Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 50-50)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذه هي النعمة الثانية من الله على بني إسرائيل ، المذكورة في هذا الموضع . قوله : { فَرَقْنَا } أي فَلقناه وفصَلنا بين أبعاضه حتّى حصلت فيه مسالك لكم ، إذ الفَرْق هو الفصل بين شيئين إذا كانت بينهما فُرجة ، والفِرْق : الطائفة من كلّ شيء ومن الماء إذا تفرّق بعضهُ عن بعض ، فكلّ طائفة من ذلك فِرْقٌ . ومنه قوله تعالى : { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] وقُرئ : إذ فَرَّقْنَا - بالتشديد - قال ابن جني : فرَّقنا أشدّ تفريقاً ن فَرَقنا . فمعنان : شقَقنا بكم البحر ، لأنّ المسالك كان إثنا عشر على عدد الأسباط . وقوله : { بِكُمْ } الباء إمّا للسببية الفاعليّة ، أي حصلت فيه فِرَقٌ ، ومسالك بسلوكهم فيه كما يُفرق بين الشيئين بما توسّط بينهما ، أو الغائيّة ، أي بسبب إنجائكم ولأجله . أو للملابسة ، ويكون في موضع الحال ، أي فرقناه متلبّساً بكم ، كقول الشاعر : @ " تَدوسُ بنا الجَماجمَ والتريبا " @@ أي : تدوسها ونحن راكِبوها . والنجاة : ضد الغرق ، كما أنّها ضدّ الهلاك . و " أغرق في الأمر " إذا جاوز الحدّ فيه . والمراد من { آلَ فِرْعَوْنَ } هو وقومه ، فاختصر لدلالة الكلام عليه ، لأنّ الغرض مبنيٌّ على إهلاك فرعون وقومه ، كقولك : " دخل جيشُ الأمير " . ويكون الظاهر أنَّه معهم . ويجوز أن يراد بآل فرعون شخصه ، كقوله تعالى : { آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } [ البقرة : 248 ] . يعني موسى ، وهارون . وقوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي تشاهدون غرقَهم ، وإطباق البحر عليهم . وهذا أبلغ في الشماتة ، وإظهار المعجزة ، أو انفلاق البحر عن طرُق يابسة مذلّلة . وقيل : جُثثهم التي قذَفها البحر إلى الساحل . وقيل : معناه ينظر بعضُكم بعضاً ، بحدوث الكُوى والروازن في فِرَق البحر . وقيل معناه : وانتم بمشهد ومنظر منهم ، حتّى لو نظرتم إليهم لأمكنكم ذلك . وهو قول الزجّاج . ولا يخفى ضعفه ، إذ لم يكن لأصحاب موسى ( عليه السلام ) ما يشغلهم عن الرؤية ، فإنّهم قد جاوزوا البحر ، وأقوال المفسّرين متظاهرة على أنّهم رأوا انفراق البحر ، والتطام أمواجه بآل فرعون حتّى غرقوا . فلا وجْه للعدول عن الظاهر . قصّة غرق فرعون والقصّة - كما روي عن ابن عبّاس : إنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر . فسرى بهم ليلاً ، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث . وكان موسى في ستمأة ألف وعشرين ألفاً . فلمَّا عاينَهم فرعون قال : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } [ الشعراء : 54 - 56 ] . فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجَموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برهج دوابّ فرعون فقالوا : " يا موسى { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه " . فقال موسى ( عليه السلام ) : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] . فقال له يوشع بن نون : " بِمَ امرت " ؟ قال : " امرتُ ان أضربَ بعصاي البحر " قال : " إضرب " . وكان الله تعالى أوحى إلى البحر " أن أطِع موسى إذا ضرَبك " قال : فباتَ البحرُ أفكَل - أي رَعِدة - لا يدري في أيّ جوانبه يضربه . فضرب بعصاه البحر فانفلَق . وظهر اثنا عشر طريقاً ، لكلّ سبط منهم طريق . فقالوا : " إنّا لا نَسْلك نديّاً " فأرسل الله ريح الصبا حتى جفّفت الطريق ، كما قال تعالى : { فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً } [ طه : 77 ] . فجَروا فيه . فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض " مالنا لا نرى أصحابنا " فقالوا لموسى : " أيْن أصحابنا " ؟ فقال : " في طريق مثل طريقكم " فقالوا : " لا نَرضى حتّى نراهم " فقال موسى ( عليه السلام ) : " اللهم أعِنّي على أخلاقهم السيّئة " . فأوحى الله إليه أن أشِر بعصاك هكذا وهكذا - يميناً وشمالاً - فأشار بعصاه يميناً وشمالاً ، فظهر كالكُوى ينظر منها بعضهم إلى بعض . فلما انتهى فرعون إلى ساحل البحر - وكان على فرس حصان أدهم - فهابَ دخولَ الماء ، تمثّل له جبرائيل على فرس انثى وديق ، وتقحّم البحر . فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها ، ثمّ تقحّم قوم فرعون ، فلما خرجَ آخر من كان مع موسى من البحر ودخل آخر مَن كان مع فرعون البحر ، أطبَق الله عليهم الماء فغرقوا جميعاً ، ونجا موسى ومن معه . فصل اعلم أنّ هذه القصّة قد تضمّنت نعماً كثيرة دنيويّة ودينيّة ، والدينيّة في حقّ قوم موسى ، وقوم محمّد صلى الله عليهما وآلهما . أمّا الدنيويّة لهم : فمنها : نجاتهم عن الغرق ، وإهلاك عدوّهم وقومه . ومنها : اختصاصهم بهذه المعجزة الباهرة ، والكرامة الظاهرة . ومنها : استئصال عدوّهم من جهتهم . وأصل الخلاص من مثل هذا البلاء نعمة عظيمة ، فكيف إذا قورن بالإكرام العظيم وإهلاك العدوّ . ومنها : أن أورثَهم أرضَهم ، وديارَهم ، ونعمَهم ، وأموالَهم . ومنها : أنه كما غرَق العدوّ وهلك ، غرق آله جميعاً وهلكوا ، وإلاّ لكان الخوف بعد باقياً من حيث إنّهم ربما اجتمعوا ، واحتالوا بحيلة وقع منها الضرر بهؤلاء ، ولكن لما أهلكم الله جميعاً فقد حسَم مادّة الخوف بالكلّية . ومنها : أنّه وقع ذلك بمحضر من الأولياء والأعداء جميعاً ، حتى لا يخفى على أحد منهم ، وهذا يوجب ابتهاجاً عظيماً ، وإليه الإشارة بقوله : { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } إلى غير ذلك من النعم الدنيويّة . وأمّا النعم الدينيّة في حق قوم موسى عليه السلام : فمنها : أنّهم لما شاهَدوا تلك المعجزة الباهرة حصَل لهم العلم الضروري على وجود الصانع الحكيم ، وعلى صدق موسى ( عليه السلام ) ، وزالَت عنهم الشكوك ، فكأنّه تعالى رفع عنهم كُلفة النظر الدقيق ، والاستدلال الشاقّ . ومنها : أنّهم لمّا عاينُوا ذلك لزمهم الانقياد والطاعة لموسى ( عليه السلام ) وقبول قوله ، ولهم في ذلك سعادة الدارين . ومنها : عرفوا أنَّ الأمور كلّها جارية على قضاء الله وقدره ، فإنّه لا عزّة في الدنيا أكمل من عزّة فرعون ، ولا شدّة أشدّ مما كانت لبني إسرائيل ، ثمّ الله تعالى قلَّب الأمْر في ساعة واحدة ، فجعل العزيز ذليلا ، والذليل عزيزاً ، وذلك يوجب انقطاع القلب عما سوى الله ، والاقبال بالكليّة إلى خدمته ، وطاعته ، والتوكّل عليه . وأمّا النعم الحاصلة لهذه الأمّة المرحومة منها فكثيرة : أحدها : أنّها جاءت حجَّة لنا على أهل الكتاب ، لأنّه كان معلوماً من حال نبيّنا أنه كان اميّاً لم يقرأ ولم يكتب . فإذا أخبرهم بما لا يعلم إلاّ من الكتب علموا أنه أخبرَ عن الوحي ، فصار دينه حقّاً . وثانيها : أنّا إذا تصوّرنا ما جرَى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أنَّ من أطاع الله فقد سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفَه فقد استحقّ غضب الله عليه في الدنيا والآخرة ، فصار ذلك مقرّباً لنا من الطاعة ومبعِّداً عن المعصية . وثالثها : أنّ أمّة موسى ( عليه السلام ) مع هذه المعجزات الباهرة ، والكرامات المحسوسة الظاهرة ، خالَفوه في أمور حتّى قالوا له : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] وأمّا هذه الأمّة فمع كون معجزتهم هي القرآن الذي خفي اعجازه ، ولا يظهر إلاّ بالنظر الدقيق انقادوا للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في كلّ الأحكام ، وما خالَفوه في شيء البتّة ، وهذا يدلّ على أنّهم أفضل من أمّة موسى ( عليه السلام ) . وبهذا يخرج الجواب عن اشكال ربما خطَر بالبال ، وهو أن يقال : كيف لم يعط الله تعالى نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) مثلَ ما أعطى موسى ( عليه السلام ) من الآيات الباهرات ، لتكون الحجَّة أظهَر ، والشبهة أسقَط ؟ لأنّا نجيب : بأنّ الله أعطى كلَّ نبيٍ معجزة مناسبةً لقومه وعلى حسب صلاح حالهم ، فنصب الأعلام الباهرة ، والمعجزات القاهرة لاستصلاح أمّة موسى ( عليه السلام ) ، وقد كان في قومه من فَظاظة القلب ، وبَلادة النفْس ، وكَلالة الحدس ، ما لم يمكنهم معه الاستدلال بالآيات الخفيّة ، والبراهين العقليّة . ألا ترى أنَّهم لما عبَروا النهر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، قالوا - بعد ما شاهَدوا من هذه الآيات - : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] . وكان في العرب والعجَم من أمّة نبيِّنا ( صلى الله عليه وآله ) مِن جَودة القريحة ، وحدّة الفِطنة ، وذَكاء الذهن ، ما كان يمكنهم معه الاستدلال بالفكر ، واقتناص الحقائق بالنظر الدقيق ، والتفطُّن بما يحتاج إلى التأمل والتدبّر ، والاستفادة بنور العقل الفعّال في ملاحظة الآيات ، فجاءت آياتُهم مشاكلة لقرائحهم المتوقّدة ، ومجانسة لأذهانهم من الدقّة والحدّة . على أنّ في جميعها من الحجّة الظاهرة ، والبيّنة الزاهرة ما ينفي خِلاج الشكّ عن قلب الناظر المُستبين ، ويُفضي به إلى فضاء العلم اليقين ، ويوضح له مناهج الصدق ، ويولِجه موالِج الحقِّ ، وما يستوي الأعمى والبصير . ولا ينبّئك مثل خبير . فصل سؤالٌ آخر : وهو إنّ فرعون - كما هو المشهور - كان من أهل الفكر والبحث ، وقد لقّب بـ " أفلاطون القِبط " فلمّا شاهَد فلَقَ البحر - وكان من العقلاء - فلا بدّ وأن يعلم أنّ ذلك من فعْل الله ، ومن فعْل عالِمٍ قادرٍ لما يشاء ، مخالفٍ لسائر القادرين ، فكيف بقيَ على الكفر مع ذلك ؟ وأُجيب : بأنّه كان عارفاً بربِّه ، إلا أنّه كان كافراً على سبيل الجحود والعِناد . ورُدَّ بأنّه إذا عرف ذلك بقلبه ، فكيف استجاز تورّط نفسه في الهلاك واقتحم البحر ؟ ! وأجيب : بأنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ، فحبّه للجاه والتلبيس ، حملَه على اقتحام تلك المهلكة . وهذا الجواب ليس بشيء . والأولى أن يقال : إنّ اقتحام البحر لم يكن باختياره ، بل وقع ذلك باقتحام حِصانه الذي ركبه ، كما مرّ في القصّة . أو يقال : إنّه لم يجزم بهلاك نفسه عند دخوله في البحر حتى إذا أدركه الغرق ، ولهذا قال عند الغرق : { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 90 ] . إيمان فرعون مقبولٌ ، أم لا ؟ واعلم أنَّه للعلماء خلاف في أنّ إيمان فرعون حين موته مقبولٌ أم لا ؟ فذهب بعض المحقّقين على الأوّل ، والأكثر على الثاني كما هو المشهور . وقال الشيخ ابن عربي في الباب السابع والستّين ومأة من الفتوحات : " لمّا حالَ الغرقُ بينَه وبين أطماعه ، لَجأ إلى ما كان مستسراً في باطنه من الذلّة والافتقار … فقال : آمَنْتُ بالَّذِي آمنَتْ به بَنُو إسرَائيل وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ كما قالت السحرة { آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [ الشعراء : 47 - 48 ] . وقوله : { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } خطابٌ منه للحقّ ، لعلمه أنّه تعالى يَسمعه ويَراه ، فخاطَبه الحقُّ بلسان العتب ، وأسمَعه { آلآنَ } أظهرتَ ما كنتَ تعلَمه { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] في اتّباعك . وما قال له : { وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } فهي كلمةُ بُشرى له عرّفنا بها ؛ لنرجو رحمتَه مع اسرافنا واجرامنا ، ثمّ قال { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [ يونس : 92 ] فبشّره قبل قبض روحه { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [ يونس : 92 ] يعني : لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية علامة إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثلما كانت لك . وليس في الآية أنَّ بأس الآخرة لا يُرتفع ، ولا أنّ إيمانَه لم يقبل وإنّما في الآية أنّ بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزَل به إذا آمن في حال رؤيته إلاّ قوم يونُس . فقوله : { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } [ يونس : 92 ] إذ العذاب لا يتعلّق إلا بظاهرك ، وقد أريت الخلْق نجاته من العذاب ، فكان ابتداء الغرق عذاباً ، فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخلّلها معصية ، فقبضت على أفضل عملٍ ، وهو التلفُّظ بالإيمان - كل ذلك - حتّى لا يقنط أحدٌ من رحمة الله . والأعمال بالخواتيم . فلم يزل الإيمان بالله يَجولُ في باطِنه ، وقد حالَ الطابعُ الإلهي الذاتيّ في الخلْق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية ، فلم يدخلها قطّ كبرياء . وأمّا قوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] فكلامٌ محقّق في غاية الوضوح ، فإنّ النافعَ هو الله ، فما نفعَهم إلا الله . وقوله : { سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [ غافر : 85 ] . يعني الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد . وقد قال تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] فغاية هذا الإيمان أن يكون كَرهاً ، وقد أضافَه الحقّ إليه . والكراهة محلُّها القلب ، والإيمان محلّه القلب . والله لا يأخذ العباد بالأعمال الشاقّة عليه من حيث ما يجده من المشقّة فيها ، بل يضاعف له فيها الأجر . وأمّا في هذا الموطن ، فالمشقّة فيه بعيدةٌ ، بل جاء طَوعاً في إيمانه ، وما عاشَ بعد ذلك كما قال في راكب البحر عند ارتجاجه { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . فنجّاهم ، فلو قبضَهم عند نجاتهم لمَاتُوا موحّدين وقد حصلت لهم النجاة ، فقبَض فرعون ولم يؤخّر في أجَله في حال إيمانه لئلاّ يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى . وأمّا قوله تعالى : { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } [ هود : 98 ] . فما فيه نصٌّ أنّه يدخلها معهم ، بل قال : { أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ولم يقل : " أدخلوا فرعونَ وآلهِ " ، ورحمةُ الله أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطرّ إذا دعاه . وأيّ اضطرار أعظم من اضطرار فرعون حالَ الغرق ، والله يقول : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } [ النمل : 62 ] . وهذا آمَن بالله خالصاً ، وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفاً من العوارض ، أو يحال بينه وبين هذا الإخلاص ، فرجّح جانب لقاء الله على البقاء بالتلفّظ بالإيمان ، وجعَل ذلك الغرقَ نَكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابُه أكثر من غمّ الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة . هذا ما يعطي ظاهرُ اللفظ . وهذا معنى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } [ النازعات : 26 ] . يعني في أخْذه نَكال الآخرة والأولى . وقدّم ذكْر الآخرة ليعلم أنَّ ذلك العذاب - أي الغرق - نُكال الآخرة ، وهذا هو الفضل العظيم " انتهى كلامه . ويفوحُ من هذا الكلام رائحةُ الصدق ، وقد صدَر من مشكاة التحقيق ، وموضع القُرب والولاية . تنبيه قد ذُكر هاهنا إشكال : وهو أنّ فلَقَ البحر بضرب عصا من موسى ( عليه السلام ) والدلالة على وجود الصانع وقدرته كالأمر الضروريّ ، فكيف يجوز فعلُه في زمان التكليف ؟ والجواب : أمّا على طريقة الأشاعرة فظاهر . وأمّا على طريقة المعتزلة : فقد أجابَ الكعبي بأنّ عامّة بني إسرائيل كانتْ بعيدة العهد عن الفطنة والذَّكاء ، ممنوّةً بالبَلادة ، والفَظاظة ، وقُصور الفهْم . فلا جرم احتاجوا في التنبُّه على حقيَّة الإيمان بالله ، ورسله ، إلى معاينة الآيات العظام ، كفلَق البحْر ، ورفْع الطور فوقهم ، وإحياء الموتى . ألا ترى أنهم مع ذلك لم يقنعوا بهذه الدلائل الباهرة ، فتارةً قالوا : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] . وتارة قالوا : { يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] . وأخرى : { ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } [ النساء : 153 ] . إلهاً لهم . وأُخرى : { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [ البقرة : 61 ] . كلّ ذلك لغلبة الكثافة على طبائعهم ، والغشاوة على بصائرهم ، والطبع والرَّين على قلوبهم . وأمّا هذه الأمّة فلذَكاء عقولِهم ، وصَفاء قلوبِهم ، كانوا على خلاف ذلك ، فلا جرم وقعَ الاقتصار معهم على الآيات الدقيقة ، والمعجزات العقليّة . وأمّا على طريقتنا فنقول : ليس في فلَق البحر ، وقلب العصاء حيَّة ، وما يجري مجراهما ، زيادة على الدلالة على صدق موسى ( عليه السلام ) في جميع ما يدّعيه ، من إثبات الإله الحقّ ، وادّعاء النبوة ، وغير ذلك بالدليل العقلي ، وأمّا كون ذلك من الضروريّات التي لا حاجة معها إلى البرهان النيّر العقلي فغير مسلّم ، كيف وقد ثبَت في علم الميزان : " إنّ المحسوس - بما هو محسوس - لا يكون كاسِباً لشيء ولا مؤدّياً إلى مطلوب " فليس من المحسوس حدٌّ لشيء ، ولا برهان على شيء ، كما ليس له حدّ ولا عليه برهان . وهذا أمرٌ محقَّق عند أئمَّة الحكمة والتحقيق ، ولذا قال بعض : " الدين الحاصل بالمعجزة دين اللئام " ، وحاشا المؤمن المتيقّن أن يكون بناء إيمانه ويقينه على رؤية المعجزة الفعليّة من الرسول . بل بناء ذلك على البرهان العقلي ، أو الشهود الباطني الذي لا يعتريه وصْمةُ شكّ ، وشوبُ ريبٍ . وأمّا انفلاق البحر وغيره فممّا للشبهة فيه مجالٌ - كما لا يخفى على أهل البحث - . ثمّ إنّ العلم الضروري ، والكشف الحاصل للإنسان يوم القيامة ، نحو آخر من العلم لم يحصل مثله من انفلاق البحر وغيره ، لأنّ ذلك مما يحصل برؤية الأسباب والعلل . ومشاهدتها وظهور الأسباب بأعيانها ليس مثل العلْم بها من جهة آثارها .