر على مضارّه ، ليكون من خير المختبَرين ، وحاله أحسن الحسنين . وإيّاه والغرور بالمسارّ ، والشكاية من المضارّ ، ليكون شرّ المختبرين ، وحاله أقبح القبيحين .